"الفشل في النوم مع السيدة نون" هي الرواية الثالثة للكاتب ممدوح رزق، ومنذ كتاباته الأولي نستشعر خصوصية، ونستشعر تفوقاً، وقدرة متميزة، تضعه في المصاف الأولي للكتابة العربية اليوم، وفي هذه الرواية وصلت قدرات الكاتب إلي أقصي ما يمكن أن تعطيه، من حيث التفرد التقنوي، والرؤيوي، من جهة، ومن حيث هذا التمرد الساحق الذي يشبه السيل المتدافع الذي لايبقي ولايذر، يحطم كل شيء أمامه، ويرفض الكاتب كل مستتب، ويرفض حتي وجود صورته مع أمه داخل البرواز التقليدي للصور الفوتوغرافية، فيوافق علي الفور علي تصميم المخرج الفني للرواية عندما وضع الصورة خارج البرواز في الغلاف الأمامي للرواية. لقد تحولت كتابته إلي حياة انتقامية، كما يقول المؤلف نفسه في أحد الحوارات التي أجريت معه، إنه انتقام من الذات ومن الأسرة ومن الوسط الثقافي ومن المجتمع كله، ومن ظروف الخلل العربي الاجتماعي والسياسي الذي نعيشه جميعاً، ينتقم فيه من كل المحبطات التي أعاقته، وأعاقت أبناء جيله، وأعاقت البشر في كل مكان، إنها سيرة فضائحية، تقدم صورة تفصيلية لواقعنا الفعلي، ثم تقدم الرفض المتمرد ضده، من خلال سيل عارم من السخرية والمواجهة الصريحة، واغتيال قدسية الجسد (كما يقول المؤلف)، وكسر طوق الصمت الجنسي، وكشف كل مايتم التستر عليه، أو إخفاؤه، أو إرجاء مناقشته. وتاريخنا العربي والإسلامي مليء بالمناقشات الفكرية الراقية حول الجنس، وكافة القضايا التي تعد اليوم مخجلة، وغير مشجعة علي الخوض فيها، وبالتأكيد هناك مشكلات خطيرة ستواجه الكاتب، أهمها أن قطاعاً من جمهور المتلقين، وخصوصاً أولئك الذين تعودوا أن يكون معني الكتابة لديهم هو تكرار مايعرفون، علي الرغم من أن المفهوم الحقيقي للكتابة هو إضافة مالم يكن معروفاً، والخروج إلي مناطق جديدة في العقل والوعي، هذا القطاع من الجمهور، سيعادي هذا النوع من الكتابة عداء شديداً بالطبع، لأن التمرد الساحق العنيف في الرواية لايتواني عن ذكر الممارسات المرضية والشاذة لهذا المريض النفسي، بل وتستخدم الرواية الألفاظ العامية في الجنس وفي السب والشتيمة بلهجة يعتبرها المجتمع بذيئة، بل يمكن أن تمر الرواية علي قضايا انتهاك المحارم ووصف جسد الأم، بالإضافة إلي الجنون الجنسي المتصل الشبيه بالهوس، والذي يمكن أن يطرح مثلاً أسماء مواقع بورنو متعددة، ووصف ما تقدمه هذه المواقع. مما يمكن أن يبرر مضمونياً علي أنه وصف لحالة المريض النفسي، ولكن الحقيقة الروائية سوف تتجاوز هذا بكثير، لأن العمل الروائي بكليته هو طرح لهذا التمرد العنيف. وقد تعمدت أن أطالع تعقيبات بعض الجمهور في بعض مواقع الإنترنت، فوجدتها تنقسم قسمة حادة بين متحمسين لهذه الكتابة حماساً شديداً من ناحية، ومعادين علي طول الخط من جهة أخري، فرأي أحد القراء علي سبيل المثال أن هذه الرواية ليست سوي نموذج للعمل الذي كتب فقط لإحداث ضجة إعلامية، ولا أكثر من هذا، وأن أسلوب الكاتب يعتمد علي استفزاز القارئ، وتصور في النهاية أنه لا يوجد مضمون يمكن أن نستفيد منه، والحقيقة أن الكتاب صدر دون أن يحدث هذه الضجة الإعلامية التي تصورها هذا القارئ، وعندما قال إنه لا يوجد مضمون، فقد كان يقصد مضموناً معيناً لايوجد في أي مكان سوي في ذهنه هو، لأن الرواية تفيض بالمضامين العنيفة المتمردة التي تدفع القارئ لإعادة النظر في كل شيء من حوله. وبالفعل من الصعب أن يكون للرواية مضمون واحد، فكل عين تقرأ النص ستخرج بتصور عن مضمون مختلف، بل إن العين الواحدة ستتعدد لديها المضامين مع كل قراءة جديدة، بل يمكن أن نقول أن المضامين يمكن أن تتعدد في أثناء القراءة الواحدة، ولايمكن أن يكون هناك مضمون واحد يمكن أن نمسك به، أو (نقفشه) لنحاكمه.
تطرح الرواية الحالة المرضية العنيفة للمريض النفسي، وهي حالة الخيبات والمشاكل الجنسية التي تراكمت منذ الطفولة حتي وصلت به إلي الفشل مع السيدة (نون). وتطرح حالة الطبيب النفسي، وهي حالة الفشل أيضاً، فقد فشل كطبيب في معالجة مريضه الأقوي شخصية منه، وعلم النفس برمته سيفشل في معرفة حياتنا الجديدة، في زمن (مابعد علم النفس)، ومن الواضح إذن أنهما (المريض والطبيب) وجها عملة واحدة، بدليل بسيط هو أن الرواية منقسمة بالتوالي بين هذين الصوتين، (فصل للمريض، ثم فصل للطبيب، علي التوالي) وهذا الانفصام يمكن أن يمثل حالنا الإنساني جميعاً في الظروف التي نعيشها الآن. الجنس هو المحور الرئيسي في هذه الكتابة، وهو محور عدد كبير من الكتابات الأدبية والدراسات المنشورة اليوم، وهناك علي المستوي العربي كله دراسات عديدة حول مفاهيم الذكورة والمخيلة والاستعمار والصحة الجنسية، والحقائق المعيشة، كمدخل للبحث في أسلوب متابعة الأفراد والجماعات للدساتير الجنسية المتنافرة والمستندات الثقافية، ولانعكاسات الهويات المجنسة الجديدة علي المستويين العام والخاص، داخل الحياة التاريخية واليومية للمنطقة ().
لقد اتجهت دراسات كثيرة إلي مناقشة وإعادة قراءة مفهوم الجنس بعد تحريره من الاختزال البيولوجي، لأن تاريخ الجنس يشكل بناء اجتماعياً تاريخياً، يؤكد هذا التداخل بين البيولوجي والنفسي والسوسيو- اقتصادي والثقافي والأخلاقي والديني. مفهوم "الجنسانية" داخل الحقل المعرفي اليوم، هو بديل عن مفهوم الجنس التقليدي القاصر المحدود، و«الجنسانية» ظاهرة اجتماعية مركبة من قضايا كثيرة لا حصر لها، بين الهويات، والعلاقات، وعلوم السلوكية، والمؤسسات، وإعادة إنتاج القيم، الخ. و(الجنسانية قبل أن تكون موضوع بحث علمي، هي أولا وقبل كل شيء ظاهرة اجتماعية تتضمن تفاوضاً مستمراً بين الأفراد ومحيطهم الاجتماعي الثقافي، كما أنها تطرح بحدة أسئلة حول التاريخ، وسياسات الدول الاستعمارية والحديثة، وكذلك أسئلة حول الهوية والاستهلاك، خاصة بعد ظهور مساحات عالمية أخذت تتخطي الحدود القومية، وتتجاوز الحداثة، لصالح الغارات الكاسحة لعمليات التسلية الجماهيرية، بكل تقنياتها البصرية والرقمية، وما نتج عنه من صراع حول القيم والمعاني الأخلاقية والجنسية، ودورها في صياغة هويات مجنسنة جديدة ().( تطرح هذه الرواية منطقاً يدمر الأشكال الأدبية الحداثية، وتتجاوز رواية تيار الوعي، ورواية الاستفادة من الحس الشعري والبلاغي التقليدي، رواية تنقد مشروع الحداثة في الكتابة، وتطرح توصيفاً ثقافياً لحركة المجتمع المعاصر، وتتجاوز فكرة "أن البشرية تعيش في تطور مستمر"، وهي الفكرة التي كانت تمثل أحد محاور الحداثة الأساسية، فعالمنا لا يتجه بالضرورة نحو مجتمع أكثر تطورا، أو يتجه نحو الأفضل، وأن الحاضر لا يشكل بالضرورة تحسينا للماضي(). وتقنيات الفن قد أفسحت المجال للشك بدلاً من اليقين، والكتابة الروائية الجديدة اليوم تحولت إلي "بقعة باهتة من السرد المثرثر المتواصل"، وذهب بعض المفكرين إلي فكرة "التشكيك بالوظيفة الاجتماعية للفن"، فالفن يبشر منذ قرن بالوظيفة الاجتماعية، ولكن الجنس البشري مايزال يمارس البربرية ؟
تنتمي هذه الرواية إلي الكتابة الما بعد حداثية، وهي كتابة بديهية بسيطة، تطرح نفسها دون ادعاء، لأنها كتابة عفوية، حرة، وكان لابد للرواية الجديدة أن تتغير بعد أن تغيرت طبيعة المجتمع، الذي انتقل من مجتمع التوفير، ومجتمع العفة، والضمير المهني، وروح التضحية، والجهد، والدقة، والسلطة، والنزعة القومية، والعدالة الاجتماعية، انتقل من كل هذا ليصبح مجتمع العفوية، وإنجاز الذات بالمعني الشخصاني، والمتعة، والدعاية، والإعلان، وإن المناخ العام أخذ يميل شيئا فشيئا نحو الفنتازيا، والتراخي، والسخرية، والحسية ()، واقترب مفكروه من ثقافة التحليل النفسي، مثلما أوردت رواية [الفشل في النوم مع السيدة (نون)]، فنصف حجمها مخصص لشخصية الطبيب النفسي، والكتابة في هذه الرواية كانت تحمسنا للاقتراب من الذات، وتتحرر الرواية من الأدوار، والبطولات الأيديولوجية في المراحل السابقة. وثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة الشعور بالتحرر الفردي الممتد إلي جميع الفئات، كما يقول لا بيتوفسكي ()، يري الفكر الجديد أن كل فرد في مجتمعاتنا اليوم، يختار التعبير عن نفسه، ويقرر حياته طبقاً لمصالحه الخاصة، وكل فرد يريد ترتيب حياته بنفسه، وإن النزعة النرجسية ستكون الصورة الرمزية الأكثر تعبيرا عن عصرنا (). ويمكننا أن نتابع ظهور الاستهلاك الجماهيري، والمتعوية المعممة لدرجة أن المادة الإعلامية لن تصل للجمهور، إن لم تكن قادرة علي أن تمتع المتلقي أو تسليه، أو تشد انتباهه بأية وسيلة، وقد أنتج مجتمع التقنيات ثقافة تمحورت حول تحقيق الأنا، والتلقائية، وتحولت المتعوية إلي مبدأ محوري للثقافة الحديثة. وطالما أن الجديد لا يلبث أن يصبح قديما، فقد أصبحت عمليات النفي في الرواية وفي الكتابة بشكل عام لا حدود لها، وأصبح الفن هو حامل الفردنة الحقيقي، أما التسلية والمتعة، فقد أصبحتا هما القيمة العليا من قبل الاستهلاك الجماهيري، وأصبحتا القيمة المركزية للثقافة، وأصبح علي الفن أن يعيد الاعتبار لهما. لقد انتقلت الرواية إلي موقع الثقافة الجماهيرية، بلغتها وأسلوبها وأحداثها مع تطوير هائل لأدواتها وتقنياتها كي تلائم هذا التحول. (جزء من دراسة بعنوان "الجنسانية وحقول المعرفة في الرواية" رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ل "ممدوح رزق" نموذجاً) تصدر قريباً.