الجدلية التى يعيشها تنظيم الإخوان الآن هى تحوله بالكامل إلى تيار فكرى غير محسوب على اسم معين أو تنظيم محدد؛ والهدف من ذلك أن يتخفف شباب الحركة الإسلامية من أعباء حمل اسم تنظيم الإخوان الذى بات ذا سمعة سيئة، بل وتهمة يكفى أن تلتصق بأحدهم حتى تدخل به إلى جحيم تاريخ الجماعة الأسود. أقصد بالتحول الكامل هنا أن جزءًا غير قليل من جماعة الإخوان سبق وتحول للعمل لصالح تيار الإسلام السياسى عمومًا دون التقيد بأعباء الانتماء للتنظيم، وهو ما يطلق عليه اسم (الخلايا النائمة)، التى تسعى لنشر أفكار أسس لها حسن البنا وسيد قطب فى مصر، وأبو الأعلى المودودى وأبوالحسن الندوى فى أسيا، متأثرين بصعود الفكر السلفى الوهابى فى السعودية ومنظره فى مصر محمد رشيد رضا! جدلية رغم حداثتها بعد الخلافات الأخيرة بين إخوان أوروبا على منصب القائم بأعمال المرشد، والصراع بين جبهتى محمود حسين الأمين العام السابق للجماعة، وإبراهيم منير القائم بأعمال المرشد، رغم تلك الحداثة فالجدلية قديمة قدم سقوط الدولة العثمانية عام 1924؛ فمنذ اللحظة الأولى كانت تسير إلى جوار الجمعيات والتنظيمات المعروفة العديد من التجمعات غير المحسوبة على تنظيم معين، بل محسوبة على الفكرة التى يروج لها تيار الإسلام السياسى عمومًا، والقائمة على أستاذية العالم فى فكر حسن البنا، أو الخلافة بمعناها الأشمل فى فكر الحركة الإسلامية، يلتقى معها فكرة الإمامة فى إيران، صاحبة الثورة الإسلامية، الثورة الحلم فى أذهان جميع المنتمين للحركة الإسلامية المعاصرة! تلك التيارات غير المحسوبة ظاهريًا على مسميات جماعة الإخوان أو الجماعة الإسلامية أو الجهاد أو الدعوة السلفية كانت الأخطر فى مرحلة ما بعد عام 2000، تحديدًا مع طرح مسمى الشرق الأوسط الجديد، والسعى إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط وتصعيد المنتمين للتيار الإسلامى الإخوانى إلى كرسى الحكم فى المنطقة العربية، وهو المخطط الذى كاد أن ينجح عام 2011، وصولا إلى تولى الإخوان حكم مصر عام 2012، لكنه سقط سقوطًا مدويًا على أعتاب ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013! خطورة فكرة التيار أن المنظرين لتلك الأفكار ينجحون فى التوغل والانتشار والسيطرة بل وغسيل أدمغة الأطفال والمراهقين والشباب دون أن تكون عليهم أى أعباء قد يحملها المنتمى تنظيميًا إلى جماعة الإخوان، بالتالى نحن أمام تنظيم أشبه بالحركة الماسونية التى تعمل فى الخفاء وهى تسعى لتحقيق مشروعها المتخيل للنهضة، والذى قد يظن أعضاء جماعة الإخوان أو المنتمين للإسلام السياسى عمومًا أنه المشروع الحلم الذى سينتشل دولهم فى الشرق الأوسط من قائمة العالم الثالث، أو الدول المتخلفة، متجاهلين الأيادى الخفية للمستعمر قبل خروجه من الأراضى العربية، وسعيه لترك حصان طروادة داخل المنطقة، والذى يعطيه السبيل للتدخل فى شئون دول المنطقة كلما شاء، فتظل التبعية قائمة حتى لو لم يكن استعمارا بالسلاح! ظهرت جليًا فكرة التيار الفكرى داخل الحركة الإسلامية غير المحسوبة على تنظيم الإخوان ظاهريا مع إطلاق القطرى جاسم سلطان مؤسس إخوان قطر لمشروعه الفكرى تحت عنوان (مشروع النهضة) والذى بدأ وثيقة للنهضة شرحها فى خمسة كتب طبعت جميعها فى القاهرة عام 2005، وهو العام الذى شهد إطلاق مخطط الشرق الأوسط الجديد، بالتالى فالفكرة ليست وليدة الشهور الأخيرة، ولا الأعوام التى أعقبت ما اصطلح على تسميته الربيع العربي، بل هى ممتدة إلى ما قبل ذلك، ما قبل حتى جاسم سلطان نفسه، ربما نجد جذورها فى فكر مالك بن نبي، وفكر المعهد العالمى للفكر الإسلامى فى أمريكا. مؤخرًا أصبح أكثر منظريه الداعية العراقى أحمد خيرى العمري، الذى ذكر ذلك المخطط نصا فى واحد من حواراته المنشورة، عندما طالب بضرورة التخلص من الإنتماء التنظيمى إلى جماعة الإخوان حتى يجد المنتمى للحركة الإسلامية والفكرة الإخوانية عموما سهولة فى الحركة وهو ينشر دعوته للدولة المبنية على أفكار الإسلام السياسي، وهى بالتبيعة أفكار البنا وسيد قطب، والممتدة إلى أفكار محمد بن عبد الوهاب فى السعودية! يظهر بالتالى أن العمل فى المرحلة المقبلة سيكون الأشرس فى مواجهة تيارات الإسلام السياسي؛ ليس من المتوقع فى السنوات القليلة أن نرى يافطة فى الشوارع المصرية تحمل اسم جماعة الإخوان، سواء حزب أو جمعية أهلية، لذلك قام الصراع بين الإخوان فى لندن وتركيا وقطر، حول ضرورة تحول الجماعة بالكلية إلى التيار الفكري، وأن يتخلص الجميع من سلطة الإنتماء الظاهرى إلى التنظيم، طالما أن التيار سيعمل على نفس الأفكار التى دعى لها المؤسس الأول حسن البنا، ونظر لها سيد قطب، والتحول هنا كما أسلفنا مجرد توسعة لقاعدة التيار العامل بالفعل فى المشهد المصرى حتى وقت كتابة السطور. مسألة التيار الفكرى وانتشار دعوة الإخوان عن طريقها بين الشباب بدأت قبل عقدين مع انتشار ظاهرة الدعاة الجدد، ذلك المصطلح الذى كرس له الكاتب الصحفى وائل لطفي، فى سلسلة مقالات حملت نفس العنوان، وصدرت لاحقا فى كتاب تناول ظهور شباب الدعة حليقى اللحى أصحاب الياقات البيضاء غير المتشبهين بالمشايخ المعتادين، دعاة أشبه بمدربى التنمية البشرية، يقدمون دينا حداثيا فى ظاهرة للشباب، ثم يحدثونهم بين طيات خطاباتهم الملتوية عن حلم الخلافة الإسلامية، حلم التمكين، عودة عمر بن الخطاب، فيتحول الجميع إلى منفذين للمشروع الإخوانى حتى دون أن يدروا! مسألة التنفيذ تلك والاعتماد على شباب يحملون الفكرة حتى لو لم يفهموها ذكرها نصا الداعية العراقى أحمد خيرى العمرى فى كتابه (سيرة خليفة قادم)، والذى ينظر فيه لمسألة الاستخلاف، وأنها أكبر من فكرة تأسيس دولة الخلافة، بل هى وضع معنى الاستخلاف فى نفوس الأطفال منذ الولادة، حتى تصبح كالخريطة الجينية داخل الجنين، يولد بها وتكبر معه، والاستخلاف فى فقه العمرى قائم على التمكين أولا بنشر الفكرة ووضع البذرة، ثم يأتى قائد يرويها بأفكار الجماعة، ويعاونه المنفذون، وهم شباب يسعون لتنفيذ حلم التمكين لا يشترط فيهم فهم ما يحدث، يكفى أن يؤدى كل منهم دوره المطلوب! الخريطة الجينية التى وصفها أحمد خيرى العمرى فى كتابه هى نفسها ما أطلق عليه جاسم سلطان مصطلح الخارطة الذهنية، فى كتابه مشروع النهضة، وهى خارطة معرفية ترى عقل المنفذ مثل جهاز الكمبيوتر الذى يحتاج إلى وضع نسخة برمجة معرفية تضعه على الطريق الصحيح! ما قدمه العمرى ومن قبله جاسم سلطان ومن قبلهم مالك بن نبى أحدث المطلوب منه فى السنوات الأخيرة بالفعل، وهو جزء ضمن مجموعة من الأجزاء الأخرى التى يعمل عليها المنتمين لتيار الإسلام السياسي.