ننشر تفاصيل 18 ساعة من التحقيقات مع الشيخ صلاح الدين التيجاني    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» 28 سبتمبر 2024    عاجل - "الدولار ب 48.42 جنيه".. أسعار العملات بالنك المركزي المصري    فصائل عراقية تعلن استهداف موقعا إسرائيليا في الجولان المحتل بواسطة الطيران المسير    بايدن يوجه بتعديل وضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط    موعد مباراة مانشستر سيتي ونيوكاسل والقنوات الناقلة في الدوري الإنجليزي    اختبار شهر أكتوبر رابعة ابتدائي 2025.. المواعيد والمقرارات الدراسية    وفاة زوجة الفنان إسماعيل فرغلي بعد صراع مع السرطان    عودة أسياد أفريقيا.. بهذه الطريقة أشرف ذكي يهنئ الزمالك بالسوبر الأفريقي    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    11 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية.. وحزب الله ينفي وجود أسلحة في المباني المستهدفة    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    وقف حرب غزة وانسحاب الاحتلال من فيلادلفيا.. مصر توجه سلسلة مطالب لمجلس الأمن    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    «الأصيلة المحترمة».. مجدي الهواري يوجه رسالة رومانسية لزوجته دنيا عبدالمعبود    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    تراجع سعر الطماطم والخيار والخضار في الأسواق اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    ذكرى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.. رمز الاستقلال الوطني والكرامة العربية    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    ميلان يتغلب على ليتشي بثلاثية بالدوري الإيطالي    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    نبيل الحلفاوي يوجة رسالة للزمالك بعد فوزه بلقب السوبر الإفريقي    تفاصيل إصابة شاب إثر الاعتداء عليه بسبب خلافات في كرداسة    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



للذكري
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 03 - 2010

كان محمود قد مات. ولم تعد صغيرتنا تتناول الطعام. آمنة لم تكن تفهم. لم تكن تفهم أين اختفي والدها. الإجابة الوحيدة التي كنتُ أردّدها علي مسامعها: بابا في السماء. لم تكن تفهم شيئا البتّة. وكنت أري ذلك جيدا. كانت تعبّر عنه بالحركات. تبحث عنه في كل مكان. حين أدرَكتْ أن لا جدوي من البحث، قرّرَت الامتناع عن الطعام. أن لا تأكل شيئا حتي يرجع والدها. "والدك لن يعود أبدا"، تلك هي الحقيقة التي كان عليّ إقناعها بها. وكنتُ مع ذلك أحاول أن أجعلها تأكل. ملعقة صغيرة من الحساء المركّز. كانت تستغرق في مضغها عشر دقائق. كيف يمكنها أن تظل علي قيد الحياة بهذه الملعقة الصغيرة من الطعام. احتاج الأمر إلي وقت، وقت طويل، قبل أن تعود إلي حالتها الطبيعية.
بعد ذلك، لمّا كانت في المدرسة الابتدائية، رجعَتْ إلي البيت علي الساعة الثانية عشر وقالت لي: "بابا كان شريرا". أجبتها: "بابا لم يكن شريراً. من قال ذلك؟". تلميذةٌ صغيرةٌ من زميلاتها في الفصل هي من تلفّظ أمامها بهذا الكلام.
تعرفتُ علي محمود في المطار. في مطار شارل دوغول عام 1969. حبٌّ من أول نظرة. كان قادما من الجزائر، وأنا كنت راجعة من الأردن. بالأردن، زرت مخيما للاجئين الفلسطينيين. إذن التقيته في المطار. محمود الهمشري كان مبعوثا إلي باريس لتأسيس مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف).
كل شيء يدلّ علي أن لقائي به كان مقدّرا. ولدتُ في قرية صغيرة بنواحي أفينيون. منطقة تدعي "فلسطين الصغيرة". سُمّيَت كذلك لأنها كانت منطلق الحجاج الذين ذهبوا إلي فلسطين. لقد شاهدوا نفس الأشجار التي كانت لدينا وتعرّفوا علي الروائح ذاتها.
بصراحة، مَن مِنّا لمْ يكُن يمارس السياسة في الستينيات؟ كان النقاش السياسي حاضرا في كل مكان. في الجامعة مثلا... كنت أدرُس القانون... وكان هناك ماويون وتروتسكيون، كل أنواع الأشخاص الملتزمين سياسيا. بالنسبة لي، الحرية كانت كل شيء.
كنت داخليةً في كوليج اليسوعيين. وكنت أنام في عنبر النوم الكبير للداخلية جنب أعزّ صديقاتي. أذكر حين يحل المساء وتُطفأ الأضواء، كنا نُحضّر معاً مشاريع مستقبلية كبري خلافاً لباقي البنات.
لكن ما تعلمته هناك، لدي اليسوعيين، هو الحرية كقيمة أساسية. ويمكنني أن أؤكد علي أن انجذابي للسياسة مردّه إلي عبوري من عند اليسوعيين. بالتحديد انجذابي للصراع السياسي.
حينما أتيح لي أن أنضمّ لآخرين من أجل الذهاب إلي الأردن، لم أتردّد. ذهبنا إلي مخيم البقعة للاجئين في ضواحي عمان.
كان الصهاينة، في مارس 1948، قد دخلوا القري الفلسطينية وطردوا أهلها. هذا ما يسمّيه الفلسطينيون بالنكبة. استعاديا، يصعب إنكار أن ذلك يدخل في إطار التطهير العرقي. لديّ جرأة تأكيد ذلك. لديّ جرأة استعمال هذا المفهوم. ألم يُطرَد نصف السكان خلال سنة واحدة من أرضهم؟
منذ تيودور هرتزل حتي بنغوريون، كلّ الصهاينة يُجمعون علي وجوب طرد أكبر عدد ممكن من العرب. وفي عام 1948، لم يدّخروا جهدا في سبيل إجبارهم علي مغادرة قراهم. وللحيلولة دون عودتهم، تمّ تدمير القري عن آخرها. الكثير من الفلسطينيين انتهوا في مخيمات اللاجئين. سمعتهم في مخيم البقعة يتحدثون عن فظاعات ارتكبها الصهاينة في حقهم: تحرشات، جرائم تقتيل واغتصاب.
يتكوّن المخيّم من أكواخ بأسقف صفيحية متموّجة. بناياتٌ علي هيئة مدن الصفيح بأزقة مهترئة وشروط صحية رديئة. وسط كل ذلك، يبدو واضحاً جهد النساء لتدبير ركن صغير فيما يشبه الصالون. ركنٌ نظيف ولطيف لخلق بعض الدفء داخل مخيّم مكتظّ بالسكان منذ 1948.
بعد ذلك تساءلتُ مع نفسي: كيف ينظر إلينا سكان المخيم؟ ما الذي يدور بخلدهم تجاهنا؟ مجموعة من أبناء جيل 68 ينتعلون قباقيب كبيرة. حالمون، مثاليون قرروا أن يمدّوا يد العون في أنسب مكان لذلك.
بالنسبة لي، كانت المواجهة مضنية. شاهدت كيف كانت صعبةً حياةُ الناس هناك. أدركتُ لأول مرة جور الوضع. إنه الظلم الحقيقي. لم أكن أعرف كيف، لكنني كنت موقنةً بأنني سألتزم بفعل شيء لأجلهم. وكنت أعرف أيضا أنني لن أعتمد سوي علي نفسي. لم أكن أرغب في الانضمام لهذا التجمع السياسي أو ذاك. الماويون كانوا قليلي الفعالية. والتروتسكيون يعتقدون أنهم سيحلون كل شيء بتسطيرهم علي مسألة الصراع الطبقي. كانوا يعتقدون أن العمال الإسرائيليين والفلسطينيين سيتوحّدون. الأمر كان مستبعَداً طبعاً. فعلي العكس، الاقتصاد الإسرائيلي لا يُتيح أيّ مجال للعمّال الفلسطينيين. لم تكن مسألة التعاون واردة لأن الإسرائيليين كانوا يريدون من الفلسطينيين أن يذهبوا إلي العمل بعيدا عنهم. فلم تكن النية معقودة علي جعل فلسطين دولة اشتراكية. بل كان القصد هو جعلها دولة يهودية. كان واضحا بالنسبة لي أن الأمر لا يتعلق بمسألة الأخلاق السياسية، لكن المشكل يُطرح بالخصوص من خلال مسألة العدالة.
أما الموقف الإسرائيلي بخصوص العمال الفلسطينيين فيتغيّر من وقت لآخر حسب درجة احتياج إسرائيل إلي اليد العاملة الرخيصة. طبعا اليوم، وبعد استغلالها جيّداً، لم يعد الإسرائليون في حاجة إلي هذه العمالة. لذلك حاصروا الضفة الغربية وقطاع غزّة حيث السكان يواصلون العيش في ظروف مزرية... 60 عاماً علي خلق دولة إسرائيل.
كان محمود يحكي لي عن رهانات م.ت.ف. كنت أفهم تماماً المقصود من ذلك. فقد شاهدتُ بأمّ عيني بؤس وعوز اللاجئين.
فتح محمود مكتبة فلسطين التي أصبحت مكانا حقيقيا للقاءات. كانت تديرها آن ماري ميفيل. مرّ منها جان لوك غودار وأيضا جان جنيه. كنا جميعا نعتقد في جدوي الفعل السياسي. وكنا نحلم بكل الاحتمالات. كان أملنا كبيرا.
تزوّجنا.. حبلتُ.. فأنجبتُ آمنة. عثرنا علي شقة رائعة من ثلاث غرف في عنوان 175 زنقة أليزيا في المقاطعة الرابعة عشرة. كنا نقوم بكل شيء معاً. في المظاهرات، كنت أحمل معي دائما علما فلسطينيا صغيرا. راية صغيرة كُتِب عليها "النصر لفلسطين".
لكن فجأة... وبين عشية وضحاها، تغيّرت حياتنا. 16 أكتوبر 1972، اغتيل وائل زعيتر في روما. كان وائل ممثل م.ت.ف بروما. اغتيل من قبل الموساد أثناء عملية "غضب الرّب". عملية انتقامية مزعومة من طرف إسرائيل.
خلال الألعاب الأولمبية في ميونخ، اعتُقِل اللاعبون الإسرائيليون كرهائن من قبل أعضاء في منظمة "أيلول الأسود". انتهت العملية بحمّام دم. للرّد، أعدّ الموساد لائحةً لفلسطينيين من أجل تصفيتهم. علي كلّ، هذا هو التبرير الذي قدموه فيما بعد. أنا مقتنعة تماماً بأن مبرّرات إسرائيل حول ضلوع مَن تمّ اغتيالهم من المسؤولين السياسيين الفلسطينيين في عملية ميونخ مختلقةٌ بالكامل.
الأكيد هو أن وائل زعيتر قد اغتيل. قُتل في بهو عمارته. الرصاص مزّق جسده. تغيّر كل شيء في اليوم الذي حكي لي محمود ما وقع لوائل. ومنذُ ذاك لم يفارقني الخوف.
الوقت ليل.. حوالي الواحدة صباحا. كنا نائمَيْن. فجأة رنّ جرس الباب. نهضنا مذعورين. رنّ مرة ثانية. قلت لمحمود لا تفتح. كنتُ جالسة حينها علي السرير. ومن جديد سمعنا رنين الجرس. كنت أرتعد. اعتقدت أنهم سيكسرون الباب ويقتلوننا. أمسكتُ بيد محمود. وأخيرا توقف الجرس عن الرنين.
تلك الليلة، قال لي محمود شيئا لن أنساه ما حييت. قال: "مهما يقع... هناك شيء ينبغي أن تعرفيه. يجب أن تعرفي أنكِ منحتني أجمل سنوات عمري".
ما يمكن أن أتقبّله بصعوبة هو تفاهة ما حصل. حكي لي محمود أن أمرا غبيا حدث معه. قال إن أحدهم هاتفه من أجل موعد. وأنه ذهب إلي مكان الموعد في الساعة المحدّدة لكي لا يجد أحدا. قال إنها مضيعة للوقت. لم أنتبه حينها إلي قوله. بعد ذلك فقط أدركتُ الفخ الذي نصبوه له. تَمّ إخراجه من بيته وفي نفس الوقت، كنت قد خرجتُ مع آمنة. في تلك اللحظة دخلوا إلي شقتنا ووضعوا القنبلة.
في 8 ديسمبر 1972، فجّروا القنبلة. كنت قد خرجت لتوّي مع آمنة. وهو ما سجلوه حتماً. كان محمود وحده بالبيت. رنّ الهاتف. رفع السماعة. سأله صوت: "هل أنت محمود الهمشري؟" أجاب محمود: "نعم".. وبعدها فجّروا القنبلة. كان الانفجار عنيفا. تحوّل زجاج النوافذ إلي شظايا. أما الشقة فقد كانت مشتعلة.
وصلت النجدة وتمّ نقل محمود إلي المستشفي. ليس إلي مستشفي سان جوزيف القريب لكن إلي مستشفي كوشان بزنقة الفوبورغ سان جاك. لم أعرف لماذا. إلي غاية اليوم، لا أعرف لماذا. رافقتُه. أصررت علي ذلك. أُجريَت له عملية في الحال. كان يعاني من جراح بليغة في الساقين. لا زلت أراني جالسةً بممرّ المستشفي، أنتظر. تمّت العملية بنجاح. أخرجوه من غرفة العمليات. لقد نجا محمود.
في الغد، كنت عند محمود في المستشفي. جاءنا أحدهم بصحيفة كُتِب علي صفحتها الأولي "إصابة إرهابي بجروح خطيرة". وجدتُ صعوبة في تصديق ما قرأته. كتبَت الصحيفة أن محمود جُرِح بواسطة قنبلة كان بصدد صنعها، وأنها انفجرت عليه خطأ. وأضافوا أنني كنت متواطئة معه. إذ كنتُ أزوّده بالمتفجرات التي كنتُ أحصل عليها بسهولة، حسب الصحافي، لأنني كنتُ أعمل في "مختبر". لم يجشم نفسه عناء البحث عن أي نوع من المختبرات يتعلق الأمر. فهذا "المختبر" لم تكن له علاقة بالكيمياء. كنت أشتغل لصالح المعهد الوطني للبحث الزراعي شعبة العلوم الاجتماعية. وكنا ندعو "مختبرات" كل الشعب المختلفة للمعهد. كيف استطاعوا أن يكتبوا أمرا مماثلا دون حجة أو دليل؟ كيف انبثقت هذه الفكرة في عقولهم؟ وكيف تجرأوا علي اتهام زوجي بالإرهابي؟
في غضون ذلك، كنت قد عثرتُ مع آمنة علي مأوي مؤقت عند بعض الأصدقاء الفلسطينيين. كانت قد بدأت تخطو خطواتها الأولي، وفي يوم ذهبت معها لزيارة محمود في المستشفي فقال لي: "إنها ستمشي قبلي". والحالة أنه كان قد بدأ يتعافي.
لكن ذات يوم، انتكست صحته. تعفن جرح في مؤخرة قدمه. أعلن الطبيب أنه ينبغي بتر ساقه. بعد البتر، تدهورت صحته. فالتهاب الجرح لم يلتئم. تعفن دمه. مات محمود يوم 9 يناير 1973.
حاولت بواسطة الصليب الأحمر أن أدفنه في فلسطين. لم تنجح المحاولة. هو الآن يرتاح في مقبرة الأب لاشيز. جاء ياسر عرفات ليبكي علي قبره. بالنسبة للبعض، زوجي إرهابي. وهو بطلٌ بالنسبة لآخرين. أما بالنسبة لياسر عرفات فهو شهيد.
حافظت علي علاقات ممتازة مع حماتي قبل وفاتها كما لا زلت أحافظ علي روابط وثيقة مع عائلة محمود. رغم ذلك أحسستُ بوحدةٍ مرعبةٍ بعد الدفن... بالنسبة للفرنسيين كنتُ أرملة الإرهابي.
بعد ذلك، رفعَتْ ضدّي وكالة التأمين دعوي في المحكمة. لأننا لم ننبّههم إلي أن هناك خطرا متزايدا. كما لو كنا ننطلق من فرضية أن أحدهم وضع لنا قنبلة في البيت. كنّا نعرف أن محمود كان مهدّداً. لكننا لم نتخيل أبدا أن يفجّروا قنبلة في بيتنا. لم أكن أتخيل أن أمراً مماثلاً يمكن أن يقع. من المحتمل أن قصدهم كان إظهار أن يدهم طويلة، ليُشعرونا أننا لسنا في مأمن حتي داخل البيت.
أعرف مَن اقترف الجريمة في حقّ زوجي. كنت أعرف مسكنه أيضاً، إنه منحرفٌ نذل. من المستبعد أن يطلب الصفح. أعتقد أن الفكرة لا تراوده بتاتاً. لكن تخيّلوا لو طلب الصفح رغم كل شيء. أعتقد أنني كنت سأجيبه بأنني لن أستطيع الصفح عنه. لقد قتل زوجي وحطّم حياتي. أنا لا أكرهه. الكراهية مدمّرة وتقتل من يشعر بها. لا أريد أن أكره أحداً، لكنني أشعر بالغضب والحنق دائما وأبداً. هل مات محمود هدراً؟ لكَم هو مرعب هذا السؤال.
ثمة جملةٌ للمثقف الفلسطيني البارز إدوراد سعيد أردّدها كثيرا لأنها ترفع من معنوياتي: "تذكّروا التضامن المعلن مع فلسطين هنا وفي كل مكان... وتذكّروا أيضا أن الأمر يتعلّق بقضية التزم بها الكثير من الناس رغم العراقيل والصعوبات البالغة. لماذا؟ لأنها قضيةٌ عادلة.. مثالٌ سامٍ.. بحثٌ معنويٌّ عن العدالة وحقوق الإنسان.
للعدالة يوم. وهذا اليوم سيأتي. حقا لديّ حساسية زائدة، لكنني لست ضعيفة. توجد بداخلي قوة العدالة والقانون.
أنا فخورة ببنتنا. فخورة بآمنة. شاءت الصدف أن تتزوّج أيضاً من فلسطيني. وأنا فخورة بزوجي. فخورة بمحمود.
بعد التفجير، نصحني بعض الأصدقاء أن أغير اسمي. سيكون الأمر أسهل. أسهل بالنسبة لمستقبلي. لكنني لم أرد فعل ذلك. اسمي ماري كلود الهمشري. إنها أنا. وهي أيضا طريقة أتذكّر بها زوجي. مع ارتطام القنبلة احترق كل شيء في شقتنا. كل الأوراق، كل الصور. لكن اسمي... لا يمكنهم أن يأخذوه مني. بالنسبة للباقي، لم يعد لديّ شيء. كل شيء اختفي. حتي الراية الصغيرة المكتوب عليها "النصر لفلسطين".
ليلي شهيد
بعد اغتيال محمود الهمشري، أصبح عز الدين قلق ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس. طلب مني أن آتي للعمل لحساب المنظمة باعتباري مناضلة. كنت أتابع دراستي في باريس. أدرس الأنثربولوجيا. قلت له: هذا مستحيل، أريد أن أكمل دراستي. لقد سبق وقدمتُ الكثير للقضية. ونلت نصيبي كاملاً. كنت أقوم بأعمال اجتماعية وسياسية في مخيمات اللاجئين. ترعرعتُ مع النكبة. وأسرتي عاشت النكبة.
ولدتُ عام 1949 في بيروت، سنةً بعد النكبة. تمّ توقيف والديّ ونفيهما. في المنفي، تعرّفا فعلاً علي بعضهما البعض. كان أبي قد جاء من عكّا أو سان جان داكر حسب الاسم الذي أطلقه عليها الصليبيون. وقد وصف نرفال عكّا في كتابه "رحلة إلي الشرق". كان قد وصل إليها علي متن مركب شراعي لكنه لم يستطع أن يرسو بها لوجود مرضي بالمركب. فوصف ما شاهده من علي ظهر السفينة: "مدينة عكا تتقدم في البحر علي جبل رملي، بقبابها البيضاء وحيطانها ومنازلها ذات السطوح والأرصفة، والصومعة المربعة ذات الشرفات المزخرفة كأكاليل".
كنت دائما أتخيل الديكور كما وصفه نرفال. الآن القرية تدعي "أكو" لأن الإسرائيليين غيّروا كل الأسماء الأصلية للأمكنة بأسماء عبرية. فحينما طُرِد الفلسطينيون من قراهم عام 1948 سارع الإسرائيليون إلي محو تاريخ وثقافة البلد وتعويضه بنسخة مفبركة لبلد آخر، فعينوا لجنة لوضع الأسماء مهمتها تحويل جغرافية فلسطين لتصبح عبرية.
كنتُ أكثر من مرة بإسرائيل. لا أستطيع دخولها إلا باعتباري سائحة. أتألم حينما أعبر البلد. حينما أكون علي الطريق السيّار علي طول الجدار الذي بنته إسرائيل. طلبوا من فنانين إسرائيليين أن يزيّنوا هذا الجدار الإسمنتي بعلو ثمانية أمتار. زيّنوه بمناظر تعكس بإخلاص أولئك الذين يختفون وراء الجدار. لكن القري الفلسطينية التي كانت موجودة في السابق خلف الجدار والتي تشكل جزءا مندمجا في المشهد لم تعد سوي سراب. ومهما تكن محاولات الإسرائيليين لمحو التاريخ فإنني أري في كل مكان أطلال ماضي فلسطين. الأسماء بإيقاع عبري، لكن الأرض تتكلم دومًا العربية.
أصل أمي من القدس. قاوم والدها، جدي، القوات البريطانية في فلسطين. اضطروا لمغادرة البلد عام 1939، وهكذا وجدت أمي نفسها في بيروت.
عندما كنت صغيرة في بيروت، كان أبي يدرّس في الجامعة الأمريكية. وكانت أمي تعمل متطوّعة في مخيمات اللاجئين. لم أكن أستطيع مرافقتها. لكنني كنت أري كيف كانت تبكي في المساء. تبكي من التعب والغضب.. الغضب والسخط علي كل ذلك البؤس الذي عايشته في المخيمات. رؤيةُ دموع أمي... تركتْ بداخلي أثراً بالغا لا يُمحي.
لهذا ومع مرور الوقت، ولأنني لم أكن أفكر سوي في أسرتي... لأنني لم أكن أفكر سوي في أمي وكل النساء الفلسطينيات اللائي لا يردن الوقوف كمتفرجات سلبيات... ولأن عزّ الدين كان يواصل إلحاحه، ولأنه عندما سألني ما الذي سأجنيه في آخر المطاف من هذه الدراسات الأنثربولوجية لم أفلح في إعطائه جوابا... لهذا وذاك ولأسباب عديدة... اتبعت أخيرا حدسي وأجبته "نعم". هكذا شرعت في العمل كمناضلة في م.ت.ف.
غيّر عزّ الدين مجري حياتي. ليس فقط حياتي السياسية. فإليه يرجع الفضل في التعرّف علي زوجي. كان عزّ الدين رومانسيا وحالما. كان يعشق امرأة لكن لم يكن يريد الزواج منها. حينما سألته لماذا؟ أجاب بأنه لا يريد أن يترك أرملة وراءه. كان علي علم بأنهم سيُصفّونه. الموت كان جزءا من قدره. كان يعتبر الموت تحديا ضمن تحدياته. كنا في ما بعد ميونخ، وعزّ الدين كان مهدّدا. لكنه كان يرفض حمل السلاح. كان يريد أن يحارب بالكلمة. وكان يعرف جيدا لماذا كان يحارب.
ولد في حيفا عام 1936. وفي عام 1948 هُجّر والداه مثل الآخرين. قضي عزّ الدين طفولته في دمشق. حينما سألتُه عن ذكرياته عن فلسطين، أجاب: "لديّ ذكريات عن الطبيعة والمناظر وأشجار الزيتون". وأضاف: "فلسطين خزّان ذكريات: طفولتي في حيفا، حكايات الأسرة. لكن فلسطين رمزٌ في الوقت ذاته. ليست مجرد مكان جغرافي. إنها رمز لكفاح لم ينته بعد. إنها النور الذي بداخل كلّ منّا".
في دمشق، سيتولد لديه الوعي السياسي أثناء دراسته للكيمياء. أوقفوه بسبب قناعاته السياسية وقضي ثلاث سنوات بالسجن. بعد ذلك جاء إلي فرنسا. نال الدكتوراه من جامعة بواتييه. بعدها جاء إلي باريس. وبعدها...
كانت اللائحة... لائحة أبو نضال. كانت تتضمن أسماء مثقفين فلسطينيين ينبغي تصفيتهم. أسماء فلسطينيين كانت لديهم علاقات جيدة مع مثقفي اليسار الأوروبي. فلسطينيون يؤمنون بالحوار الذي سيصبح قدرهم.
كان عرفات يعرف أنّ عزّ الدين موجود في اللائحة. لذلك ألزمه بالانسحاب إلي بيروت. مكث بها ستة أشهر. لكنه لم يستطع أن يبقي فيها طويلا.
لم يكن عزّ الدين مثل أولئك الذين يستطيعون متابعة الأحداث من وراء حجاب. كان يريد أن يكون في قلب الفعل. عاد إلي باريس في صيف 1978. في غضون تلك الفترة، كنتُ قد تزوجت. كنت رفقة زوجي نقيم كل صيف بباريس. حينما علمنا بعودة عزّ الدين نظمنا معه لقاء. في الثاني من أغسطس، ذهبنا سوية إلي المطعم.
لم يكن علي ما يرام. بدا مهموما. قال: "لا أريد أن أختبئ". وحكي أنه مشتاق إلي البلد. بلده فلسطين. في ذلك المساء أخبرت زوجي بأنني قلقة عليه.
في الغد، قلتُ يجب أن أبحث عنه. يجب أن أتحدث إليه. استقليت تاكسيا مرّ بي من ساحة ليتوال ليذهب إلي شارع هوصمان. تمثيلية المنظمة كانت في مكاتب الجامعة العربية شارع هوصمان رقم 114. في النقطة الدائرية لساحة ليتوال عرج السائق علي شارع فريدلند. بعد ذلك قال لا يمكننا المرور عبر شارع هوصمان لوجود حواجز... فكرت مباشرة في عزّ الدين وخمّنت: ها قد وقع المحظور. توقف التاكسي لأقفز منه إلي الخارج دون أن أؤدي الأجرة. طفقتُ أركض طوال شارع هوصمان لأصل إلي مكتب المنظمة. ركضت مسافة طويلة حتي دنوت من كنيسة سان أوغسطين. أمام مكتب المنظمة اجتمع حشد من الناس. بمجرد رؤيتهم، عرفت أن عزّ الدين قد مات. عندما كنتُ علي الرصيف كان القاتل لا يزال داخل المكتب. كان طالبا فلسطينيا. أجل، طالب فلسطيني. عزّ الدين قتله طالب فلسطيني. شاب أعرفه. أقنعوه بأن عزّ الدين كان خائنا. فكل هذه الاغتيالات ارتُكبت سواء من قبل قاتل مأجور ينفذ العملية بدم بارد وبإحكام شديد، أو من قبل شخص مسيطَرٍ عليه سياسيا يتمكن المتحكِّمون فيه من دفعه إلي القتل. كما هو الحال هنا عند هذا الطالب. لا أحد يعرف ماذا حكوا له.
قرع الشاب جرس باب المكتب، أحدهم تركه يدخل. لم يكن ليشك في شيء. ولماذا يشك؟ فالشاب طالب فلسطيني.
ما إن دخل حتي شرع في الصراخ: "أين قلق؟ أين قلق؟". أدرك عزّ الدين وهو يسمع ذلك بسرعة ما يجري. هذا ما أعتقده علي الأقل. المهم أنه أغلق الباب ودفع المكتب أمامه. كان عزّ الدين في تلك اللحظة مع مساعده عدنان حمَد. أطلق الطالب رصاصة من مسدسه علي قفل الباب. لكن وبسبب ارتباكه لم يُصب الهدف. اغتنم عزّ الدين الفرصة ليختبئ تحت المكتب. أخذ الطالب قنبلة يدوية ورمي بها علي الباب. انفجرت القنبلة من الارتطام وسقطت فوق المكتب حيث يختبئ عزّ الدين. أحدث الانفجار ثقبا كبيرا في ظهره فمات للتوّ. قفزت القنبلة من علي المكتب وطارت عبر الغرفة. كان عدنان حمَد في وسطها فقطعت ساقيه. الساقان قطعتا بانفجار القنبلة. كان مرميا علي الأرض ودمه ينزف. وحاول بعض الناس أن يلفوا ساقيه لكن بعد فوات الأوان.
هذا الشاب.. هذا الطالب الذي كان لا يزال داخل المكتب، كان يتخيل أنه أنجز عملا بطولياً.
جاءت أخت عزّ الدين إلي باريس وطلبت مني أن أذهب لإخلاء شقته. لم تكن لديها القوة علي ذلك. حتي ذلك اليوم، لم أكن أعرف مكان شقة عزّ الدين. لم يكن يريد أن يخبرني بذلك. "كلما عرفتِ أقلّ كلما كان أفضل" كان دوماً يخاطبني.
الآن وقد أسلمتني أخته مفاتيح شقته، اكتشفت أنه يسكن في شارع جوردان أمام الحي الجامعي. بالقرب من المكان الذي قطنتُ فيه بدوري. لم أكن أعلم ذلك.
كانت الشقة صغيرة جدا. خمسون متراً مربعاًً علي الأكثر. هناك طاولة وكرسي ودولاب. وبالمحاذاة مع الحائط سرير لشخص واحد. ألقيت نظرة تحت السرير. ماذا يمكن أن نجد تحت سرير شخص أعزب؟ بلايْ بويْ؟ لا أدري لماذا راودتني هذه الفكرة. ما وجدته كان مختلفا. وجدت ألبوماً فيه بطاقات بريدية قديمة لفلسطين. تذكرت ما حكاه لي عزّ الدين منذ فترة. كان يحب التنزّه علي ضفاف نهر السين يوم الأحد. وكان يتسكع أمام معروضات باعة الكتب القديمة باحثا عن بطاقات بريدية لفلسطين. في يوم سأله أحد الكتبيّين عمّ يفتش بالضبط. لم يجرؤ عزّ الدين أن يعترف له بأنه يبحث عن بطاقات بريدية لفلسطين. فميونخ ليست بعيدة. وكان خطرا أن تقول إنك فلسطيني. الناس ينظرون إليك كما لو أنك إرهابي. علاوة علي أن عزّ الدين كان يعرف أنه مسجل في لائحة أبو نضال. لذا كان شديد الاحتياط. أجابه بأنه يبحث عن بطاقات بريدية من الشرق. سأله الكتبيّ:
من مصر؟
لا، لا، نحو الشمال قليلا
لبنان؟
لا لا لا.. أجاب عزّ الدين قبل أن تبرق فكرة في رأسه: "من الأرض المقدسة".
آه بيت لحم، أردف الكتبيّ
أجل. قال عزّ الدين.
هنا روي له الكتبيّ: أنا أصلي من بيت لحم. هربت أسرتي إلي هنا في الأربعينيات. ولديّ بطاقات بريدية لبيت لحم. فرّجه علي سلسلة بطاقات بريدية، ليس فقط لبيت لحم وإنما لمجموع فلسطين. اشتري عزّ الدين كل هذه البطاقات، لكنه لم يقل له شيئا. كان يفكر بأنه قد يكون جاسوسا. مع ذلك ظلّ يرجع عنده كل أحد. في نهاية المطاف، وكما أخبرني، طلب منه أن يلتقط له صورة. سمح له الكتبيّ بالتقاط صورة له وسط أكوام الكتب. بعد ذلك انتهي عزّ الدين إلي أن هذا الرجل نزيه، فأخبره بأنه فلسطيني. والآن في ألبوم البطاقات البريدية تحت سرير عزّ الدين أجد صورة الكتبيّ الفلسطيني وسط ركام الكتب في باريس وهو يضحك.
أنا وعزّ الدين كلانا ابنا النكبة. مثل الكتبيّ علي الصورة. كلّ علي طريقته. منفيون. أعرف ما فعلته بنا إسرائيل. قدمت إسرائيلُ فلسطينَ أرضاً بلا شعب. صحراء. أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، الشعب اليهودي.
اسم فلسطين أُسقِط من الخرائط وكتُب التاريخ في اليوم الذي أُحدثت فيه إسرائيل.
بعد ذلك اختزلت إسرائيل الشعب الفلسطيني في مجموعة من المقاتلين المسلحين والإرهابيين. وكان هذا هو المحور الكبير الآخر للتضليل الإعلامي. أعرف ما فعلته بنا إسرائيل. ما فعلته بجدي وأمي. ما فعلته بمدينة عكّا التي وُلِد فيها أبي. أعرف ما فعلوه بنا. لكنني أعرف أيضا ما تُشكّله المحرقة بالنسبة لليهود. أعرف ما فعلوه بهم. لست قادرة علي كراهيتهم. من المهم جدا ألا نكرههم. يمكننا أن نصفح حينما لا يكون لدينا إحساس بالكراهية. بهذه الطريقة يمكنكم الحياة. إنها طريقتنا نحن لكي نحيا. طريقتنا نحن الفلسطينيون.
برناديت رينبو
تزوجتُ من نعيم في 25 أغسطس 1972 بعمان. في كنيسة لاتينية صغيرة توجد بحي شعبي أمام مخيمات اللاجئين.
كنا فعلاً نودّ الزواج في مسقط رأسه، قرية الزبابدة. كان ذلك مستحيلا. فالقرية تقع في الأراضي المحتلة من الضفة الغربية. والسلطات الإسرائيلية لم تكن لترخّص لنا أبدا بالأوراق الرسمية للزواج. مع ذلك كنت أريد أن أري الزبابدة. كنت أود التعرّف علي القرية التي وُلِد فيها نعيم. أريد أن أكتشف من أين أتي. رغم كل شيء، قررنا بعد ثلاثة أيام محاولة الذهاب إليها. كان لدي نعيم جواز سفر الطالب. كان يتابع دراسته في لوفان. هناك تعرفنا علي بعضنا البعض. أنا لديّ جواز سفر بلجيكي. وبما أن الجوازين مختلفان لا يمكننا أن نعبر نهر الأردن من نفس الجسر. كان علينا احترام القوانين الإسرائيلية. أنا عبرت من جسر اللنبي القريب من أريحا. انتظرت هناك ساعات كاملة تحت الشمس. في حرارة لا تطاق. لم يعطوني ولو قطرة ماء. حينما جاء دوري فتشوا كل أغراضي، وجدوا قطعة صابون فقطعوها إلي أربع. أفرغوا أنبوب معجون الأسنان عن آخره. هل هم خائفون من معجون الأسنان؟ بعد ذلك ألزموني بمرافقة جندية إسرائيلية إلي غرفة صغيرة للتفتيش. فتشتني. لا أريد الخوض في التفاصيل. لكنها فتشتني بدقة. بدقة متناهية. كان ذلك مُهينا جدا. لكن كل هذا لا يساوي شيئا مقارنةً بالمصير المنذور لنعيم. كان يتوجّب عليه أن يقطع جسر داميا القريب من نابلس. استجوبه ضابط الجيش الإسرائيلي لمدة ثلاث ساعات طوال. حينما علم هذا الضابط أن نعيم كان يتابع دراسته في لوفان أخبره بأن أصله من أنفيرس. كان صادما بالنسبة لنعيم أن يسأله شخص قادم من أنفيرس ما الذي جاء به إلي هنا؟ هو، نعيم، الفلسطيني الذي يريد زيارة مسقط رأسه والسلام علي أمه. ماذا يريد أن يفعل هناك؟ غير معقول!
حتي هذا الحين، لم يكن نعيم يولي أيّ اهتمام للسياسة. كان طالبا يدرس القانون. لكن هذه التجربة كان لها ما بعدها. حينما تمرّ من هذه التجربة، وحينما تكون شاهدا علي مثل هذا الوضع، يستحيل ألا تهتم بالسياسة. أن تُهان بهذه الطريقة، يجعلك تذهب للدفاع عن قضية شعبك. وهذا ما فعله منذ ذلك الحين. علي الناس أن يفهموا أننا لا نكافح ضد شيء أو ضد أحد لكن كفاحنا هو كفاح إيجابي.
حينما وصلنا مع الغروب للزبابدة، كان اليوم عيداً. اجتمع كل أهالي القرية وكان احتفالا بدون رقص ولا غناء. منذ الاحتلال لم يعد الناس يغنون أو يرقصون في الزبابدة.
أقمنا في منزل أم نعيم. كنا نعيش كما لو في زمن الإنجيل. لا ماء ولا كهرباء. كنا نستجلب الماء من إحدي العيون. وفي طريق العودة، كنا نسلك طريقا وعرا وعلي الرأس جرّة ماء. كان الواقع مريعاً.
علمتني بديعة، أم نعيم، تحضير الوجبات التي يحبها نعيم. الباذنجان المحشو باللحم، الدجاج المطبوخ بالبصل في خبز غير مخمّر.
كان علينا أن نمر كل يوم عند الحاكم العسكري لأجل المراقبة. أحيانا عندما يكون مزاجه رائقاً، لا يتعدّي الأمر ربع ساعة. لكن يحدث أيضا أن ننتظر لمدة ثلاث ساعات. كنا عرضة للإهانات من كل الأصناف.
استطعنا رغم ذلك أن نزور بعض المناطق. شاهد نعيم الأماكن التي حُرِم منها. أشجار الزيتون. صرح بعد ذلك "هذه الأمكنة هي اليوم منبع عشقي لفلسطين". ولكَم راود حلمُ العودة إليها أحلامنا. مشهد الزبابدة حينها كان لا يزال كاملا. لكن في الأماكن التي دمّر فيها الإسرائيليون القري، غرسوا الغابات من أجل محو كل أثرٍ للفلسطينيين. وبهذه الطريقة، يحولون دون عودتهم. لكن فعلا إلي أين يعودون؟ إنها ليست أشجار الزيتون التي غرسوا بل غابات صنوبر تجعل بعض الأماكن تشبه بلدا أوروبيا. أحدث الإسرائيليون منتزهات طبيعية لكن تحت طاولات التنزه دفنوا منازل الفلسطينيين.
زرنا القدس. كنيسة القيامة. بيت لحم. كنيسة المهد. ضفاف بحيرة طبرية. جبل الزيتون.
لحظةَ الوداع، أهدتني أم نعيم قارورة عطر صغيرة. صارحَتْ نعيم بخوفها من أن يلحقه مكروه. انتفضتُ لجوابه: لديكِ أربعة أبناء يا أمي، ويمكنك أن تهبي أحدهم لفلسطين.
منذ ذاك، لم نرجع أبدا إلي الزبابدة.
كان نعيم يعاني من المنفي. وكان دوما يحن إلي فلسطين. كان يقول بأنه مشتاق إليها. يحس بالشوق داخله مثل فراغ. فالمنفي يُفقدك جزءا من كرامتك. لا تحس بأنك في مكانك. تحس بأنك في مكان آخر. مجتثاً يتيم الأرض.
كنتُ قد تعرّفتُ علي نعيم في لوفان حيث كنا طالبين في الجامعة. كنت دائما أعرف ما معني الالتزام. ورثتُ ذلك عن والديّ. كنت أتردد علي الحلقة الدولية للطلاب الأجانب. في أعياد الميلاد، كنت أدعو بعضهم إلي بيت والديّ وكان من بينهم العديد من الفلسطينيين. كنا نذهب جميعا مسيحيين ومسلمين إلي قداس منتصف الليل. بعدها كانت توزع الهدايا علي كل واحد قرب شجرة عيد الميلاد.
عندما كنت أقطن بروكسل صحبة نعيم، صارت شقتنا مأوي للشباب الفلسطينيين. كانوا يأتون ليأخذوا حمّامهم عندنا.
أحيانا أعود إلي البيت لأجد الثلاجة فارغة. كنت أعرف أن مجموعة مرّت من هنا. كان ذلك ضروريا برأيي. فزواجنا كان ثمرة تفكير ناضج. كنا مرتبطين بنفس الأفكار وبذات الأهداف.
وهو صغير، تابع نعيم دراسته في المدرسة الإكليريكية لبيت جالا قرب القدس. ما زلت أحتفظ بصورة له وهو بالجبة الكهنوتية. هناك تعلم الفرنسية وأيضا البيانو. لكن أهم ما تعلمه هناك هو التسامح. ورغم أنه كان مثاليا فإن قدمه ظلت راسخة في الأرض ولم يلتزم بالعمل الديني.
لم يكن أيضا يكافح من أجل مذهب سياسي.. ولا من أجل الكفاح ذاته. كان يكافح لأنه يعشق فلسطين. وكان يعرف كيف يكافح، باعتباره خطيبا مفوّها. لذا لم يكن غريبا أن يعيّنه عرفات عام 1975 ممثلا للمنظمة في بروكسل. كان يعرف كيف يحظي باحترام الجميع، وكيف يربح مؤيدين لقضيته سواء لدي السياسيين البلجيكيين أو في الأوساط الأوروبية. كل الطرق كانت لديه سالكة. كانت حقبةً مدهشةً لم يكن فيها مكان للمستحيل.
بعد ذلك بدأت السماء تكفهر. فبعد اغتيال محمود الهمشري وعزّ الدين قلق بدأنا نشعر بأننا مهددون. كل رسالة تسقط في صندوق البريد نلتقطها بحذر ونتحسسها بأصابعنا قبل فتحها. أندهش أحيانا لأني إلي اليوم لا زلت أفعل ذلك. أذكر مرة كنا في جنيف، واقترحت عليه أن نقوم بنزهة حول البحيرة. كان ذلك مستحيلا وفي غاية الخطورة. في المطعم، كنا ننزوي دائما في الركن. في المتحف، يشاهد أحدنا اللوحة فيما الآخر يمسح القاعة بعينيه.
بدأ نعيم يتلقي التهديدات. بعد ذلك أخبرونا من بيروت وعمان بأن الوضع حرج للغاية. فقد أشيع أن قاتلا كان في الطريق إلينا. جمعنا بسرعة حقيبة نعيم وقدته إلي المطار حيث اشتري توّاً تذكرة سفر. بقيتُ أياما دونما خبرٍ عنه. لم أكن أعرف أين ذهب. ما إن زال الخطر حتي عاد إلي بروكسل. وعاد إليّ.
أصبحتُ أرافقه أكثر فأكثر إلي الندوات. كنت أعتقد أن وجود امرأة إلي جانبه قد يثنيهم عن إطلاق النار. كنت أريد حمايته.
أدركتُ أنهم يريدون تصفيته لأنه كان مؤثراً. ابتسامته كانت مُطَمْئِنة. كان يحارب بقلمه. وقد أدركت حجم الخطر الذي يُشكّله علي خصومه. كنت أعرف أن الاعتداء عليه أمرٌ محتمل. لكني لم أكن أتصور أن هذا الأمر سيحصل هنا في بروكسل. شيء كهذا لا يمكن أن يقع إلا في باريس.. وليس هنا في كلّ الأحوال.
وأخيرا وقع ما كنا نترقبه ونحذر من وقوعه منذ زمن دون أن نستطيع تصوّره. عندما أتذكره.. يتراءي لي كما لو وقع البارحة.
عشية الاغتيال، قال إنه يريد إخضاعي للحراسة. أوضح لي أنه معرّض للموت بين عشية وضحاها. قال: "أنا لا أخشي علي نفسي.. فأنا لا أهاب الموت، وحينما قررت أن أكون داعية لفلسطين كنتُ أدرك خطورة ذلك".
في اليوم الموالي، استيقظ من نومه علي الساعة الثامنة والربع. كان نعيم، ولأسباب أمنية، يصحو كل يوم في وقت مختلف. كما كان يذهب إلي المكتب في أوقات مختلفة. استيقظ واستحمّ وارتدي ملابسه. ذلك الصباح، غادر علي الساعة التاسعة إلا ربع. نهضتُ بدوري. وبعد خروج نعيم أخذتُ حمّاماً. هنا رنّ الهاتف. لقد كانت تيري زوجة معن مدير مكتب الجامعة العربية ببروكسل. كانا يسكنان فوقنا. نحن في الطابق الرابع وهم في الخامس. سألتني تيري إن كنتُ سمعت شيئاً.
لم أسمع شيئا.
طلقات نار هنا في الأسفل أمام الباب.
سألتُ: هل أطلقوا النار علي معن؟
لا بل علي نعيم، أجابت تيري.
وأنا لم أسمع شيئا. وجدتُني أتحدث في الهاتف عارية وشعري مبتلّ. وتيري تقول لي: "برناديت... انظري عبر النافذة. انظري إلي الأسفل علي الرصيف".
ماذا عليّ أن أفعل
عليكِ أن تنظري... انظري إذن
انتهيتُ إلي النظر عبر النافذة. كان ذلك غريباً. رجلٌ طريحٌ تحت علي الرصيف. كان يرتدي نفس معطف نعيم المشمّع. وقربه بركة دم. سمعت تيري تقول: "نعيم.. إنه نعيم". أذكر أن السماعة سقطت من يدي. وبعدها اختلط كل شيء في ذهني. هرعت إلي غرفة النوم، ارتديت جينزا وقميصا. وجريت في الممر لآخذ المصعد. لكن كان عليّ أن أنتظر. نزلت بسرعة في السلم من الطابق الرابع حتي أسفل العمارة. عبرت البهو وخرجت إلي الشارع. كان هناك حشد من الناس. بالإضافة إلي الشرطة. لكن الرجل.. الرجل لم يعد هناك. أحدهم رسم هيأته علي الرصيف بالطباشير. جثوت علي ركبتي وطفقتُ ألامس خطوط الطباشير. لم أعد أعرف ما أفعله. أخبرني الشرطي بأن سيارة الإسعاف نقلت نعيم إلي مستشفي إيكسيل. سألتُ ببلادة: "هل هو مستشفي جيد؟". ما إن أتممتُ ذلك حتي أدركتُ أن الأمر غير ذي أهمية. رأيت ذلك في عيني الشرطي. نعيم مات. وأنا لم أسمع شيئاً.
في المستشفي، نصحتني الممرضة بعدم رؤيته. قلت لها أريد أن أري زوجي. من حقي أن أراه. أجابتني بأنه أصيب بجروح خطيرة في وجهه. لقد أصبح مشوّها ومن الصعب التعرف عليه. لكنني ألححت. لا أحد بمقدوره أن يمنعني من رؤية زوجي. أخيرا تركتني أدخل لكنها نصحتني بعدم النظر إلي وجهه. كان نعيم مستلقيا علي الطاولة ومغطي بإزار أبيض. كانت يمناه تتدلي خارج الإزار. أمسكتُ بها. كانت باردة.
كنت أريد دفن نعيم في مسقط رأسه بقرية الزبابدة. أريد دفنه في فلسطين. في المقابل، كانت إسرائيل تطلب المستحيل: إعادة رفات أربعة جنود مدفونين في لبنان. كانت السلطات الإسرائيلية تعرف أن م.ت.ف لن تقبل بمثل هذه المقايضة. كانت إسرائيل خائفة مما قد تسبّبه جنازة نعيم من هيجان شعبي.
ذهبنا والحالة هذه من مطار بروكسل إلي بيروت. جثمان نعيم كان في نعش. وكان ياسر عرفات ينتظرنا في مطار بيروت. قال لي بأنه فقد أحد أفضل جنوده.
كنا نسوق الموكب علي امتداد المخيمات. وكنت أري حشود اللاجئين الذين ناضل نعيم من أجلهم طوال حياته.. والذين كان بإمكانه أن يفعل المزيد من أجلهم.. والذين أهداهم عمره.
أقيمَ لنعيم قداسٌ في كنيسة الآباء الكبوشيين.
في نهاية تلك الظهيرة، أخذنا الطائرة من جديد باتجاه عمان. كنتُ قد تأكدت من أنني لن أتمكن من دفن نعيم في مسقط رأسه. ولم يكن بمقدورنا الوصول إلي الزبابدة. لكنني كنت أودّ، وبأيّ ثمن، أن أقيم له قداسا في الكنيسة الصغيرة التي احتضنت حفل زفافنا في عمان. السلطات الأردنية كانت بدورها خائفة. لكنها لم تجرؤ علي رفض ذلك. وفي هذه الكنيسة الصغيرة حيث قلنا "نعم" لبعضنا البعض أوّل مرّة ودّعتُ نعيم. بعد ذلك دفنّاه في مقبرة أم الحيران..حيث يرتاح الآن وإلي الأبد.
لا أعرف من قتل زوجي. أتساءل أحيانا هل معرفةُ القاتل ستغيّر في الأمر شيئاً؟ لم أتقبل قطّ موت نعيم. أحس كما لو أنهم قصّوا أجنحتي. إني غاضبة. غاضبة لأنني أحيانا تخترقني فكرة أن زوجي مات هدراً.
أسابيع معدودة قبل موته كنّا معاً، خلال فترة الفصح، في الأردن. تسلقنا جبل نيبو. ومن أعلاه رأينا فلسطين. ظللنا جالسين طوال النهار وحتي المساء دون أن ننبس ببنت شفة. كان نعيم يلفّ ذراعه حول كتفي. لازلت أحس بثقل يده. وفي نهاية المساء، ونحن نرنو إلي فلسطين، قال نعيم: "سنذهب إليها قريباً. وقريباً يُمكننا دخولها".
جمع الشهادات وأعاد صياغتها: رودي مولومانس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.