كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    أيمن يونس عن فوز الأبيض بالكونفدرالية: «الزمالك استعاد هيبته»    الجزيري: نهدي الفوز بالكونفدرالية لجماهير الزمالك    جوميز: أُفضل الفوز بالسوبر الإفريقي بغض النظر عن المنافس    مصدر أمني ينفي مزاعم الجماعة الإرهابية بحدوث سرقات بالمطارات    هيا نقرأ معاً.. قصور الثقافة تشارك معرض زايد لكتب الأطفال بفعاليات وورش إبداعية    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    مستشار اتحاد الصناعات: على الدولة إعادة النظر في دورها من مشغل إلى منظم    تقرير رسمى يرصد 8 إيجابيات لتحرير سعر الصرف    النائب أحمد الشرقاوي: قانون إدارة المنشآت الصحية يحتاج إلى حوار مجتمعي    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    عواصم دول عربية وأجنبية تتابع بقلق بالغ أنباء حادث تحطم مروحية الرئيس الإيراني    شيخ الأزهر مغردا باللغة الفارسية: خالص تضامننا مع إيران    الشرق الأوسط بات على شفير الهاوية.. ومقاربة واشنطن المضلّلة    باريس سان جيرمان يختتم الدوري الفرنسي بثنائية ميتز.. وبريست يتأهل لأبطال أوروبا    شيخ الأزهر بالفارسية: نتضامن مع إيران وندعو الله أن يحيط الرئيس ومرافقيه بحفظه    الأمم المتحدة: ما يحدث في غزة تطهير عرقي أمام العالم    مصر في 24 ساعة| تطورات حادث سقوط طائرة الرئيس الإيراني.. والسيسي يهنئ الزمالك بالكونفدرالية    العراق: المفاوضات مع الشركات النفطية الأجنبية بإقليم كردستان لم تحقق أي تقدم    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    حسن شحاتة: الزمالك أهدر فرص عديدة والجماهير قدمت المطلوب    جماهير الزمالك تحتفل بالكونفدرالية أمام مقر النادى بالشماريخ    مصدر يكشف موقف الأهلي بعد تشخيص إصابة علي معلول    حسام وإبراهيم حسن يهنئان نادي الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية    المثلوثي: سعيد بالتتويج بالكونفدرالية.. ونعد الجماهير بحصد بطولات أكثر    عيار 21 بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب اليوم الإثنين «بيع وشراء» في مصر بالمصنعية (تفاصيل)    مظاهر احتفالات عيد الأضحى بقطر 2024    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    غدا.. أولى جلسات استئناف المتهم المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبد الغفور على حكم حبسه    تحذير من التعرض للشمس، حالة الطقس اليوم الإثنين 20-5-2024 في مصر    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    مقرر لجنة الاستثمار بالحوار الوطنى: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية    خبيرة ل قصواء الخلالى: نأمل فى أن يكون الاقتصاد المصرى منتجا يقوم على نفسه    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عمر الشناوي: لو تم تجسيد سيرة جدي سيكون الأقرب للشخصية إياد نصار أو باسل خياط    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    راغب علامة يُروج لأحدث أغانيه.. «شو عامل فيي» | فيديو    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    برلماني: قانون إدارة المنشآت لن يمس حقوق المنتفعين بأحكام «التأمين الصحي»    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عماد فؤاد: الشوارع ربَّتنا أكثر من آبائنا
نشر في أخبار السيارات يوم 17 - 05 - 2019

رحلة كبيرة قطعها عماد فؤاد من إحدى قرى الدلتا إلى القاهرة، ومنها إلى بلجيكا، رحلة أراد أن يحقق فيها بعضاً مما تمناه، حياة كريمة لائقة، وتميزاً شعرياً، إنه أحد الأسماء التى يُنظر إليها بجدية لا فى مصر فقط، ولكن فى العالم العربى، أصدر عماد ستة دواوين زيَّنها بديوانه الأحدث «تلك لغة الفرائس المحظوظة»، وهو أحد الشعراء غير المكتفين بأنفسهم، حيث حاول بمحبة لافتة أن يقدِّم غيره من شعراء ارتبط بهم وأحب أعمالهم فى أنطولوجيا صدرت فى جزئين.
عماد فؤاد هو الأخ الأكبر لخمسة أخوة، ولُد فى أسرة فقيرة لفلّاحيْن نزحا من إحدى قرى الدّلتا إلى القاهرة سنة 1976، أى بعد ولادته بعامين، وكبر فى شوارع شبرا الخيمة وفى أحيائها الشّعبية مثل بهتيم وعزبة الصّعايدة ومسطرد، ولم يكن عفيًا بما يكفى ليجارى الحياة الصّعبة فى الشَّوارع. يقول: «كنت الصّبى المهذّب قليلًا، المتفوّق فى مدرسته، الذى يشاهد المشاجرات الطّاحنة بالمطاوى والسّنج والجنازير عن بعد، فيما ركبتاه ترتعشان من الرّعب، لكنّه الصّبى ذاته الذى يستمتع بردح النّساء لبعضهنّ البعض فى نهارات الصّيف، فيما رجالهنّ يرتدون الفانلات البيضاء ويدخّنون السجائر فى البلكونات».
وهكذا أن تعيش وتشاهد تفاصيل الحياة اليومية فى أفقر أحياء مصر الشّعبية أوائل ثمانينيّات القرن الماضى، كان النّواة الأولى التى جعلته يلجأ إلى القراءة فى سنّ مبكّرة: «كنت أقضى شهور العطلة الصّيفية طوال طفولتى فى قرية والدى بالدّلتا، وهو ما جعلنى أحيا طفولة غنيّة بجانبيها الرّيفى والمدينى. وفى أسرة بسيطة كهذه يكبر الأبناء نتيجة التجربة المباشرة مع الواقع، وليس من منظور الأب والأم فقط. وربما يكمن الاختلاف بين الأجيال القديمة والجديدة فى هذه النّقطة تحديدًا، وهى أن الشّوارع علَّمتنا وربَّتنا أكثر من آبائنا، فيما نشأتْ الأجيال الجديدة بعيدة عن تأثير الشّارع المباشر عليها، نتيجة الخناق التربوى الذى صرنا نمارسه نحن الآن كآباء تجاه أطفالنا بحجّة حمايتهم من الشّارع. من هذه العوالم الثّرية والمتناقضة تشكّلت شخصيتى وذائقتى الإبداعية بشكل أو بآخر».
فى هذا الحوار يتحدث عماد فؤاد باستفاضة عن ديوانه الجديد، وعن تجربته الشعرية عموماً، وكذلك عن الغربة، وما فعلته فيه الحياة والأبوة، وتلك الرحلة الطويلة ذهاباً وإياباً من عاصمة إلى أخرى، ومن وطنه «هنا» إلى حيث يعيش «هناك» فى قلب أوروبا.
لنبدأ من الأسئلة العامة.. أكثر من 20 عاماً على صدور ديوانك الأول «‬أشباح جرَّحتها الإضاءة».. ما الذى تغيَّر طوال هذا المشوار فى نظرتك إلى الشِّعر والكتابة عموماً؟
تغيّر الكثير، وأكثر مما كنت أظنّ أنّنى قادر عليه، ونحن صغار نكون أكثر خشونة فى التّعامل مع ما يحيط بنا من أمور وأفكار وسلطات. تقودنا رعونة عفيّة وجميلة للصّدام مع الآخر، الآن بتُّ أكثر تأمّلًا فى ما وراء المكتوب، ولم تعد نظرتى للأمور بالحدِّة القديمة.
مَن الشعراء الذين تنتمى إليهم جمالياً، هل أنت امتداد للتجربة الشعرية فى مصر، أم أن آباءك غربيون؟
لا أعرف إن كنت أستطيع الردّ على سؤالك هذا أم لا، لكنّنى لا أعتقد أنّ هناك روابط جمالية ما أستطيع أن أقول إنها الأقرب لى، باسثناء جوهر الشِّعر وانتصاره لكلّ ما هو إنسانى. حين يفكّر المرء فى قائمة الشُّعراء الذين يحبّهم لن يجد روابط محدّدة وواضحة بينهم، بل على العكس، ربما سيندهش من اختلافهم الفكرى والثّقافى والفلسفى والدّينى أكثر من اندهاشه من تشابههم، وعلى الرّغم من ذلك يجمعهم خيط واحد بسيط وشفّاف إلى درجة أنّه لا يُرى، هو انتصارهم للفطرة الإنسانية المشتركة بين جميع البشر فى أيّ مكان وأيّ زمان، بشرِّها وخيرها، بأبيضها وأسودها، وإلا ما الذى يجمع مثلًا بين أبى العلاء المعرّى أو شيكسبير بنيرودا أو نيكانور بارا؟ ما الذى يربط بين رابعة العدوية أو ولادة بنت المستكفى بجويس منصور أو سنيّة صالح؟ ما الخط المشترك بين حمورابى وأخناتون وكونفيشيوس وبوذا من جهة وعلى بن أبى طالب وابن رشد والنّفرى من جهة أخرى؟ تختلف الأزمان والعهود وتقام ممالك وتنمحى امبراطوريات، ويبقى الجمال هو هو أينما كان، سنقف فاغرى الأفواه أمام رسم حفره إنسان بدائيّ فى أحد الكهوف كما سنقف بالفم ذاته أمام لوحة لدافينشى أو إيجون شيلى أو ديفيد هوكنى. نستعيد اليوم بيتًا شعريًا لأبى نواس أو المتنبّى بالعذوبة ذاتها التى نردّد فيها مقطعًا شعريًا لوديع سعادة أو سركون بولص أو صلاح جاهين، هنا تكمن عظمة جوهر الشِّعر، وعظمته أنّه ليس حكرًا على قالب أو شكل ما، لأنّه أوسع من أن تحدّه حدود.
هل الأنطولجيا التى أصدرتها فى جزءين شملت كل الشعر أم من تفضلهم جمالياً؟
ليس هناك أنطولوجيا يمكن لها أن تشمل «‬كل» الشِّعر، لأنّ الشِّعر ليس كتلة واحدة كى يمكن الإحاطة به، كلّ أنطولوجيا هى اختيار وانتقاء، ومن ثمّ فهى أيضًا - وفى الوقت ذاته - إبعاد وإقصاء. انحزت فى اختياراتى لذائقة جمالية تنتصر لما أراه شعرًا فى تجربة قصيدة النّثر المصرية على مدى 30 عامًا، وعبر ثلاثة أجيال، مؤكّد أنّنى حكّمت رؤيتى الشّخصية جدًا كقارئ وشاعر متابع للمشهد الشِّعرى المصرى خلال العشرين عامًا الماضية، وتبلورت فى اختياراتى النّهائية والتى ظهرت فى الأنطولوجيا ل 53 شاعرًا مصريًا، وكلّ ما أرجوه ألا تكون سلبيّات الأنطولوجيا بجزءيها أكبر من إيجابياتها، وإلا أكون فشلت فى تحقيق ما كنتُ أطمح إليه منها.
فكرة بدء الكتابة مبكّرا جدًا وأنت فى سن صغيرة هل وراء نضجك المبكر فى الشعر؟
لا أعرف إذا كنتُ قد وصلت إلى ما يمكن لى أن أسمّيه نضجًا أم لا، لكن بدايتى مبكّرا فى الكتابة علّمتنى أنّه لا مرحلة معيّنة من النّضج يجب أن يصلها الكاتب كى يكون كاتبًا، الكتابة موهبة أولًا وأخيرًا، يمكن لك أن تصقلها بالدّراسة والبحث والتّجريب، لكن لا يمكن لك بالدّراسة والبحث والتّجريب أن تصير كاتبًا، هذا ما تعلّمته حتى يومنا هذا، وهو ما يجعلنى أتعامل مع كلّ كتابة جديدة لى باعتبارها الأولى، أدخل كلّ مشروع جديد كما لو كنتُ أكتب لأوّل مرّة، صحيح هناك تطوّر أشعر به فى حرفيّة التّعامل مع النّص، وهناك الخبرة التى تراكمت حيال دروب الكتابة، لكن هناك أيضًا هذا الولع بالتّجريب وبالبحث عن مناطق جديدة، لذا أرجو ألا أصل أبدًا إلى هذه المرحلة الثّابتة أو اليقينيّة من الشّعور بالرضا عمّا قدمته حتى الآن، أُفضِّلُ أن أبقى ساعيًا إلى النّضج من أن أصل إليه.
وما الذى تفتقر إليه فى غربتك؟
الكثير جدًا، الغربة تجربة مرَّة واختبار كان لا بدّ منه لأتعلّم الكثير عن نفسى، لولاها لما كتبت ما كتبت، لكن على الجانب الآخر ثمّة دائمًا هذا الافتقاد الآسر لحياة أخرى يمكنك الانتقال إليها وقتما شئت، وجودى خارج مصر مستمرّ ليقينى التّام أنّ هناك مكانا لى فيها أستطيع أن أعود إليه يومًا ما، فكرة الاغتراب لم ترسّخ بداخلى إلا احتياجى الدّائم لمكان فى البلد الذى هجرته.
ما الذى تعنيه لك فكرة الأبوة، هل كنت من المنادين بقتل الأب؟ ما الذى تعنيه بالنسبة إليك العائلة وقيمة الصداقة؟
أعتقد أن تجربة الأبوّة هى أجمل ما مررت به فى حياتى حتى الآن، تعلَّمت من آدم وإيليا أكثر ممّا علّمتهما، وجعلانى أنظر للحياة من منظور جديد ومختلف، وليس غريبًا أنّ تجربتى كأب هى التى جعلتنى أستوعب علاقتى المضطربة مع أبى حين كنت مراهقًا. ستجدنى مثلًا أكتب كثيرًا عن طفلى وأمّى وإخوتى فى قصائدى، وعن فكرة البيت والعائلة، ليقينى التّام أنّ كلاً منّا كائن هشّ دون هذه المرجعية الأسريّة أو العائليّة التى تشعره بالانتماء إليها. من أجمل اللحظات التى أستمتع فيها الآن حين أرى أمّى تداعب ابنى أو أشاهد أبى يناكف أحدهما ويتعاركان.
إذا اتجهنا إلى ديوانك «‬تلك لغة الفرائس المحظوظة»، الصادر عن «‬ميريت»، سنجد أن عنوانه مركب، والغريب أنك تميل فى معظم عناوينك، إما إلى عنوان على هذه الشاكلة، أو عنوان من كلمة واحدة.. لماذا؟
العنوان بشكل عام إحدى العتبات الرئيسية والمهمّة لأيّ نصّ أدبيّ، لذلك أولى اهتمامًا خاصًّا بالوقع اللّغوى له وارتباطه بعالم العمل نفسه الذى أشتغل عليه. أحيانًا يستقرّ العنوان أمامى أثناء العمل على الكتابة لفترات طويلة، وأحيانًا أخرى أجده يتبدّل ويتغيّر يومًا بعد يوم تبعًا لتطوّر العمل واكتمال تشكّله. لكن هذا لا ينفى ولعى باختيار عناوين مميّزة ليس فقط لمجموعاتى الشِّعرية، ولكن أيضًا للكتب الأخرى التى أشتغل عليها، كما فى الأنطولوجيتين اللتين صدرتا للشِّعر المصرى الجديد «‬رعاة ظلال.. حارسو عُزلات أيضًا» فى 2007 و«‬ذئب.. ونفرش طريقه بالفخاخ» فى 2016، أو فى «‬الحالة صفر» فى 2015.
من هنا مثلًا لا أستطيع تفهُّم الكُتّاب الذين يرسلون إليكَ عملًا منتهيًا لتطَّلع عليه، دون أن يكون له عنوان ما. هذه الحالة تربكنى جدًا، وتجعلنى أتساءل عن السَّبب الذى جعل الكاتب غير قادر على تحديد عنوان ما يلخِّص تجربته الكتابيّة هذه. ولا أنكر أن هذا يعوق إلمامى بالعمل فى شكل مكتمل، ويزداد ارتباكى لو طلب منّى أحدهم مساعدته فى اختيار عنوان ما لعمله. الأمر يشبه شخصًا كتب رسالة ولا يعرف إلى من يوجّهها!
من ناحية أخرى ثمّة حكايات طريفة تحيط أحيانًا باختيارى لعنوان ما، كما حدث مع ديوانى الخامس «‬عشر طُرق للتَّنكيل بجثَّة»، والذى سلّمته نهاية 2009 إلى دار الآداب اللبنانيّة، وقتها كانت هناك قضيّة قتل عامل مصرى تمّ سحله فى بيروت، وطالبتنى دار النّشر بتغيير العنوان لأنه سيكون صادمًا فى هذا التّوقيت بسبب هذه الجريمة، ولكن لأنَّنى اشتغل على العمل الشِّعرى بوصفه مشروعًا مكتملًا وليس مجرّد قصائد يضمّها كتاب، وقفت أمام عجزى التّام عن تغيير العنوان لارتباطه الوثيق ببنية العمل الشِّعرى، ومن ثمّ رفضت تغييره وخرج الديوان بالعنوان ذاته فى 2010 دون أن يسبّب أيّ مشكلة تذكر. أمّا فى العنوان الأخير «‬تلك لغة الفرائس المحْظوظة» فجاء نتيجة اشتغالى على قضيّة اللغة من منظور شِعرى فى الديوان ككّل.
ينقسم الديوان إلى «‬دخول» و«‬خروج» وبينهما ثلاثة أقسام هي: «‬عن بلاغة الدم»، «‬عن نفسى»، «‬عن هشاشة المغفرة»، وكلّ منها يتفرّع مثل شجرة إلى عشرات الأوراق أو القصائد متنوعة الطّول.. ما الذى قصدته من ذلك التّقسيم؟
إذا كنتُ اعتبرت فى إجابتى السابقة أنَّ العنوان هو العتبة الأولى لأيّ عمل إبداعى، فالتّقسيم الدّاخلى للكتاب، سواء شعرًا كان أو قصّة أو رواية، او أيّ نوع آخر من الكتابة، هو بمثابة هندسة فضاء النّص الدّاخلى، شيء ما يشبه تنظيمك للبيت الذى ستُدخل إليه قارئك، لتجعله يتلقّى نصّك بالصّورة التى تريدها أنتَ، لذلك مثلًا أستغرب أحيانًا ممّن يمسكون ديوانًا ما ويبدأون القراءة من القصيدة الأخيرة. أشعر حينها برغبة هؤلاء فى مشاهدة نهاية الفيلم قبل أن يعرفوا الحكاية أو يروا تقنيّات سردها.
أُومن أنّ كلّ ترتيب للكتابة هو ابن عمليّة عقلية معقَّدة يسنُّها النَّص لنفسه أثناء عملية كتابته. والتَّقديم والتَّأخير فى الأحداث يأتى من تصوّرى الشَّخصى بأنّ على الكاتب أن يكون آداة طيِّعة لمشيئة النّص الذى يكتبه وليس لرغباته هو ككاتب. فى «‬تلك لُغة الفرائس المحْظوظة» كنت أمام عمل أخذ منِّى سنوات طويلة، وكان عليّ الالتزام بالتَّصوُّر الموجود فى ذهنى عن بنية العمل، لكن هذا التّصور كان يتشعَّب منِّى يومًا بعد يوم ليصل إلى مناطق لم أكن مُخطِّطًا لها، لذا وجدّتنى أنساق شيئًا فشيئا وراء مخطّطه المرسوم بشكل كروكى فى ذهنى، والمبنى على «‬دخول» فى البداية و«‬خروج» فى النّهاية، وبينهما ثلاثة أقسام رئيسيّة كما ذكرتَ، كلّ قسم يسلّم إيقاع العمل للقسم التّالى، فى تصاعد درامى ما، ينتهى بالقصيدة الأخيرة للدّيوان.
هذا التّرتيب سمح لى بالانتقال بين ثلاثة فضاءات لُغويّة وشعريّة، شكّل كلّ قسم من الأقسام الثّلاثة الرّئيسية حالة مغايرة عن الأخرى، ففى القسم الأول بعد «‬دخول» والمعنون «‬عن بلاغة الدّم» يقف القارئ أمام مشاهد متتابعة فى مدينة ما غير مسمّاة، تُرْصدُ شعريًا إمّا من قبل راوٍ ما، أو من قبل شخصيّات يتكرّر ظهورها بين حين وحين فى القصائد، وفى القسم الثّالث «‬عن نفسى» هناك صوت واحد لشخص واحد، ثمّ فى القسم ما قبل ال»‬خروج»، والمعنون «‬عن هشاشة المغفرة» نجد أن الخطاب الشِّعرى فيه اختلف تمامًا، وصارت هناك مرتبة أكثر قدسيّة سواء فى مستويات الخطاب الشِّعرى أو فى كثافة اللّغة التى كُتب بها.
تبدو معظم الذّوات فى هذا الديوان وحيدة، كالأرملة التى ماتت وحيدة. تقول: «‬ماتت الأرملة فجأة صباح اليوم، ولم نعرف إلى من نذهب، وإلى أين نروح.. دخنا طوال اليوم نبحث عن قريب لها أو أحد معارفها، فيما تتحلل جثتها فى الشقة تحت حرارة الصيف»، وكذلك الرجل الذى يصنع شبحاً ليحاربه: «‬شخص تافه.. كيف يجعل من صفحة بيضاء، فارغة أمامه، شبحاً يحاربه كل ليلة»، وأيضاً الرجل الذى يشترى كلباً «‬كى يؤنس وحدته»، هل الشعر يناسب الوحيدين؟ أو تنبغى كتابته، أو جزء منه على الأقل، عن الوحدة؟ هل هذه إحدى الرؤى التى ينطلق منها الديوان؟
المفارقة الكبيرة التى ربَّما أصبحنا نتعامل معها باعتبارها أحد مسلّمات حياتنا المعاصرة، هى أنّنا وحيدون رغم كلّ ما نحياه اليوم من ثورة فى وسائل التّواصل الاجتماعى، والتى شكّلت هى الأخرى أمراضًا جديدة فى مجتمعاتنا، قارن مثلًا بيننا نحن كجيل وبين أبنائنا الذين ولدوا فى زمن هذه الثّورة من وسائل التّواصل، والمحصّلة النهائية التى نلمسها كل يوم هى أنّنا وحيدون. ثمّة هوّة ما ليس فقط على مستوى التّواصل الإنسانى، بل أيضًا على مستوى ما راكمته هذه الثّورة فى وسائل التّواصل الاجتماعى من أمراض مجتمعيّة جديدة، أولها اللامبالاة والبلادة التى صارت تصيبنا أمام الأحداث التى تجرى كلّ يوم من حولنا، بلادتنا أمام الدّم اليومى المراق هنا وهناك، لذلك ربّما لاحظت أنتَ هذه الوحدة لدى أصوات الدّيوان، أو شخصيّاته، وأعتقد أنّها الوحدة ذاتها التى نلمسها اليوم وعن قرب، ليس فقط فى المحيطين بنا، بل فى أنفسنا قبل أىّ شخص آخر.
«‬عن نفسى، لم أحاول أبداً فهم السحر الغريب، الذى تمثله لى الأشياء المفقودة»، هل يمكن اعتبار هذا المقطع هو «‬الماستر بيس» الخاص بالديوان، حيث يحاول الشِّعر إعادة الاعتبار إلى أشياء كنّا ظنناها انتهت واختفت بغير رجعة؟
هذه مهمة الشِّعر، صحيح، أو قل إحدى مهامّه التى يقدّمها لنا من وقت إلى آخر، أيّ كتابة جيّدة فى ظنّى مهمّتها قائمة على إيصال هذا الإحساس إلينا؛ إعادة الاعتبار إلى أشياء كنّا نظنّ أنها انتهت واختفت بغير رجعة، وإلا لماذا نكتب، إن لم يكن لتثبيت لحظة ما مررنا بها يومًا، وأوقفتنا أمام عجزنا كبشر عن فهم هذا العالم المعقّد.
لكن تعليقًا على فكرة «‬الماستر بيس» التى ألمحتَ إليها فى سؤالك، والتى تحيلنا إلى ما يشبه فكرة القصيدة الأمّ أو الأساسيّة فى الدّيوان، لا أعتقد أنَّ الشَّاعر الجديد لا يزال يفكّر بهذا الشَّكل الكلاسيكى أثناء تشكيله لحدود ومناخات عمله الشِّعرى، أو دعنى أتحدّث عن نفسى، وتحديدًا فى الدّيوان الأخير، والمبنى من ما يقرب من 100 قصيدة قصيرة فى أغلبها، موزّعة بشكل عشوائى على أقسام الكتاب الخمسة.
فى مثل هذا التّرتيب وهذا القصر فى مساحات القصائد، لا يمكننا ادعاء وجود «‬ماستر بيس» رئيس أو وحيد فى الدّيوان، بل شكل من ألعاب البازل، تقوم اللعبة هنا على إعادة تركيب الصّور الممحيّة أو النّاقصة بإعادة ترتيب قطعها المتناثرة. لذا لم تكن فكرة «‬الماستر بيس» فى ذهنى بقدر ما كنت حريصًا على توزيع هذه القطع الصّغيرة جدًّا جوار بعضها البعض، لتنتج فى النّهاية ما يشبه فسيفساء عفوية وغير سيمتريّة، لكنّها - رغم ذلك - تكوِّن فى تجاوراتها الشِّعرية وتقاطعاتها اللُّغوية جمالها الخاص، وأرجو أن أكون نجحت فى إيصال هذا المعنى فى «‬تلك لغة الفرائس المحْظوظة».
هل ما سبق يفسر قفز الماضى دائماً إلى الصدارة فى الديوان، حيث هنالك دائماً حنين إلى مشاهد بريئة، وأشخاص صنعوا لنا بهجة أو دهشة ما، وعلى سبيل المثال، مشهد الجدة التى كانت تلف سيجارتها بإتقان يحسدها عليه أبناء الليل وقطاع الطرق ولصوص المواشى، كذلك الشخص الذى «‬كان يسكن بالقرب من بيتى، يخرج كل ظهيرة، مرتدياً أزياء النساء، وغيرهما؟
الذّاكرة هى كنز الكتابة الذى لا ينضب، نحن نكتب من منطقة خبراتنا التى تراكمت خلال حيواتنا، وكلّ كتابة هى حفر دائم لاستخراج هذه الخبرات العالقة فى الذّاكرة والتى كوّنها ماضينا لنا. استدعاؤنا لمشاهد من الطّفولة يمكِّننا من فهم أنفسنا بشكل مختلف، من محاسبتها ومن تفهّمها والإنصات إليها، ولكن هذا لا يعنى أنّ كلّ ما يكتب تحت هذا الإطار يندرج فى ما يمكن لنا أن نسمّيه «‬سيرة شخصية» أو «‬ذاتية»، أو قل هنا تكمن براعة الكاتب الحقيقيّة، فى قدرته على تحديد متى ينفصل عن شخصياته ومتى يتورَّط معها، بهذا المقياس الصّعب أتعامل مع الكتابة كقارئ يبحث عن الصّدق قبل أن أكون شاعرًا يبحث عن الصّنعة.
بمعنى آخر؛ أنحاز للكتابة التى تنتصر للإنسان فى المطلق، ولا أحبّ الشِّعر الذى يمنحنا خبرة الشَّاعر الحياتيّة بوصفه «‬الشَّاعر» بألف لام التّعريف، ويكون علينا أن ننصت لما يقوله على مسامعنا من حكم ومواعظ لأنه بين قوسين «‬الشَّاعر». على القصيدة ألّا تكون مانيفستو ممهور باسم كاتبها فلان أو علّان، عليها أن تكون قصيدة منحازة لما هو إنسانى فى المطلق، لأن صدقها هو ما سيخلّدها وليس صنعتها.
لماذا يكثر ذكر السكاكين المشحوذة فى القصائد.. ما الذى تحاول قوله، خاصة مع هذا التحذير: «‬سكين العفو، مشحوذة.. فلا تستخدمها، بكثرة»؟
ولمَ لا؟ فى هذا الدّيوان أحببت أن أرصد لغة الفرائس، كما أرصد أعين القنَّاصين، الحياة الحقيقيّة بكلّ شراستها وعذاباتها تقع فى هذه المسافة تحديدًا، ثمّة قانون ما يحكم الغابة، وبالتّالى هو القانون نفسه الذى يحكم حياتنا، نحن أيضًا كبشر ننقسم إلى فرائس وقنَّاصين، لذلك ربما يتحتَّم علينا فى لحظات كثيرة أن نبدِّل من أدوارنا، وهنا يأتى دور الأخلاق، أو بالأحرى معنى أن تكون إنسانًا.
أخيراً.. هل تتّفق معى أن الأفكار فى حدِّ ذاتها إن كُتبت بشكل ما تصبح أكثر شعرية من قصائد غارقة فى المجاز، وعلى سبيل المثال: «‬البيوت، أماكن خشنة كحجر الرحى»؟
لا شعر بدون مجاز، سواء كان لغويًا أو كامنًا فى بنية النَّص الشِّعرى ذاته، الفكرة وحدها لن تصنع قصيدة جيّدة. أعتقد أنّ هذا الفهم نبع فى لحظة ما من تناولنا المغلوط لكتاب سوزان برنار عن قصيدة النّثر الفرنسيّة، حين تناولنا نحن العرب هذا الكتاب وحاول بعض شعرائنا الانطلاق منه باعتباره كتابًا يسنُّ قوانين جديدة «‬يجب» على قصيدة النّثر الالتزام بها. وأنا للأسف الشديد أحد الكارهين العتاة لكلمة «‬يجب» هذه. لأنّه لا يصحّ لها أن تدخل على أيٍ من شروط فنون الكتابة أو غيرها، على الفنّ أن يكون حرًّا، ويبقى الشّرط الوحيد لجعل هذا النّص شِعرًا أم لا، هو ما يسنُّه النّص لنفسه من قوانين، ومن طرائق للوصول إلى القارئ، وأتحدّث هنا عن العديد من الأشياء والمعايير اللُّغوية والموسيقيّة التى يجب أن تخرج فى قالب يحكمه هارمونى أو إيقاع ما، اختيارك للمفردات والكلمات للتّعبير عمّا تريد قوله أحد هذه المعايير، والموسيقى النّابعة من هذا الاختيار، من تجاور كلمتين وإنتاجهما لمعنى جديد وغير مسبوق نتيجة هذا الامتزاج بين مفردتين، كلّ هذه الأمور تشكّل ركائز صناعة النّص الشِّعرى الجيّد. أما الأفكار وحدها فلا تصنع شعرًا بدون ما سبق وأشرنا إليه، وإلا سنجد أنفسنا أمام نص ذهنى بارد لا علاقة له بالشِّعر فى معناه الأعمق، الشِّعر الذى لا نملك لتعريفه حتى يومنا هذا إلا قولنا «‬هو الفن الذى يستعصى على التّعريف».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.