أجلس علي مقعدي المكسو بالقطيفة الحمراء، أخرج علبة سجائري . ألتقط إحداها أشعلها وأقبض علي فنجان قهوتي . أنظر في المرآة التي تواجهني بارتفاع الجدار أري وجها يحدق في! تنهدت .. صعد لهيب حارق من صدري إلي وجه المرآة، فبدا الوجه طيفا متلاشيا علي سطحها . أرتدي ثوب الحيرة لا أجد جوابا لأطنان من الأسئلة تجثم علي صدري تكتم أنفاسي وأنا ألهث خلفها بحثا عن الإجابات. عبثا لا أصل إلا لمزيد من الأسئلة. هل أظل قابعة علي هذا المقعد، إنتظارا للرحيل دون تذكرة ولا متاع ولا وداع؟ من سيودعني؟ لم يبق لي من مودعين فقد كان لهم سبق الرحيل سواء من كان يصغرني أو يكبرني. أدقق النظر في المرآة ....أسترجع الوجوه؟ أقارنها بصورة هذه المرأة، أين ذهب ؟ ومتي ؟ للأسف المرايا لا تحتفظ بالوجوه .. لو أن لها ذاكرة! لو تصبح شاشة عرض؟ لم يبق أمامي غير صورة هذه المرأة الغريبة. أتفحصها طويلا ..تنتابني رعشة شديدة يتلبسني الخوف كلما تذكرت تحذيرات أمي ، لا تنظري في المرآة طويلا . أدير وجهي بسرعة أرتشف رشفة .. أنظر داخل الفنجان. أراها أمامي تتبختر .. أتأملها ، جميلة في ريعان شبابها ، خطفها الحب من نفسها ،هاهي قد استسلمت لقوي خارقة تجاوزت قدراتها وكبرياءها مسكينة....لن تستطيع الفرار لقد أمسك بتلابيبها . أرفع وجهي ...أنظر في المرآة يطالعني الوجه الذي امتلأ بالأخاديد والخطوط! معظم ضروسها قد خلع. شعرها خف وظهر جلد رأسها من بين طياته ، رموشها في رحيل لابد أنها تفرط في التدخين وانا أتساءل لماذا تصر هذه المرأة علي ارتداء هذا القناع ليست هي ...لم أعرفها. أرتشف رشفة أخري من فنجاني تغمرني الدهشة هاهي أراها بوضوح لا تسير علي الأرض ...إنها تطير إلي أعلي عيونها أكثر بريقا بشرتها متوردة ناعمة ...تدخل قصرا أسطوريا تسمع صوته يناديها ، تشم رائحته لكنها لاتراه . تدخل الحجرة تبحث عنه ...تفتح النافذة فتمتلئ الحجرة برائحة زهور البرتقال تمد يدها تمسح علي أوراقها في حنو بالغ. تفتح دولابه تخرج ملابسه تحتضنها تنظر إلي خاتم زواجها لقد أصر ان يحفر عليه اسميهما إلي الأبد. لماذا لا تراه .... إلي الأبد أي أبد...أين ذهب ؟ هل رحل ؟وإلي أين رحل ؟ تنهمر دموعها تسقط داخل الفنجان فتحفر مجري رفيعا مخترقة بقايا البن في قاع الفنجان. لكنها تحس بالمياه تتخلل القصر من كل مكان تعلو المياه وتغمر القصر حتي كادت تغرق ....يصيبها الهلع . تنطلق بجناحيها طائرة من إحدي النوافذ ، ثم تحط فوق قمة جبل يعصمها من الغرق. تسمع صوته يستغيث بها طالبا أن ترخي جدائلها الطوال ليتسلقها وتنقذه من الغرق والاحتضار ، تلبي النداء ترخي جدائلها فيصعد إليها ، وحين يصل الي القمة تفتح زراعيها لاحتضانه ...فلا تحتضن إلا الريح وتسمع صوت سقوطه وارتطامه بالأرض ، فتندفع مهرولة للسفح تبحث عنه فلا تجد له أثرا ، تنظر إلي أعلي تري القمر مضيئا ومكتملا . اكتمل القمر ، ينظر لي ...يتتبعني .. أجري يجري خلفي .. أتوقف يتوقف معي يصاحبني اينما توجهت. أجري .. ألهث ، تتتابع أنفاسي . تتصاعد دقات قلبي .أجلس لأستريح خلف شجرة الكافور العتيدة كي ألتقط أنفاسي أختبئ من القمر الذي مازال يلاحقني . ماذا يريد مني ؟ يتواري القمر ....تظهر أشعة الشمس في استحياء ..أنظر للشجرة .. أري الحمامة البيضاء التي أحبها ... تحط فوقها حينما رأتني ارتدت قناع غراب أسود كئيب، حتي أنت ياحمامة ارتديت هذا القناع؟ إذ هي تحتضر . لا بد أن أجلس علي رأسها وأمسك بالكتاب وأتلو لها بعض آياته حتي تسلم الروح . انتهت سيجارتي وأحرقت أصابعي فألقيت بها داخل فنجان القهوة. رفعت عيني إلي المرآة لم أجد معي غيرها هذه المرأة ذات القناع المخيف ، تنظر لي في تحد سافر ، تضحك ضحكة ساخرة مخيفة فتكشف عن فم كاد يخلو من الضروس والأسنان ..ترفع سبابتها في وجهي ، تتوعدني ، تهددني تقترب مني حتي كادت إصبعها تفقأ عيني . حتي مقعدي المكسو بالقطيفة الحمراء استولت عليه . لن أستسلم . أمسكت بعصاي التي أتكئ عليها فامسكت هي الأخري بعصاتها لكني كنت أنا الأقوي والأسرع وأوسعتها ضربا حتي تهشمت .