عاجل - روسيا ترسل طائرتين ومروحيتين و50 عنصرا من فرق الإنقاذ لموقع حادث مروحية الرئيس الإيراني    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    المصري يهنئ الزمالك بالفوز ببطولة الكونفيدرالية    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني ينفي مزاعم جماعة الإخوان بسرقة الأموال بالمطارات    روميو وجوليت بطابع جنوبي لفرقة كوم أمبو المسرحية    عمرو أديب عن جلسة أوبر أمام البرلمان: احترموا مشاعر المصريين    الجزيري: نهدي الفوز بالكونفدرالية لجماهير الزمالك    جوميز: أُفضل الفوز بالسوبر الإفريقي بغض النظر عن المنافس    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    هيا نقرأ معاً.. قصور الثقافة تشارك معرض زايد لكتب الأطفال بفعاليات وورش إبداعية    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    شيخ الأزهر مغردا باللغة الفارسية: خالص تضامننا مع إيران    الشرق الأوسط بات على شفير الهاوية.. ومقاربة واشنطن المضلّلة    الأمم المتحدة: ما يحدث في غزة تطهير عرقي أمام العالم    مستشار الأمن القومي الأمريكي يبحث مع نتنياهو تطورات الحرب في غزة    العراق: المفاوضات مع الشركات النفطية الأجنبية بإقليم كردستان لم تحقق أي تقدم    الحرس الثورى الإيرانى يستخدم قنابل مضيئة فى عملية البحث عن مروحية الرئيس    فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    عيار 21 بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب اليوم الإثنين «بيع وشراء» في مصر بالمصنعية (تفاصيل)    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    حسن شحاتة: الزمالك أهدر فرص عديدة والجماهير قدمت المطلوب    جماهير الزمالك تحتفل بالكونفدرالية أمام مقر النادى بالشماريخ    مصدر يكشف موقف الأهلي بعد تشخيص إصابة علي معلول    حسام وإبراهيم حسن يهنئان نادي الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية    المثلوثي: سعيد بالتتويج بالكونفدرالية.. ونعد الجماهير بحصد بطولات أكثر    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    مستشار اتحاد الصناعات: على الدولة إعادة النظر في دورها من مشغل إلى منظم    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    غدا.. أولى جلسات استئناف المتهم المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبد الغفور على حكم حبسه    تحذير من التعرض للشمس، حالة الطقس اليوم الإثنين 20-5-2024 في مصر    تقرير رسمى يرصد 8 إيجابيات لتحرير سعر الصرف    النائب أحمد الشرقاوي: قانون إدارة المنشآت الصحية يحتاج إلى حوار مجتمعي    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    مقرر لجنة الاستثمار بالحوار الوطنى: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية    خبيرة ل قصواء الخلالى: نأمل فى أن يكون الاقتصاد المصرى منتجا يقوم على نفسه    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عمر الشناوي: لو تم تجسيد سيرة جدي سيكون الأقرب للشخصية إياد نصار أو باسل خياط    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    برلماني: قانون إدارة المنشآت لن يمس حقوق المنتفعين بأحكام «التأمين الصحي»    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الخميسى: فهم العالم أصعب من محاولة تغييره
نشر في أخبار السيارات يوم 01 - 06 - 2019

منذ أن قدمه يوسف إدريس فى مجلة «الكاتب» عام 67، وصدور أولى مجموعاته القصصية «الأحلام، الطيور، الكرنفال»‬ بالاشتراك مع أحمد هاشم الشريف ومحمود مؤنس.. تغيرت كثير من الأمور بالنسبة لأحمد الخميسى.
فى شبابه كان يتصور مثل الجميع فى تلك السن أنه جاء ليغير العالم، وبعد نصف قرن، أصبحت كل قواه موجهة فقط لكى لا يغيره العالم، لكى لا يجبره على أن يكتب أو يقول أو يفعل ما لا يعتقده، يقول: «كنت أظن أن تغيير العالم مهمة رئيسية إلى أن أدركت أن فهم العالم أصعب من تغييره، أيضا فهم الفن، وجوهر الكتابة، والطبيعة البشرية».
فى مجموعته الجديدة «ورد الجليد» يمكنك أن تشم رائحة أحمد الخميسى تملأ السطور بتلك البهجة وذلك الأمل الذى لا تعرف من أين يستمده أبطاله، إنهم يعيشون واقعاً بائساً، ومع هذا يستمتعون بكل لحظة تمر من أعمارهم، أحمد الخميسى يشبه أبطاله كذلك، ومعظمهم أشخاص مسنون يبحثون عن الألفة، الألفة فى وجوه أشخاص من أعمارهم، أو فى وجوه أبنائهم، فى إحدى القصص وبينما يحاول البطل إنزال قدمه من السيارة إلى الأرض تشعر أن ذلك البطل هو أحمد الخميسى، وأن الفتاة هى ابنته الكاتبة «‬آنا» أو «‬هانيا» كما يناديها بالعربى. سترى فى محادثاتهما، الأب والابنة، سواء فى القصة أو الواقع، ذلك الحب الممتزج بصراحة قد تبدو للبعض قاسية، تستمع آنا إلى أحمد الخميسى، يقرأ لها ما يكتبه أولاً بأول، حتى وهو مسودة، والسبب أنه يثق فى حسها الأدبى، وفى أنها لن تجامل بحرف، وقد تقول له ببساطة: «‬الموضوع حلو بس ممل يا بابا»، ثم تشرح له لماذا هو ممل؟ يقول الخميسى كأنما يتحدث على لسان بطله الطيب والنبيل : «‬معها أجد ما أنشده لدى الأصدقاء: الصراحة، لكن الأصدقاء عادة ما يتفادون النقد الصريح، أما هى فتكلمنى كما تشاء. كانت وهى طفلة جزءاً صغيرا منى، والآن أوشك أن أكون جزءاً صغيراً منها».
فى هذا الحوار يتحدث أحمد الخميسى عن عالم مجموعته الجديدة التى تضيف كثيراً لفن القصة القصيرة. كلام بسيط لكنك تعرف بالضبط بعد أن تقرأه الكثير عن هذا العالم النبيل الذى يمده بأفكاره وشخصياته والأهم بتفاؤله المدهش والغريب.
معظم القصص أبطالها مسنون، كاتب فى قصة «غلطة لسان»، رجل تنمحى ملامحه عندما يصل إلى الخمسين «‬قدمان»، مسن يتمنى أن تفهم ابنته نظراته، ولو فى المستقبل «‬على ربوة»، الجد النحيف «‬فرحة صغيرة»، الزمن الذى يعرِّفنا أن البطل وكذلك نينا أندريفنا صارا كبيرين، بعدما كانا شابين فى مقتبل الحياة، حينما جمعتهما موسكو «‬ورد الجليد»، الكهل المتصابى «‬غداً»، كبير السن الخائف من اتهامه بلمس فتاة «‬تحرش» علاء فكرى كاتب عجوز آخر «‬بيسا»، والطبيب طاعن السن فى قصة «‬جراحة».. لماذا سيطر كبار السن على تلك المجموعة.. هل تريد القصص أن تفهم ما يفعله الزمن بالإنسان فى لحظة متأخرة؟
أشكرك بداية على هذا السؤال، لأنه يلقى الضوء لى شخصيا على فكرة لم تطرأ لى، فكرة ربما كانت كامنة فى اللاوعى وأنا أكتب أعنى: الزمن، أو الشيخوخة. سؤالك يثير الأسئلة فقط وما من إجابة. هل سيطر كبار السن على المجموعة لأننى شخصيا أخذت أشعر بوطأة الزمن الذى يتناقص ويذوب؟ هل يعنى ذلك أننى استغرقت فى تأمل نفسى؟ أى أن الكاتب انساق وراء حالته الشخصية من دون أن يجد القاسم المشترك بين مشاعره وحالات الآخرين؟ لكنى سأفكر فى سؤالك، لأن الأدب فى أفضل تعريف له هو كما قال أورهان باموق: «‬أن تحكى حكايتك كأنك تحكى حكاية الناس، وأن تحكى حكاية الناس كأنك تحكى حكايتك»، أى أن الأدب هو رؤية العالم من خلال ذاتك، ورؤية ذاتك فى إطار العالم. هل انغمست فى همى الذاتى ولم أخرج به أو منه إلى العالم؟ لا أدرى. ولا أجد إجابة سريعة وصحفية على سؤال يحتاج إلى تفكير: لماذا سيطر كبار السن على مجموعة «‬ورد الجليد»؟ فقط أود أن أشير إلى أن سيطرة كبار السن لم تكن تعنى ضياع الأمل، هناك أمل فى قصص المجموعة، حتى لو كان خافتاً، وقصة «‬ورد الجليد» هى قصة المحبة التى تقاوم كل شيء وتشق الجليد وتنمو حتى فى الصقيع. قصة الأمل ونجمة السعادة الساحرة.
فى قصة «‬غلطة لسان» وخلال آخر حوار للكاتب العجوز، أخطأ وهو يتحدث عن الكتَّاب الذين ينصح القراء بمتابعة أعمالهم، وذكر منهم «‬عبدالعال شعبان»، وهو يقصد «‬عبدالعاطى وهدان»، مات الكاتب العجوز ونُشر الحوار الأخير معه، وتلقف الجميع الاسم الذى نصح الناس بمتابعته، وكتبوا عنه المقالات ونشروا صوراً له، وادعوا أن لديه رواية لم يكتمل نشرها، وكرمته الدولة بجائزة الدولة التقديرية، وغيرها، مع أنه شخص غير حقيقى بالمرة، هل المبالغة فى تلك القصة هدفها كشف خطايا الواقع الثقافى؟
بالطبع المبالغة هى وسيلة لكشف الحقيقة. لقد بالغ جوجول حين جعل «‬كوفاليوف» بطل قصته الشهيرة «‬الأنف» يستيقظ ذات صباح وينظر فى المرآة ولا يجد أنفه! وبالغ «‬جوناثان سويفت» حين جعل بطله جوليفر عملاقا مرة وقزماً مرة أخرى، وبالغ كافكا فى روايته «‬المسخ» حين جعل بطله جريجورى سامسا يصحو ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة! هناك مبالغة كاريكاتورية فى قصة «‬غلطة لسان»، لكنها المبالغة التى تعرى الحقيقة. وعامة فإن الفن على امتداد تاريخه كان نوعاً من المبالغة فى قدرة الإنسان الروحية فى التغلب على الزوال والفناء وعلى الطبيعة العارضة لوجوده وحياته.
لو كانت الرواية تسد الاحتياج الذى تسده القصة القصيرة ما ظهرت القصة
تقول قصة «‬الشاهد» إننا نرى لكننا عميان، كل منا مشغول بذاته، نسمع استغاثة امرأة تتعرض للاغتصاب أو نشاهدها وهى تعانى من آثار تلك الكارثة، ومع هذا فإن الضباب الذى يسيطر على عقولنا يمنعنا من رؤيتها جيداً فى محنتها، ونسوق كثيراً من التبريرات لسلبيتنا.. ما رأيك؟
نعم. أنت محق. نحن نرى كيف تغتصب شابة فى مقتبل العمر لكننا نتظاهر بأننا لم نر، وأن ذلك لم يحدث أمام أعيننا، أو أننا لم نكن موجودين ساعة الحدث. جميعنا بدرجات وبطرق مختلفة مشاركون ليس فقط فى الاغتصاب، بل وفى كل جريمة أخرى، بدءاً من سرقة صبى لرغيف خبز، مروراً بمقتل امرأة عجوز على يد أحد أقاربها، وانتهاء بأكبر الجرائم فى معتقل أبوغريب وغيره. نحن جميعاً ذلك «‬الشاهد» الذى يتملص من المسئولية ويتذرع بأنه لم يكن هناك وقت الجريمة، لكن الحقيقة أننا هناك دائماً، ودائماً مسئولون، لأن البشرية تشبه شبكة عصبية كل شعيرة فيها متصلة بالأخرى وتحس بأقل ارتجافة فى أبعد نقطة، وملزمة بالمشاركة فى تصحيح المسار.
هل يكرر الزمن نفسه فى الأبناء؟ هل المعادلة فى قصة «‬على ربوة» هى أن الصغار لا يشعرون بالكبار ويضيقون بهم رغم محبتهم لهم، وأن الإشارات التى يرسلها الكبار عبر النظرات لن تصل إلى الصغار إلا فى وقت متأخر جداً؟ هل المحبة لا تصل إلا بعد الموت أحياناً؟
أظن أن قصة «‬على ربوة»، لو جاز أن تستخلص من القصة،أى قصة، معنى واحداً، فهو الإشارة إلى مأساة أن الإدراك لا يحل فى وقته، فنحن قد لا نفهم غلاوة المحبة إلا متأخراً، عندما نكون قد فقدنا حرارة القلب، وعندما تكون قلوبنا مشتعلة بالأحلام ينقصنا الإدراك الذى يحول الحلم لحقيقة. أحياناً تعشق فتاة، لكنك تفقدها لأنك لم تفهمها، أو أنها لم تع من أنت. المغزى كما أعتقد أننا لا نفهم كيف نحب بعضنا البعض فى الوقت المناسب، أو أن الوقت والظرف لا يكونان مناسبين للطرفين فى لحظة واحدة. الناس يلتقون فى مواسم متأخرة أو متقدمة.
رغم أن أبطال القصص يعانون ما يعانون من مصاعب الحياة إلا أن هناك إحساساً طوال الوقت بأنهم يرغبون فى الإكمال، يبحثون عن لحظات سعادة مختلسة، ولا يفقد معظمهم ذلك الحنو البالغ وتلك الرهافة المفرطة التى تحافظ على آدميتهم رغم كل شيء.. هل توافقنى على ذلك؟
ربما.. هناك ذلك الأمل الضعيف مثل أنفاس خافتة، لكنه موجود. فى مجموعتى القصصية «‬قطعة ليل» كتبت الإهداء إلى: «‬المستقبل الذى لا يأتى أبداً»، وبالرغم من قسوة الإهداء إلا أنك تسمع فيه أملاً فى أن يحل المستقبل غداً، أو اليوم، أو حتى الآن. وأظن أن شدة اليأس هى لحظة أقوى أمل.
فى قصة «‬فرحة صغيرة» يلعب الجد مع حفيده حاتم، وكذلك يلعب مع بائع «‬الروبابيكيا»، يدخل معه فى جدال حول ثمن مجموعة من الجرائد القديمة لكنه يفاجئ البائع فى النهاية بأنه سيمنحها له مجاناً، إلا أننا نعلم مع البائع أن ذلك مشهد متكرر يبدأه الجد بالفصال فى السعر ثم يمنح الجرائد مجاناً، وأن تلك الفرحة التى يبديها البائع بالغنيمة المجانية مجرد تمثيل من البائع لأنه يعلم مسبقاً أنه سيحصل على الجرائد مجاناً. حينما نكتشف أن الجد العجوز مصاب بالزهايمر تنطفئ الفرحة قليلاً، غير أن الجد يتذكر حفيده حاتم ويعود للهو معه. هل القصة تقول إن الإنسان فى نهايته يرتد طفلاً كبيراً؟
لا، ليست الفكرة أن الإنسان يرتد إلى طفل فى شيخوخته، لكن لعل الفكرة هى أن الإنسان يفرح بالخير، ويحتاج إلى تقدير، الجد سعيد بأنه يفاصل البائع وهو يعلم مسبقاً أنه سيختتم كل ذلك بإعطاء الجرائد مجاناً، هى سعادة الإنسان بالخير، ثم احتياجه إلى تقدير الآخرين لما قام به، هو خير من نفس طفولية. مع ذلك ربما يكون المعنى كما قلت أنت «‬الإنسان يرتد طفلاً».
صورة المرأة جميلة فى هذه القصص، وفى القلب منها «‬نينا أندريفنا»، التى جمعت شباباً من جميع الجنسيات حولها، وأنستهم غربتهم الصعبة فى موسكو، هل الأنثى هى مفتاح أى مدينة غريبة بتعبير جمال الغيطانى؟
المرأة، شقيقة المرء، وهى ليست مفتاح أى مدينة غريبة بل هى مفتاح كل المدن الغريبة والقريبة والمتخيلة، مفتاح العالم بالنسبة للرجل كما أن الرجل مفتاح العالم لها. لم تكن «‬نينا أندريفنا» مفتاح مدينة غريبة، بل مفتاح أحلام بلا نهاية بعالم يرى فيه كل إنسان نجمة سعادته الساحرة.
«‬ورد الجليد» هو عنوان المجموعة وكذلك عنوان القصة الأكبر حجماً بها، قصة نينا أندريفنا، وهو يشير إلى ورود بيضاء تشبه الدانتيلا تنمو تحت الجليد القاسى، هل اخترت هذا العنوان للإشارة إلى أن الحياة تجد مكاناً لنفسها رغماً عن هذا العالم الغريب القاحل والموحش؟
الزهور التى تنمو تحت سطح جليد شفاف حقيقة يعرفها الروس، وقد اخترت الاسم «‬ورد الجليد» ليكون عنواناً للقصة أولاً، ثم وضعته عنواناً للمجموعة، وبالطبع العنوان ينطوى على إشارة إلى أن الحياة تشق طريقها وتنتصر على كل شيء، وعلى وجه الدقة المحبة تشق طريقها فى أتعس الظروف. مجموعة طلاب أجانب يدرسون، يعانون الغربة، واللغة التى لا يعرفونها، والبرد الروسى، ومع ذلك تنشأ بينهم صلات المحبة، وتنمو تلك الصلات مع المعلمة «‬نينا أندريفنا»، وتتطور قصص الحب إلى زواج فى بعض الحالات. كل هذا يتم فى ظروف قاسية، فى عالم صعب، كما تنمو الزهور تحت سطح الجليد الشفاف.
كانت آنا الخميسى جزءاً منى وهى صغيرة والآن أوشك ان أكون جزءاً صغيراً منها
موبوتو «‬الأسود» إحدى شخصيات «‬ورد الجليد» تعرض لموقف صعب، فقد اقترب منه صبى كان مع أمه فى مخبز، وبلل إصبعه ومرره على ذراعه ليرى إن كان سواده لوناً طبيعياً أم صبغة تزول بالماء.. هل كانت إشارة نينا أندريفنا إلى أصول بوشكين الحبشية كافية لعلاجه من الصدمة؟ بوشكين العظيم «‬كان أسمر، ولو أنه توقف عن كتابة الشعر لأن أحداً ضايقه بكلمة أو نظرة لما كانت روسيا قد أصبحت بهذا الجمال»، هل هذه الجملة الفنية تصلح للتطبيق على أرض الواقع؟
قد لا تكون الجملة واقعية، بمعنى أنها لا تقدم حلاً، لكن إشارة نينا أندريفنا إلى ذلك كان القصد منها تشجيع الولد الأسود على مواصلة دراسته، وتحفيزه لكى يتماسك ولا ينكسر تحت وطأة كلمة أو نظرة. أما على أرض الواقع فإن حل مثل تلك المشكلات يحتاج إلى تغيير الثقافة وإلى إجراءات أخرى كثيرة.
فى «‬الغريب» نتحول إلى غرباء وسط أهلنا، هل أصبح الإنسان الحديث مجبولاً على الحياة فى خوف، حتى وهو يعيش فى أرضه؟
أظن أن الإنسان يصارع الخوف منذ بدء الخليقة، خوفه من الوحوش الضارية وهو ابن الكهوف والصخور، ثم خوفه من البشر وهو ابن الحضارة، ثم خوفه من الحضارة نفسها ومن سقوط نيزك يشطر الكرة الأرضية. الخوف قدر مثل الحب. لكن الفكرة الرئيسية فى قصة «‬الغريب» أنك إذا طاردت إنساناً من دون أن تتحقق من الأسباب فقد تجد نفسك مكانه «غريباً» بين أهلك.
لماذا زاوجت فى بعض حوارات القصص بين العامية والفصحى»؟
هناك مشكلة تاريخية فى موضوع استخدام الفصحى والعامية. أنا شخصياً أتمسك بقول نجيب محفوظ فى حواره مع فؤاد دواره: «‬الذى وسع الهوة بين الفصحى والعامية عندنا هو عدم انتشار التعليم فى البلاد العربية.. ويوم ينتشر التعليم سيزول هذا الفارق أو سيقل كثيراً». لكنى نادراً ما أستخدم العامية، وحين أستخدمها أتخير منها ما هو فصيح مثل كلمة «‬شوية» أو «‬بس» وغيرها من الكلمات التى يظنها الجميع عامية وهى فصيحة.
هناك حضور للطفولة كذلك فى تلك المجموعة، وللشباب، وكأنك تعيد مرة أخرى إلى الأذهان «‬الأجيال الثلاثة» لأسرة الخميسى، الأب عبدالرحمن الخميسى، والابن أحمد الخميسى، والابنة آنا الخميسى.. هل خطر لك ذلك أثناء الكتابة؟
الحق لم يخطر لى ذلك، لكن الطفولة بالنسبة لى حاضرة طول الوقت، وأظنها حاضرة فى روح كل إنسان، فقط هناك من يواصل النظر إلى بحيرة تلك الأيام السعيدة ويغترف منها للفن، وهناك من يشيح بوجهه عنها، لكنها حاضرة، هى المملكة التى لا يموت فيها أحد. ومن العبارات التى علقت بذهنى منذ أن قرأتها قول فرويد: «‬إن الأطفال آباء الرجال»، أى أن الطفولة هى التى تخلقنا. الطفولة عالم سعيد يحن إليه الجميع، لكن ذلك المعنى لم يكن حاضراً فى ذهنى وأنا أكتب.
هل بعض الأبطال مصابون بنوع من الاختلال، مثلاً فاطمة فى قصة «‬وقت حلو» تتعرض لإهانة مذلة مع طفليها نجوى وناجى، ولم تستطع تدبير فسحة لهم، سوى النظر إلى البحر من بعيد، ومع هذا تقول فى نهاية القصة: «‬والنبى قضينا وقت حلو يا أولاد»، هل هو اختلال، أم العيش فى وهم؟
أظن أن فاطمة كانت تحاول وهى فى قاع المهانة والألم أن تهون على طفليها، وأن تصور لطفليها فشلها الذريع فى تدبير رحلة الى البحر بصفته نجاحاً، وأن تقدم لهما خيبة الأمل والإخفاق بصفته نجاحاً مشرقاً. لكنها تعى ذلك، ولهذا فإن عبارتها كانت مصحوبة بدموعها.
حس السخرية يظهر فى كثير من القصص، كما يحدث مثلاً فى مشهدين للطفل ناجى الذى يقفز إلى حضن الست تحية ويكيل لها كثيراً من القبلات رغماً عنها وبشكل يدفعها للتقزز، هل تخفف السخرية من قسوة العالم؟
السخرية لا تخفف من قسوة العالم فحسب، لكنها تقاوم تلك القسوة، وتهدم حصونها، وتفتح ثغرة للأمل، وكان الكاتب العظيم أنطون تشيخوف يقول إنه لا يستطيع أن يفهم كاتباً يخلو من حس السخرية، وهناك روايات لا تنسى قائمة على السخرية، أظن واحدة من أعظمها هى «‬تورتيلا فلات»لجون شتاينبك، وأيضاً «‬الحارس فى حقل الشوفان» لسالينجر، وغيرها. السخرية معناها أنك لا تعترف بذلك الوجه المتجهم للعالم، وترى أن هناك وجهاً آخر لابد أن يبرز.
لديك 7 مجموعات قصصية.. ألم تفكر مرة ولو من باب التجريب أن تكتب الرواية؟
لم أفكر فى كتابة الرواية ولا لحظة واحدة، ولكن بعض الزملاء الشباب من الصحفيين يقدموننى فى أحيان كثيرة بصفتى روائياً، فأقول لهم لست روائياً، إلى أن قال لى أحدهم : «‬وليه مش روائى؟ أنا أعرف واحد أصغر منك وروائى»! الرواية تبدو جبلا عاليا، مرهقا، أيضا هى خارج طبيعتى النفسية والعقلية التى ترى العالم فى لحظات، أما الروائى فله طبيعة نفسية وعقلية ترى اللحظات فى إطار العالم. أظن أنها مسألة طبيعة انفعالية. أيضاً هناك يوسف إدريس وأنطون تشيخوف ومحمود البدوى وغيرهم لم يكتبوا سوى القصة. الأكثر من ذلك أننى أعتقد أن القصة هى الشكل المرشح للبقاء مستقبلاً فى ظل العالم الإلكترونى الموجز الذى نحياه.
صورة تجمعه بالأستاذ نجيب محفوظ وهى من تصوير الأستاذ جمال الغيطانى
حتى نصل إلى ذلك المستقبل.. هل فن القصة القصيرة المصرية قادر على مزاحمة الرواية التى تحظى بكثير من الاهتمام النقدى والجوائز المالية الكبرى حالياً؟
الأشكال الفنية لا تزاحم بعضها البعض فى اعتقادى، هى تتجاور، القصة القصيرة ظهرت بعد الرواية بنحو مائة أو مائة وخمسين عاماً، ولو كانت الرواية تسد الاحتياج الذى تسده القصة القصيرة ماظهرت القصة، وقد عرف تاريخ الفن اختفاء أشكال معينة مثل «‬الأوبرا» التقليدية التى تعتمد على الغناء الاصطناعى، اختفى هذا الشكل، وبالطبع اختفت الملاحم التى ارتبطت بطفولة المجتمع البشرى، لكن القصة القصيرة ليست شكلاً مرشحاً للزوال، بالعكس المستقبل مفتوح أمامها. أما عن أن الرواية تحظى باهتمام وتخصص لها جوائز وما شابه فهذا لا يعنى شيئا ذا وزن. وبالمناسبة يحتفل العالم يوم 14 فبراير من كل عام بيوم القصة القصيرة، ومنذ سنوات نالت «‬آليس مونرو» نوبل عن قصصها القصيرة، وظهرت لدينا جائزة ملتقى القصة القصيرة. الموضوع مرتبط على ما أظن بعدم اهتمام النقد بالقصة ليس أكثر.
هل يمكن القول إنك تنتمى إلى جيل الستينيات، هل وضعك أحدهم فى جيل قبل ذلك؟
فى واقع الأمر، أنا أنتمى لجيل الستينيات، كان أصدقائى أبناء ذلك الجيل: يحيى الطاهر عبد الله، أمل دنقل، أحمد هاشم الشريف، جمال الغيطانى، لكنى اعتقلت نحو ثلاثة أعوام بسبب مظاهرات الطلاب فى فبراير 1968، وعطلنى ذلك، ثم سافرت بعد هذا الى الاتحاد السوفيتى، وبقيت طويلاً هناك. لكن التصنيف حسب الجيل ليس دقيقاً، هناك مثلاً الكاتب جار النبى الحلو، هو ينتمى من حيث السن والتكوين لجيل الستينيات لكن من حيث تاريخ ظهور إبداعه ينتمى للسبعينيات،. وإذن على أى أساس يتم التصنيف؟ سن الكاتب؟ أم تاريخ ظهور إبداعه؟ أم رؤاه الفكرية؟ لكنى عامة لا أستريح لهذه التصنيفات، لأنها تشبه وضع الكاتب فى قفص بالعافية.
أخيراً.. كيف أفادك التواجد فترة طويلة فى موسكو؟
استفدت كثيراً، من أوجه مختلفة، لكن صدقنى إن قلت لك إن الفائدة الأعظم التى لا يتصورها أحد هى أن تتعرف إلى روح شعب آخر، إلى أعماق تلك الروح فى السهرات التى يقضيها الروس مع بعضهم، نكاتهم، حوارهم، طابعهم المتطرف، وعمق إنسانيتهم. الشعب الروسى حالة غير عادية، وهو مشغول فى قلبه بقضية العدالة، وبالشعور بأنه مسئول عن كل جرح على الأرض. العجيب أننى وجدت أن يحيى حقى قد أشار إلى هذا المعنى بالضبط، لكن اكتشافى لعبارة يحيى حقى كان بعد رجوعى إلى مصر. سافرت إلى روسيا برئة واحدة مصرية، وعدت برئتين، أتنفس شعبين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.