يحلو لكثيرين التساؤل، عن جدوي الكتب وعن مدي قدرتها علي التغيير، يتشعب السؤال إلي أسئلة فرعية عديدة منبثقة منه، وتتنوع الأجوبة عليه ما بين تعظيم لأهمية الكلمة المكتوبة وبين كفر بها وإنكار لدورها. قدرة الكلمات والأفكار (وبالتالي الكتب) علي التغيير لا يمكن إنكارها، خاصة إذا تذكرنا تأثير الكتب المقدسة والتحولات التاريخية الكبري التي تسببت بها وأدت إليها. وبعيداً عن تأثير النصوص المقدسة، ثمة كتب لعبت دوراً كبيراً في إحداث تحولات كبيرة في العالم وإعادة تشكيل رؤية الناس له، تحضرني هنا علي سبيل المثال لا الحصر كتابات كارل ماركس وسيجموند فرويد، "أصل الأنواع" لداروين، أفكار أفلاطون والأثر الذي تركته علي الفلسفة الأوروبية الحديثة. قد تطول القائمة أو تقصر، وقد تختلف مبررات الاختيار من شخص لآخر، لكن ماذا عن الأدب؟ هل يملك القوة نفسها ؟ لطالما سخرنا من تبجح من يزعمون أنهم "يكتبون ليغيروا العالم"، ورأينا في جمل مماثلة الكثير من الإدعاء والغرور، ليس بالضرورة عن كفر بالكلمات أو يأس من جدواها، إنما بالأساس لأنه ليس مطلوباً من الأدب أن يؤدي إلي تغييرات اجتماعية وسياسية مباشرة، يكفيه أن يكون مخلصاً لقيمه الفنية والجمالية ووممتعاً لقارئه محفزاً عقله علي التفكير والشك والتساؤل. وسواء قصد الكاتب أم لا، للأدب الجيد طريقته الخاصة في التغيير والتأثير، حتي ولو ببطء وبطريقة غير مباشرة وعلي نحو فردي. فالأدب بإمكانه تغيير طريقة تفكير القارئ الفرد، وإعادة تشكيل الكيفية التي يري بها العالم من حوله ويتفاعل بها معه. في مذكراته المعنونة ب"تقشير البصلة" حكي الروائي الألماني جونتر جراس بأسي عن أن قراءته لرواية إريش ماريا ريمارك "كل شيء هادئ علي الجبهة الغربية" وتأثره بها لم يمنعاه من الحلم بالمشاركة في الحرب كجندي؛ الحرب التي تحوِّل الجنود إلي قتلة وفقاً لريمارك. كتب جراس عن أن الرواية وكاتبها ظلا يذكرانه بمدي ضآلة تأثير الأدب، لكن مواضع أخري في المذكرات - التي ترجمها للعربية عدنان حسن ونشرتها دار دال تخبرنا كيف لعبت قراءات جراس الطفل ثم الشاب دوراً جوهرياً في أن يصير الإنسان الذي كانه والكاتب الذي عرفناه. فيما يخص الأدب، يروق لي التخلي عن مفردة "التغيير" لصالح مفردتيّ "التأثير والأثر"، إذ أراهما أكثر تعبيراً عن الآلية التي نتفاعل بها ما نقرأه وأكثر قرباً لطموح منتجي الأدب أنفسهم. فمهما زعم هذا الكاتب أو ذاك أنه غير عابئ بعملية تلقي أعماله أو غير مشغول بالقراء، أجازف بقول إنه لا يوجد كاتب لا يطمح في أن تترك كتاباته تأثيراً ما حتي ولو علي قلة قليلة، بل حتي ولو علي قارئ واحد. غير بعيد عن هذا السياق، تري الروائية والصحفية الأمريكية جوان ديديون الكتابة كفعل هجومي بل عدواني، فعبر كلماته المكتوبة يسعي الكاتب لفرض رؤيته الخاصة علي القارئ ويحاول اختراق مساحته الأشد خصوصة. بالنسبة لديديون الكتابة تتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب علي الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، إنظر بعينيّ، غيَّر رأيك!" ومن جهتها تؤمن الباحثة والكاتبة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي أن الكتابة هي فن إغواء؛ إغواء عقلي أدواته اللغة والأفكار. لأول وهلة، قد تبدو رؤيتا المرنيسي وديديون للكتابة علي طرفي النقيض، غير أنهما تلتقيان في الجوهر، ففي القلب من كليهما نجد ذلك التعطش للتأثير علي القارئ وترك أثر بداخله. م. ع