الطيران، الطيران، الطيران.... كلمة تلازمني أينما ذهبت، فأنا فراشة تطير من زهرة الي أخري، لم تلبث قدماها أن تحط علي وردة جميلة حتي يجذبها شذي وردة أخري. أنا طفل افريقي في بلاد تتنازعها الحروب الأهلية، قريتي كرة تتقاذفها قوات حكومتي الضعيفة و جماعات المعارضة المسلحة التي لا تعرف الرحمة. فتارة تصبح القرية تحت سيطرة الحكومة التي تتركها بسهولة لتقع في أيدي المعارضة، وعندما يبحث الطرفان عن ضحية يصب عليها جم غضبه ... نصبح نحن أهالي القرية الضحايا ومكب النفايات الذي يلقون فيه بآثامهم. يقولون انني صغير السن و لكن طموحاتي عظيمة و أحلامي لا حد لها، أتذكر جدي و هو يضعني ما بين ذراعيه ويسألني: "عزيزي، ماذا تحب أن تصبح في المستقبل؟" فأجيب بدون أدني تفكير و كأن الرد يقف عند طرف لساني: »طيار« فيسألني: لماذا؟" أجيب و نظري يهيم في سماء الكون الفسيح: لكي أطير، فأنا طائر خلقه الرب علي هيئة انسان و لن أهبط علي الأرض الا لأقطف زهرة جميلة من كل بلدة أمر بها و أزرعها في حديقة منزلنا لينتشر عبير الورود و يعم حب العالم أرضي" يبتسم جدي في أسي و حسرة:" أحلامك جميلة يا بني و لكن هل سيأتي الغد؟" لم أفهم سبب أسي جدي، فنظرت اليه في تعجب طفولي لأقول: "سأطير... سأطير يا جدي مهما كانت الظروف" طرقات عنيفة علي باب بيتنا، و أقدام ثقيلة تهز أركان أحلامنا... ترتعد قلوبنا ويبدأ قدري في ذرف أول دموعه علي عتبة المنزل... تطير عيناي خلف الجدران لتصطدم في عنف بملامح غليظة و عيون تنطقان بالشر... لماذا أنتم هنا؟!! يجيب أحدهم في غلظة: "جئت لآخذ ولدكم ليحارب في صفوفنا" يقولون في رجاء و استعطاف: "لكنه لا زال صغيرا!!" يجيب: "و طموحاته كبيرة... وقد حان الوقت لاعادته لعالم الواقع." أتحاسبونه علي أحلامه؟! صمت رهيب و ابتسامة كريهة... انتزعوني من صدر أمي، اتساءل الي أين أنا ذاهب؟!، بكاء ونحيب كان ردهم عليً، قل وداعا لأمنياتك الحالمة يبكي جدي، متي سيأتي الغد؟!، لقد كبلوني يا جدي و قيدوا أجنحتي... كلا، سأطير يا جدي رغما عنهم و مهما يفعلون.... و وضعت في القفص. قفص كئيب ذو جدران حزينة ... جلست أتأمل من حولي، فأري طيورا جميلة تؤنس وحدتي في القفص... بدون سابق اتفاق، تنساب نظراتنا لتتسلق جدران السجن حتي تصل الي نافذة صغيرة في الأعلي وتتسرب خلسة بين قضبانه لتنوح بآهاتنا التي تتلاشي في صمت في فضاء الكون السرمدي.... متي ستنزاح القضبان ونطير بعيدا لنسكن جنبات القمر؟! أيبدو هذا سؤالا مستحيلا؟!، فجأة يدخل علينا جندي بلا ملامح و يقودنا أمامه كقطيع من الماشية، تأبي سيقاننا المرتعشات المضي قدما الي الأمام ولكن لطمة هائلة في ظهر آخر طفل في القطيع، تطلق العنان لآهة تسيطر ذبذباتها المتألمة علي قدميه لترهول مذعورة و تدفع أمامها أقدام باقي أفراد القطيع، متوسلة اياها أن ترحمها و تعفيها من هزات لطمات أخري لا ترحم. هناك في قلب ساحة واسعة فسيحة، وقف قائد فرقتنا الجديد ساخطا و هو يتفوه بعبارات غاضبة لم أفهم منها حرفا... هزمونا، انتصروا علينا في المعركة السابقة و لكننا لن نرحمهم في المرة القادمة... بالرغم من خسارتنا المئات سنلقنهم درسا... هذا النظام بائد والمستقبل لنا... وكلام كثير آخر لم أستطع فهمه فرفعت يدي أطلب الاذن بالكلام، ظهر الضيق علي وجه القائد وأذن لي علي مضض... قلت محاولا أن أستشف مغزي ما كان يقوله: "معذرة، ولكنني لم أفهم أي شئ" القائد و بنفاذ صبر: "ما هو الشئ الذي لم تفهمه بالضبط؟.. أيها المجند، ستقاتل جنود الأعداء." سألت :"و من هم الأعداء؟!!" القائد: "انهم هؤلاء العملاء الخونة الجبناء... جنود الحكومة البائدة. انهم فئة غريبة و ضالة." تكاثرت و تكالبت عليً الكلمات التي لم أفهم منها حرفا، فهززت رأسي في بلاهة قائلا: "و لكن هؤلاء الأشخاص ليسوا غرباء و لا جبناء... اني أعرفهم جيدا... انهم أهلي و اخوتي و أبناء عشيرتي، انهم مساكين و جوعي مثلنا... انهم لا يختلفون عنا في أي شئ." القائد: أيها المجند، اصمت... انك لا تفقه شيئا. ان من اتحدث عنهم ليس هؤلاء الجنود المقاتلين المساكين بل هؤلاء القلة من العملاء الذين يقودونهم" اختلطت الأمور علي رأسي الصغير... فرفعت يدي قائلا: "إذاً، لماذا نقتل اخواننا من المساكين و هم لا يفعلون أي شئ غير تنفيذ الأوامر؟" التقي حاجبا القائد في غضب منزعج و تبادل النظرات مع قائد مجموعتنا، ثم همس اليه ببعض الكلمات. فقال قائد المجموعة في حنق: "صه أيها المجند، لقد قال لك القائد الأعلي اصمت. هذه الأمور خاصة بالقادة و ما عليك سوي تنفيذ الأوامر بدون نقاش و بدون اثارة المزيد من الأسئلة" نظر القائد الأعلي اليً شذراً، ثم انحني مرة أخري ليهمس في أذن قائد مجموعتنا الذي اعتدل لينظر اليً و لزملائي باشفاق وكأنه قد صدر علينا حكم بالاعدام، ليضيف قائلا: "في فجر يوم الغد، سنقوم بهجوم مباغت علي أحد أهم و أقوي مواقع العدو الحصينة لنحاول الاستيلاء علي مستودع الأسلحة المتواجد هناك. و ستكونون أنتم في طليعة قواتنا البطلة" رفعت يدي مرة أخري فارتسم الغضب علي محيا القائد الأعلي و قال في ضيق مكتوم:"أنت مرة أخري!!, ماذا تريد الآن؟" قلت في براءة طفولية: "أريد أن أطير." ألقي القائد الأعلي عليً نظرة خبيثة ذات مغزي و ابتسم ابتسامة مقيتة ثم قال: "سوف تطير يا بنيً... ستطير عندما تصل الي مواقع العدو" سألت و السعادة تملأني: "هل ستعلمونني الطيران هناك؟" قال: "لا تقلق بهذا الخصوص. علي أية حال، ستطير وحدك عندما تحاول الوصول الي اخواتك الموجودين داخل مواقع العدو الحصينة" لم أستطع النوم و أنا أعد اللحظة تلو الأخري. شعرت اني حمامة سلام... سأذهب اليهم... سأذهب الي اخوتي هناك، أنا أعلم أنهم يتمنون السلام مثلي... سأحتضنهم... سأضع يدي بيدهم و نجوب بلادنا المنهكة طيرانا لنلقي بذور المحبة في كل بقعة من أرضنا، ثم نحلق في سماء العالم لنؤكد له اننا شعب متحضر حالم بالسلام. حانت اللحظة الحاسمة، أخذت نفسا عميقا. هيا، هيا انطلقوا... بدأت في الجري بأقصي سرعة لديً و اللهفة تملأني للقاء الأحبة الذين طال انتظارهم... فتحت ذراعاي الي أقصي مدي حتي أضم اليً أكبر عدد منهم. أنظر الي هؤلاء الذين يجرون معي... أري عصافير صغيرة و كثيرة تجري بجانبي و لا أمنية لها سوي الطيران... سأطير كما حلمنا سويا يا جدي... و ها قد جاءت اللحظة... قفز جسدي بكل عنف و شعرت بجسمي يطير عاليا... لقد طرت و طار جميع زملائي... ها قد تحقق حلم حياتي. لغم... للأسف لم يكن سوي لغما... أشعر انني اتمزق و قد تمزقت مشاعري و أحاسيسي مع جسدي. أهذا هو الطيران الذي يقصدونه؟! أطيرانهم هو أن أسير سير الملائكة فوق حقل ألغام. كان حلمي أن أصبح حمامة سلام، عصفوراً رقيقاً يشجي العالم بتغريده... أفاقوني، أعادوني الي عالم الحقيقة ككاسحة ألغام... هكذا أرادوني و لكنني لن أيأس و لا زلت أصر علي الطيران... سأطير بعيدا كما وعدتك يا جدي، نزل جسمي فوق لغم آخر و طرت للمرة الأخيرة... حاولت أن أكمل طيراني مرة أخري... دفعت ما تبقي من جسمي الي الأمام و لكنه توقف... همد جسدي الفاني و لكن روحي أكملت رحلتها كطائر يحلق عاليا في السماء... توقفت روحي لبرهة قصيرة من الوقت عن رحلتها الطويلة نحو سديم الكون لتلعن من خنق آمالها و أحلامها. بدأت رحلة السقوط و كنت أشلاءا لا يجمعها سوي حلم قديم... حلم الطيران.