فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    النائب أحمد الشرقاوي: قانون إدارة المنشآت الصحية يحتاج إلى حوار مجتمعي    جهاز التنمية الشاملة يوزيع 70 ماكينة حصاد قمح على قرى سوهاج والشرقية    جولة داخل مصنع الورق بمدينة قوص.. 120 ألف طن الطاقة الإنتاجية سنويا بنسبة 25% من السوق المحلي.. والتصدير للسودان وليبيا وسوريا بنحو 20%    "نيويورك تايمز" تتحدث عن لحظة حساسة تخص حادث مروحية رئيسي.. تفاصيل    فرنسا تستثير حفيظة حلفائها بدعوة روسيا لاحتفالات ذكرى إنزال نورماندي    جوميز مدرب الزمالك المصري: نستحق الفوز بلقب الكونفيدرالية    نتائج مواجهات اليوم ببطولة الأمم الإفريقية للساق الواحدة    غدا.. أولى جلسات استئناف المتهم المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبد الغفور على حكم حبسه    الحرس الثورى الإيرانى يستخدم قنابل مضيئة فى عملية البحث عن مروحية الرئيس    رئيس «الفنون التشكيلية»: المتاحف الثقافية تزخر ب«كنوز نادرة» وأعمال الرواد    راغب علامة يُروج لأحدث أغانيه.. «شو عامل فيي» | فيديو    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    برلماني: قانون إدارة المنشآت لن يمس حقوق المنتفعين بأحكام «التأمين الصحي»    دموع التماسيح.. طليق المتهمة بتخدير طفلها ببورسعيد: "قالت لي أبوس ايدك سامحني"    رئيس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة: جرائم الاحتلال جعلت المجتمع الدولى يناهض إسرائيل    خبير تكنولوجى عن نسخة GPT4o: برامج الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إغلاق هوليود    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    بينها «الجوزاء» و«الميزان».. 5 أبراج محظوظة يوم الإثنين 19 مايو 2024    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للنوم في الطقس الحار بدون استعمال التكييف    الكشف على 1528 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    تحركات جديدة في ملف الإيجار القديم.. هل ينتهي القانون المثير للجدل؟    الجمعة القادم.. انطلاق الحدث الرياضي Fly over Madinaty للقفز بالمظلات    جدل واسع حول التقارير الإعلامية لتقييم اللياقة العقلية ل«بايدن وترامب»    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    «النواب» يوافق على مشاركة القطاع الخاص فى تشغيل المنشآت الصحية العامة    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    رئيس الإسماعيلي ل في الجول: أنهينا أزمة النبريص.. ومشاركته أمام بيراميدز بيد إيهاب جلال    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الخميسي: فهم العالم أصعب من محاولة تغييره
في «ورد الجليد» تشق الحياة طريقها وتنتصر علي كل شيء
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 06 - 2019

الروس مشغولون في قلوبهم بتنقية العدالة وكأنهم مسئولون عن كل جرح على الأرض
منذ أن قدمه يوسف إدريس في مجلة “الكاتب” عام 67، وصدور أولي مجموعاته القصصية »الأحلام، الطيور، الكرنفال»‬ بالاشتراك مع أحمد هاشم الشريف ومحمود مؤنس.. تغيرت كثير من الأمور بالنسبة لأحمد الخميسي.
في شبابه كان يتصور مثل الجميع في تلك السن أنه جاء ليغير العالم، وبعد نصف قرن، أصبحت كل قواه موجهة فقط لكي لا يغيره العالم، لكي لا يجبره علي أن يكتب أو يقول أو يفعل ما لا يعتقده، يقول: »‬كنت أظن أن تغيير العالم مهمة رئيسية إلي أن أدركت أن فهم العالم أصعب من تغييره، أيضا فهم الفن، وجوهر الكتابة، والطبيعة البشرية».
في مجموعته الجديدة »‬ورد الجليد» يمكنك أن تشم رائحة أحمد الخميسي تملأ السطور بتلك البهجة وذلك الأمل الذي لا تعرف من أين يستمده أبطاله، إنهم يعيشون واقعاً بائساً، ومع هذا يستمتعون بكل لحظة تمر من أعمارهم، أحمد الخميسي يشبه أبطاله كذلك، ومعظمهم أشخاص مسنون يبحثون عن الألفة، الألفة في وجوه أشخاص من أعمارهم، أو في وجوه أبنائهم، في إحدي القصص وبينما يحاول البطل إنزال قدمه من السيارة إلي الأرض تشعر أن ذلك البطل هو أحمد الخميسي، وأن الفتاة هي ابنته الكاتبة »‬آنا» أو »‬هانيا» كما يناديها بالعربي. ستري في محادثاتهما، الأب والابنة، سواء في القصة أو الواقع، ذلك الحب الممتزج بصراحة قد تبدو للبعض قاسية، تستمع آنا إلي أحمد الخميسي، يقرأ لها ما يكتبه أولاً بأول، حتي وهو مسودة، والسبب أنه يثق في حسها الأدبي، وفي أنها لن تجامل بحرف، وقد تقول له ببساطة: »‬الموضوع حلو بس ممل يا بابا»، ثم تشرح له لماذا هو ممل؟ يقول الخميسي كأنما يتحدث علي لسان بطله الطيب والنبيل : »‬معها أجد ما أنشده لدي الأصدقاء: الصراحة، لكن الأصدقاء عادة ما يتفادون النقد الصريح، أما هي فتكلمني كما تشاء. كانت وهي طفلة جزءاً صغيرا مني، والآن أوشك أن أكون جزءاً صغيراً منها».
في هذا الحوار يتحدث أحمد الخميسي عن عالم مجموعته الجديدة التي تضيف كثيراً لفن القصة القصيرة. كلام بسيط لكنك تعرف بالضبط بعد أن تقرأه الكثير عن هذا العالم النبيل الذي يمده بأفكاره وشخصياته والأهم بتفاؤله المدهش والغريب.
معظم القصص أبطالها مسنون، كاتب في قصة »‬غلطة لسان»، رجل تنمحي ملامحه عندما يصل إلي الخمسين »‬قدمان»، مسن يتمني أن تفهم ابنته نظراته، ولو في المستقبل »‬علي ربوة»، الجد النحيف »‬فرحة صغيرة»، الزمن الذي يعرِّفنا أن البطل وكذلك نينا أندريفنا صارا كبيرين، بعدما كانا شابين في مقتبل الحياة، حينما جمعتهما موسكو »‬ورد الجليد»، الكهل المتصابي »‬غداً»، كبير السن الخائف من اتهامه بلمس فتاة »‬تحرش» علاء فكري كاتب عجوز آخر »‬بيسا»، والطبيب طاعن السن في قصة »‬جراحة».. لماذا سيطر كبار السن علي تلك المجموعة.. هل تريد القصص أن تفهم ما يفعله الزمن بالإنسان في لحظة متأخرة؟
أشكرك بداية علي هذا السؤال، لأنه يلقي الضوء لي شخصيا علي فكرة لم تطرأ لي، فكرة ربما كانت كامنة في اللاوعي وأنا أكتب أعني: الزمن، أو الشيخوخة. سؤالك يثير الأسئلة فقط وما من إجابة. هل سيطر كبار السن علي المجموعة لأنني شخصيا أخذت أشعر بوطأة الزمن الذي يتناقص ويذوب؟ هل يعني ذلك أنني استغرقت في تأمل نفسي؟ أي أن الكاتب انساق وراء حالته الشخصية من دون أن يجد القاسم المشترك بين مشاعره وحالات الآخرين؟ لكني سأفكر في سؤالك، لأن الأدب في أفضل تعريف له هو كما قال أورهان باموق: »‬أن تحكي حكايتك كأنك تحكي حكاية الناس، وأن تحكي حكاية الناس كأنك تحكي حكايتك»، أي أن الأدب هو رؤية العالم من خلال ذاتك، ورؤية ذاتك في إطار العالم. هل انغمست في همي الذاتي ولم أخرج به أو منه إلي العالم؟ لا أدري. ولا أجد إجابة سريعة وصحفية علي سؤال يحتاج إلي تفكير: لماذا سيطر كبار السن علي مجموعة »‬ورد الجليد»؟ فقط أود أن أشير إلي أن سيطرة كبار السن لم تكن تعني ضياع الأمل، هناك أمل في قصص المجموعة، حتي لو كان خافتاً، وقصة »‬ورد الجليد» هي قصة المحبة التي تقاوم كل شيء وتشق الجليد وتنمو حتي في الصقيع. قصة الأمل ونجمة السعادة الساحرة.
في قصة »‬غلطة لسان» وخلال آخر حوار للكاتب العجوز، أخطأ وهو يتحدث عن الكتَّاب الذين ينصح القراء بمتابعة أعمالهم، وذكر منهم »‬عبدالعال شعبان»، وهو يقصد »‬عبدالعاطي وهدان»، مات الكاتب العجوز ونُشر الحوار الأخير معه، وتلقف الجميع الاسم الذي نصح الناس بمتابعته، وكتبوا عنه المقالات ونشروا صوراً له، وادعوا أن لديه رواية لم يكتمل نشرها، وكرمته الدولة بجائزة الدولة التقديرية، وغيرها، مع أنه شخص غير حقيقي بالمرة، هل المبالغة في تلك القصة هدفها كشف خطايا الواقع الثقافي؟
بالطبع المبالغة هي وسيلة لكشف الحقيقة. لقد بالغ جوجول حين جعل »‬كوفاليوف» بطل قصته الشهيرة »‬الأنف» يستيقظ ذات صباح وينظر في المرآة ولا يجد أنفه! وبالغ »‬جوناثان سويفت» حين جعل بطله جوليفر عملاقا مرة وقزماً مرة أخري، وبالغ كافكا في روايته »‬المسخ» حين جعل بطله جريجوري سامسا يصحو ليجد نفسه وقد تحول إلي حشرة! هناك مبالغة كاريكاتورية في قصة »‬غلطة لسان»، لكنها المبالغة التي تعري الحقيقة. وعامة فإن الفن علي امتداد تاريخه كان نوعاً من المبالغة في قدرة الإنسان الروحية في التغلب علي الزوال والفناء وعلي الطبيعة العارضة لوجوده وحياته.
تقول قصة »‬الشاهد» إننا نري لكننا عميان، كل منا مشغول بذاته، نسمع استغاثة امرأة تتعرض للاغتصاب أو نشاهدها وهي تعاني من آثار تلك الكارثة، ومع هذا فإن الضباب الذي يسيطر علي عقولنا يمنعنا من رؤيتها جيداً في محنتها، ونسوق كثيراً من التبريرات لسلبيتنا.. ما رأيك؟
نعم. أنت محق. نحن نري كيف تغتصب شابة في مقتبل العمر لكننا نتظاهر بأننا لم نر، وأن ذلك لم يحدث أمام أعيننا، أو أننا لم نكن موجودين ساعة الحدث. جميعنا بدرجات وبطرق مختلفة مشاركون ليس فقط في الاغتصاب، بل وفي كل جريمة أخري، بدءاً من سرقة صبي لرغيف خبز، مروراً بمقتل امرأة عجوز علي يد أحد أقاربها، وانتهاء بأكبر الجرائم في معتقل أبوغريب وغيره. نحن جميعاً ذلك »‬الشاهد» الذي يتملص من المسئولية ويتذرع بأنه لم يكن هناك وقت الجريمة، لكن الحقيقة أننا هناك دائماً، ودائماً مسئولون، لأن البشرية تشبه شبكة عصبية كل شعيرة فيها متصلة بالأخري وتحس بأقل ارتجافة في أبعد نقطة، وملزمة بالمشاركة في تصحيح المسار.
هل يكرر الزمن نفسه في الأبناء؟ هل المعادلة في قصة »‬علي ربوة» هي أن الصغار لا يشعرون بالكبار ويضيقون بهم رغم محبتهم لهم، وأن الإشارات التي يرسلها الكبار عبر النظرات لن تصل إلي الصغار إلا في وقت متأخر جداً؟ هل المحبة لا تصل إلا بعد الموت أحياناً؟
أظن أن قصة »‬علي ربوة»، لو جاز أن تستخلص من القصة،أي قصة، معني واحداً، فهو الإشارة إلي مأساة أن الإدراك لا يحل في وقته، فنحن قد لا نفهم غلاوة المحبة إلا متأخراً، عندما نكون قد فقدنا حرارة القلب، وعندما تكون قلوبنا مشتعلة بالأحلام ينقصنا الإدراك الذي يحول الحلم لحقيقة. أحياناً تعشق فتاة، لكنك تفقدها لأنك لم تفهمها، أو أنها لم تع من أنت. المغزي كما أعتقد أننا لا نفهم كيف نحب بعضنا البعض في الوقت المناسب، أو أن الوقت والظرف لا يكونان مناسبين للطرفين في لحظة واحدة. الناس يلتقون في مواسم متأخرة أو متقدمة.
رغم أن أبطال القصص يعانون ما يعانون من مصاعب الحياة إلا أن هناك إحساساً طوال الوقت بأنهم يرغبون في الإكمال، يبحثون عن لحظات سعادة مختلسة، ولا يفقد معظمهم ذلك الحنو البالغ وتلك الرهافة المفرطة التي تحافظ علي آدميتهم رغم كل شيء.. هل توافقني علي ذلك؟
ربما.. هناك ذلك الأمل الضعيف مثل أنفاس خافتة، لكنه موجود. في مجموعتي القصصية »‬قطعة ليل» كتبت الإهداء إلي: »‬المستقبل الذي لا يأتي أبداً»، وبالرغم من قسوة الإهداء إلا أنك تسمع فيه أملاً في أن يحل المستقبل غداً، أو اليوم، أو حتي الآن. وأظن أن شدة اليأس هي لحظة أقوي أمل.
في قصة »‬فرحة صغيرة» يلعب الجد مع حفيده حاتم، وكذلك يلعب مع بائع »‬الروبابيكيا»، يدخل معه في جدال حول ثمن مجموعة من الجرائد القديمة لكنه يفاجئ البائع في النهاية بأنه سيمنحها له مجاناً، إلا أننا نعلم مع البائع أن ذلك مشهد متكرر يبدأه الجد بالفصال في السعر ثم يمنح الجرائد مجاناً، وأن تلك الفرحة التي يبديها البائع بالغنيمة المجانية مجرد تمثيل من البائع لأنه يعلم مسبقاً أنه سيحصل علي الجرائد مجاناً. حينما نكتشف أن الجد العجوز مصاب بالزهايمر تنطفئ الفرحة قليلاً، غير أن الجد يتذكر حفيده حاتم ويعود للهو معه. هل القصة تقول إن الإنسان في نهايته يرتد طفلاً كبيراً؟
لا، ليست الفكرة أن الإنسان يرتد إلي طفل في شيخوخته، لكن لعل الفكرة هي أن الإنسان يفرح بالخير، ويحتاج إلي تقدير، الجد سعيد بأنه يفاصل البائع وهو يعلم مسبقاً أنه سيختتم كل ذلك بإعطاء الجرائد مجاناً، هي سعادة الإنسان بالخير، ثم احتياجه إلي تقدير الآخرين لما قام به، هو خير من نفس طفولية. مع ذلك ربما يكون المعني كما قلت أنت »‬الإنسان يرتد طفلاً».
صورة المرأة جميلة في هذه القصص، وفي القلب منها »‬نينا أندريفنا»، التي جمعت شباباً من جميع الجنسيات حولها، وأنستهم غربتهم الصعبة في موسكو، هل الأنثي هي مفتاح أي مدينة غريبة بتعبير جمال الغيطاني؟
المرأة، شقيقة المرء، وهي ليست مفتاح أي مدينة غريبة بل هي مفتاح كل المدن الغريبة والقريبة والمتخيلة، مفتاح العالم بالنسبة للرجل كما أن الرجل مفتاح العالم لها. لم تكن »‬نينا أندريفنا » مفتاح مدينة غريبة، بل مفتاح أحلام بلا نهاية بعالم يري فيه كل إنسان نجمة سعادته الساحرة.
»‬ورد الجليد» هو عنوان المجموعة وكذلك عنوان القصة الأكبر حجماً بها، قصة نينا أندريفنا، وهو يشير إلي ورود بيضاء تشبه الدانتيلا تنمو تحت الجليد القاسي، هل اخترت هذا العنوان للإشارة إلي أن الحياة تجد مكاناً لنفسها رغماً عن هذا العالم الغريب القاحل والموحش؟
الزهور التي تنمو تحت سطح جليد شفاف حقيقة يعرفها الروس، وقد اخترت الاسم »‬ورد الجليد» ليكون عنواناً للقصة أولاً، ثم وضعته عنواناً للمجموعة، وبالطبع العنوان ينطوي علي إشارة إلي أن الحياة تشق طريقها وتنتصر علي كل شيء، وعلي وجه الدقة المحبة تشق طريقها في أتعس الظروف. مجموعة طلاب أجانب يدرسون، يعانون الغربة، واللغة التي لا يعرفونها، والبرد الروسي، ومع ذلك تنشأ بينهم صلات المحبة، وتنمو تلك الصلات مع المعلمة »‬نينا أندريفنا»، وتتطور قصص الحب إلي زواج في بعض الحالات. كل هذا يتم في ظروف قاسية، في عالم صعب، كما تنمو الزهور تحت سطح الجليد الشفاف.
موبوتو »‬الأسود» إحدي شخصيات »‬ورد الجليد» تعرض لموقف صعب، فقد اقترب منه صبي كان مع أمه في مخبز، وبلل إصبعه ومرره علي ذراعه ليري إن كان سواده لوناً طبيعياً أم صبغة تزول بالماء.. هل كانت إشارة نينا أندريفنا إلي أصول بوشكين الحبشية كافية لعلاجه من الصدمة؟ بوشكين العظيم »‬كان أسمر، ولو أنه توقف عن كتابة الشعر لأن أحداً ضايقه بكلمة أو نظرة لما كانت روسيا قد أصبحت بهذا الجمال»، هل هذه الجملة الفنية تصلح للتطبيق علي أرض الواقع؟
قد لا تكون الجملة واقعية، بمعني أنها لا تقدم حلاً، لكن إشارة نينا أندريفنا إلي ذلك كان القصد منها تشجيع الولد الأسود علي مواصلة دراسته، وتحفيزه لكي يتماسك ولا ينكسر تحت وطأة كلمة أو نظرة. أما علي أرض الواقع فإن حل مثل تلك المشكلات يحتاج إلي تغيير الثقافة وإلي إجراءات أخري كثيرة.
في »‬الغريب» نتحول إلي غرباء وسط أهلنا، هل أصبح الإنسان الحديث مجبولاً علي الحياة في خوف، حتي وهو يعيش في أرضه؟
أظن أن الإنسان يصارع الخوف منذ بدء الخليقة، خوفه من الوحوش الضارية وهو ابن الكهوف والصخور، ثم خوفه من البشر وهو ابن الحضارة، ثم خوفه من الحضارة نفسها ومن سقوط نيزك يشطر الكرة الأرضية. الخوف قدر مثل الحب. لكن الفكرة الرئيسية في قصة »‬الغريب»أنك إذا طاردت إنساناً من دون أن تتحقق من الأسباب فقد تجد نفسك مكانه “غريباً” بين أهلك.
لماذا زاوجت في بعض حوارات القصص بين العامية والفصحي»؟
هناك مشكلة تاريخية في موضوع استخدام الفصحي والعامية. أنا شخصياً أتمسك بقول نجيب محفوظ في حواره مع فؤاد دواره: »‬الذي وسع الهوة بين الفصحي والعامية عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية.. ويوم ينتشر التعليم سيزول هذا الفارق أو سيقل كثيراً». لكني نادراً ما أستخدم العامية، وحين أستخدمها أتخير منها ما هو فصيح مثل كلمة »‬شوية» أو »‬بس» وغيرها من الكلمات التي يظنها الجميع عامية وهي فصيحة.
هناك حضور للطفولة كذلك في تلك المجموعة، وللشباب، وكأنك تعيد مرة أخري إلي الأذهان »‬الأجيال الثلاثة» لأسرة الخميسي، الأب عبدالرحمن الخميسي، والابن أحمد الخميسي، والابنة آنا الخميسي.. هل خطر لك ذلك أثناء الكتابة؟
الحق لم يخطر لي ذلك، لكن الطفولة بالنسبة لي حاضرة طول الوقت، وأظنها حاضرة في روح كل إنسان، فقط هناك من يواصل النظر إلي بحيرة تلك الأيام السعيدة ويغترف منها للفن، وهناك من يشيح بوجهه عنها، لكنها حاضرة، هي المملكة التي لا يموت فيها أحد. ومن العبارات التي علقت بذهني منذ أن قرأتها قول فرويد: »‬إن الأطفال آباء الرجال»، أي أن الطفولة هي التي تخلقنا. الطفولة عالم سعيد يحن إليه الجميع، لكن ذلك المعني لم يكن حاضراً في ذهني وأنا أكتب.
هل بعض الأبطال مصابون بنوع من الاختلال، مثلاً فاطمة في قصة »‬وقت حلو» تتعرض لإهانة مذلة مع طفليها نجوي وناجي، ولم تستطع تدبير فسحة لهم، سوي النظر إلي البحر من بعيد، ومع هذا تقول في نهاية القصة: »‬والنبي قضينا وقت حلو يا أولاد»، هل هو اختلال، أم العيش في وهم؟
أظن أن فاطمة كانت تحاول وهي في قاع المهانة والألم أن تهون علي طفليها، وأن تصور لطفليها فشلها الذريع في تدبير رحلة الي البحر بصفته نجاحاً، وأن تقدم لهما خيبة الأمل والإخفاق بصفته نجاحاً مشرقاً. لكنها تعي ذلك، ولهذا فإن عبارتها كانت مصحوبة بدموعها.
حس السخرية يظهر في كثير من القصص، كما يحدث مثلاً في مشهدين للطفل ناجي الذي يقفز إلي حضن الست تحية ويكيل لها كثيراً من القبلات رغماً عنها وبشكل يدفعها للتقزز، هل تخفف السخرية من قسوة العالم؟
السخرية لا تخفف من قسوة العالم فحسب، لكنها تقاوم تلك القسوة، وتهدم حصونها، وتفتح ثغرة للأمل، وكان الكاتب العظيم أنطون تشيخوف يقول إنه لا يستطيع أن يفهم كاتباً يخلو من حس السخرية، وهناك روايات لا تنسي قائمة علي السخرية، أظن واحدة من أعظمها هي »‬تورتيلا فلات»لجون شتاينبك، وأيضاً »‬الحارس في حقل الشوفان» لسالينجر، وغيرها. السخرية معناها أنك لا تعترف بذلك الوجه المتجهم للعالم، وتري أن هناك وجهاً آخر لابد أن يبرز.
لديك 7 مجموعات قصصية.. ألم تفكر مرة ولو من باب التجريب أن تكتب الرواية؟
لم أفكر في كتابة الرواية ولا لحظة واحدة، ولكن بعض الزملاء الشباب من الصحفيين يقدمونني في أحيان كثيرة بصفتي روائياً، فأقول لهم لست روائياً، إلي أن قال لي أحدهم : »‬ وليه مش روائي؟ أنا أعرف واحد أصغر منك وروائي»! الرواية تبدو جبلا عاليا، مرهقا، أيضا هي خارج طبيعتي النفسية والعقلية التي تري العالم في لحظات، أما الروائي فله طبيعة نفسية وعقلية تري اللحظات في إطار العالم. أظن أنها مسألة طبيعة انفعالية. أيضاً هناك يوسف إدريس وأنطون تشيخوف ومحمود البدوي وغيرهم لم يكتبوا سوي القصة. الأكثر من ذلك أنني أعتقد أن القصة هي الشكل المرشح للبقاء مستقبلاً في ظل العالم الإلكتروني الموجز الذي نحياه.
حتي نصل إلي ذلك المستقبل.. هل فن القصة القصيرة المصرية قادر علي مزاحمة الرواية التي تحظي بكثير من الاهتمام النقدي والجوائز المالية الكبري حالياً؟
الأشكال الفنية لا تزاحم بعضها البعض في اعتقادي، هي تتجاور، القصة القصيرة ظهرت بعد الرواية بنحو مائة أو مائة وخمسين عاماً، ولو كانت الرواية تسد الاحتياج الذي تسده القصة القصيرة ماظهرت القصة، وقد عرف تاريخ الفن اختفاء أشكال معينة مثل »‬الأوبرا» التقليدية التي تعتمد علي الغناء الاصطناعي، اختفي هذا الشكل، وبالطبع اختفت الملاحم التي ارتبطت بطفولة المجتمع البشري، لكن القصة القصيرة ليست شكلاً مرشحاً للزوال، بالعكس المستقبل مفتوح أمامها. أما عن أن الرواية تحظي باهتمام وتخصص لها جوائز وما شابه فهذا لا يعني شيئا ذا وزن. وبالمناسبة يحتفل العالم يوم 14 فبراير من كل عام بيوم القصة القصيرة، ومنذ سنوات نالت »‬آليس مونرو» نوبل عن قصصها القصيرة، وظهرت لدينا جائزة ملتقي القصة القصيرة. الموضوع مرتبط علي ما أظن بعدم اهتمام النقد بالقصة ليس أكثر.
هل يمكن القول إنك تنتمي إلي جيل الستينيات، هل وضعك أحدهم في جيل قبل ذلك؟
في واقع الأمر، أنا أنتمي لجيل الستينيات، كان أصدقائي أبناء ذلك الجيل: يحيي الطاهر عبد الله، أمل دنقل، أحمد هاشم الشريف، جمال الغيطاني، لكني اعتقلت نحو ثلاثة أعوام بسبب مظاهرات الطلاب في فبراير 1968، وعطلني ذلك، ثم سافرت بعد هذا الي الاتحاد السوفيتي، وبقيت طويلاً هناك. لكن التصنيف حسب الجيل ليس دقيقاً، هناك مثلاً الكاتب جار النبي الحلو، هو ينتمي من حيث السن والتكوين لجيل الستينيات لكن من حيث تاريخ ظهور إبداعه ينتمي للسبعينيات،. وإذن علي أي أساس يتم التصنيف؟ سن الكاتب؟ أم تاريخ ظهور إبداعه؟ أم رؤاه الفكرية؟ لكني عامة لا أستريح لهذه التصنيفات، لأنها تشبه وضع الكاتب في قفص بالعافية.
أخيراً.. كيف أفادك التواجد فترة طويلة في موسكو؟
استفدت كثيراً، من أوجه مختلفة، لكن صدقني إن قلت لك إن الفائدة الأعظم التي لا يتصورها أحد هي أن تتعرف إلي روح شعب آخر، إلي أعماق تلك الروح في السهرات التي يقضيها الروس مع بعضهم، نكاتهم، حوارهم، طابعهم المتطرف، وعمق إنسانيتهم. الشعب الروسي حالة غير عادية، وهو مشغول في قلبه بقضية العدالة، وبالشعور بأنه مسئول عن كل جرح علي الأرض. العجيب أنني وجدت أن يحيي حقي قد أشار إلي هذا المعني بالضبط، لكن اكتشافي لعبارة يحيي حقي كان بعد رجوعي إلي مصر. سافرت إلي روسيا برئة واحدة مصرية، وعدت برئتين، أتنفس شعبين.
كانت آنا الخميسي جزءاً مني وهي صغيرة والآن أوشك ان أكون جزءاً صغيراً منها
صورة تجمعه بالأستاذ نجيب محفوظ وهي من تصوير الأستاذ جمال الغيطاني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.