«الصحفيين»: قواعد جديدة لانتساب العاملين بالخارج وأساتذة الصحافة والإعلام    رئيس هيئة تنشيط السياحة: تحسن العلاقات يقفز بأرقام السياحة التركية إلى مصر    متحدث الحكومة: وحدة حصر شركات الدولة تجري دراساتها بصورة محايدة    نقابة المهندسين بالإسكندرية: نسعى إلى إطلاع الأعضاء على أحدث تطورات مجال البناء والتشييد    «القاهرة الإخبارية»: توتر العلاقات لن يمنع أمريكا من متابعة حادث مروحية الرئيس الإيراني    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    منتخب القليوبية يفوز على القاهرة 1/5 بدور ال 32 لدوري مراكز الشباب    وزير الشباب يكرم عمرو محمد لفوزه بالمركز الثاني عالميا في مجال الطاقة المتجددة    مدينتي تطلق الحدث الرياضي "Fly over Madinaty" لهواة القفز بالمظلات    خطوات التقديم للصف الأول الابتدائي 2024-2025    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    أفلام مهرجان كان استحسان واستهجان.. كوبولا يثير انقسام النقاد في أحدث أعماله    متحف «طه حسين».. تراث عميد الأدب العربي    الخارجية التركية: نتابع بحزن تطورات حادث المروحية في إيران    داعية: القرآن أوضح الكثير من المعاملات ومنها في العلاقات الإنسانية وعمار المنازل    مستشار الرئيس عن متحور كورونا الجديد FLiRT: نتابع الأمر بدقة شديدة    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    بايدن: دعيت إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    الحكومة تحتضن رجال الصناعة    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    جامعة الأقصر تنظم قافلة طبية ضمن مبادرة حياة كريمة    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    حزب الريادة: مصر كانت لها اليد العليا فى دعم أهالي غزة وإدخال المساعدات لهم    بمناسبة مباراة الزمالك ونهضة البركان.. 3 أبراج «متعصبة» كرويًا (تعرف عليهم)    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    الرعاية الصحية: 5 ملايين مستفيد من التأمين الصحي الشامل بمحافظات المرحلة الأولى    جامعة حلوان تنظم قوافل طبية توعوية بمناطق الإسكان الاجتماعي بمدينة 15 مايو    «نيويورك تايمز»: هجوم روسيا في منطقة خاركوف وضع أوكرانيا في موقف صعب    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    أبرزهم «اللبن الرائب».. 4 مشروبات لتبريد الجسم في ظل ارتفاع درجات الحرارة    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    دار الإفتاء توضح ما يقال من الذكر والدعاء في الحرّ الشديد.. تعرف عليه    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انشطار الطير
نشر في أخبار الحوادث يوم 02 - 07 - 2016


عجوز القطار
علي رصيفٍ‮ ‬أخرس،‮ ‬وقفت بلا حراك أنتظر قطارًا آخر‮ ‬غير الذي فاتني،‮ ‬كان الحر‮ ‬ينشر رداءه علي رؤوس تخفّتْ‮ ‬تحت المظلات وأوراق الجرائد أو أشجار لم تسقط أوراقها المُشَرشَفة بعد،‮ ‬كانت الأنداء الحارة علي جبيني قد نبهتني أن ألتمس أحد المقاعد المجاورة التي تعلوها مظلة تمنع بعضًا من هجير الصيف،‮ ‬جلست أتكئ علي‮ ‬يد المقعد ثم هممت بتصفح جريدة كنت قد اشتريتها من البائع الرابض خارج المحطة‮.‬
‮ - ‬لن تستمر موجة الحر طويلًا
‮ ‬قالتها بجانبي بعدما أزاحت خصلاتها المتفجرة البياض عن وجهها الذي بات راكدًا‮ ‬علي ما‮ ‬يبدو منذ فترات طويلة،‮ ‬شعرها المياس‮ ‬يوحي بأن الزمن لم‮ ‬يكن ليجرؤ أن‮ ‬يقترب إلا من لونه فحسب،‮ ‬نظرت إليها علي‮ ‬غير اكتراث ثم ابتسمت سريعًا حتي لا تتمكن من التقاط أول خيط تضع في أوله كلامًا‮ ‬يجهدني ويشغلني عن قطاري القادِم‮. ‬حاولتُ‮ ‬أن أقومَ‮ ‬من مكاني وبصوتٍ‮ ‬خفيضٍ؛ كي لا أخدش ترقُّبها،‮ ‬همستُ‮:‬
‮- ‬الله‮ ‬يعيننا ويعينُك‮ ‬يا أمي
ابتسمتْ‮ ‬لي بدورها ولَمْ‮ ‬تُشِحْ‮ ‬نظرَها عن عينِي،‮ ‬عينِي الخَجلي التي تحاشتْ‮ ‬النّظر إليها تمامًا كطفلٍ‮ ‬مذنِب،‮ ‬لا أدري كمْ‮ ‬كان عمرها،‮ ‬ولا أدري إنْ‮ ‬كانت هذه التّجاعيدُ‮ ‬الفادحةُ‮ ‬تُفشي عُمرًا أمْ‮ ‬قهرًا؟ لوّنت الشمسُ‮ ‬العنيدةُ‮ ‬ملامحَها المتألّمة،‮ ‬وابتسامةٌ‮ ‬أكثرُ‮ ‬عِندًا لم تُفارقْ‮ ‬غزارةَ‮ ‬الحكايات في وجهها،‮ ‬حتي إنني لا أعرف ما الذي دفعنِي لأن أنظرَ‮ ‬إلي عينيها المتوهجتين‮! ‬وكباحثٍ‮ ‬عنْ‮ ‬سطرٍ‮ ‬ضائعٍ،‮ ‬اقتربتُ‮ ‬أكثر،‮ ‬ثم جلستُ‮ ‬بجانبها مرة أخري‮. ‬علتْ‮ ‬صافراتُ‮ ‬القطارِ‮ ‬المؤذنةٌ‮ ‬بقدومِه،‮ ‬يقتربُ‮ ‬ببطء ليتوقف في محطتِنا‮."‬ها قد جاء قطارُنا‮" ‬هللتْ‮ ‬بمرحٍ‮ ‬و كأنها أصابتْ‮ ‬ورقةَ‮ ‬اليانصيبِ،‮ ‬ردةُ‮ ‬فعلِها كان لها مِن المُبالغة ما أثار حفيظَتي قليلًا؛ فقمت متعللًا باللحاق بالقطار قبل أن‮ ‬يتركني معها‮.‬
في القطار،‮ ‬بعد دقيقتين ذقتُ‮ ‬فيهما عناءَ‮ ‬اختراقِ‮ ‬الجمع الذي كدّس مدخلَ‮ ‬القطارِ‮ ‬كيومِ‮ ‬حشرٍ‮ ‬لا هوادة فيه،‮ ‬وجدتُ‮ ‬مقعدي أخيرًا،‮ ‬ليس ببعيد من باب الدخول‮. ‬وضعتُ‮ ‬حقيبتي الخفيفةَ‮ ‬ثم ارتميتُ‮ ‬علي مقعدي كجثةٍ‮ ‬هامدةٍ،‮ ‬ولَولا صافرة القطارِ‮ ‬لأدركني النعاس وغرقتُ‮ ‬فيه،‮ ‬إلا أن الفزع الذي تملّكني علي إثر الصافرةِ،‮ ‬لم‮ ‬يكن بقدرِ‮ ‬ما أحسستُه عندما وجدتُ‮ ‬المرأةَ‮ ‬العجوز تتقدمُ‮ ‬ناحية مقعدي وكأنها تبحثُ‮ ‬عن شيءٍ‮ ‬آخر‮ ‬غير المقاعدِ،‮ ‬وبنظرتها الثاقبة،‮ ‬تلاقت عينانا حتي سرتْ‮ ‬رعدةٌ‮ ‬خفيفةٌ‮ ‬زحفتْ‮ ‬من أسفلِ‮ ‬ظهري إلي أعلي عمودي الفقري،‮ ‬وجلست بجانبي‮.‬
‮-‬أهلًا‮ ‬يا ولدي،‮ ‬آسفة علي تأخيري‮.‬
قالتْها باطمئنان دون أن تنظر إليّ،‮ ‬ووجدتُني أردُ‮ ‬علي تحيتِها ذاهلًا دون مقاومة‮..‬انطلق القطار بسرعة،‮ ‬علي وقع النبضات المتلاحقة التي أصابتْ‮ ‬قلبي‮. ‬بهدوءٍ‮ ‬يُشبه أنينَها الخفي،‮ ‬أخرجتْ‮ ‬حافظةَ‮ ‬نقودِها التي كانتْ‮ ‬تعجُ‮ ‬بالمال،‮ ‬و بصورٍ‮ ‬قديمة و حديثة مختلفة الأحجام،‮ ‬انتقتْ‮ ‬من وسطها صورة قديمة لطفلة تشع نُورًا،‮ ‬ثمَّ‮ ‬أغلقتْ‮ ‬الحافظةَ‮ ‬بحذرٍ‮ ‬وكأنّها تخافُ‮ ‬علي تحفةٍ‮ ‬فنيةٍ‮ ‬هشةٍ،‮ ‬أعطتني الصورةَ‮ ‬و قالتْ‮ ‬منطلقة في الحديث‮:‬
‮ - ‬هذه أنا حينما كنت طفلة،‮ ‬أتعلم؟ هذه الطفلة ما زالت بداخلي،‮ ‬ما زالتْ‮ ‬ترقص وتُضَاحِك الصغارَ‮ ‬قبلَ‮ ‬الكبارِ،‮ ‬تجرِي في أزقةِ‮ ‬الشوارعِ،‮ ‬وتُشاكسُ‮ ‬العصافيرَ‮ ‬في أعشاشِها،‮ ‬لم أتخلَ‮ ‬عنها أبدًا،‮ ‬ولكن‮ ‬يبدو أن حبال الوصل بيننا باتتْ‮ ‬تنفصلُ‮ ‬أكثر فأكثر وباتَ‮ ‬بين دفتَي انفصالِها خيطٌ‮ ‬ضئيلٌ،‮ ‬و ستتخلي هي عني عما قريب‮.‬
عادتْ‮ ‬إليها مسحة الحزن التي عهدتها حينما جلست بجانبها أول مرة،‮ ‬أغمضتْ‮ ‬عينيها وأخذَتْ‮ ‬نفسًا عميقًا منتشيًا،‮ ‬وكأنّ‮ ‬خصلاتِ‮ ‬النّسماتِ‮ ‬الّتي داعبَتْ‮ ‬رئتيها لمْ‮ ‬تشبه الهواءَ‮ ‬العابسَ‮ ‬المشبَع بالدّخان الذي تنفّستُه فملأ صدري‮. ‬أعطيتُها صورتَها بقلقٍ‮ ‬تفرستْه هي في وجهي‮.. ‬بعد أن ابتسمت لها ابتسامة واهية‮. ‬كان صوت الناس قد بدأ بالازدياد،‮ ‬يدخل مباشرة في أذني،‮ ‬أما صوتُها،‮ ‬لسببٍ‮ ‬لا أعرفُه،‮ ‬كانَ‮ ‬يخترقُ‮ ‬صدري،‮ ‬وينسكبُ‮ ‬روعةً‮ ‬وأريجًا علي أنساغِه المُلتفعةِ‮ ‬بأغطيةِ‮ ‬ماضٍ‮ ‬قريب،‮ ‬أسمعُ‮ ‬في همساتها صوت أمي‮.‬
بدون مقدمات وجدتها تُشهرُ‮ ‬صورةَ‮ ‬لشابةٍ‮ ‬صارخةِ‮ ‬الجمالِ‮ ‬في وجهي‮ ‬يبدُو أنّها تتمايلُ‮ ‬علي أنغامِ‮ ‬موسيقي راقيةٍ‮ ‬كحركاتِ‮ ‬الباليه التي لا أفقه في تموجها شيئاً‮!!‬
‮ ‬قالتْ‮:‬
‮ -‬كنتُ‮ ‬شابةً‮ ‬يافعةً‮. ‬
‮ ‬وتضيفُ‮:‬
‮ - ‬هناك تعرفتُ‮ ‬عليه،‮ ‬كانتْ‮ ‬عينَاه تُتَابعاني باهتمامٍ،‮ ‬كان‮ ‬يتأملُ‮ ‬حركاتِ‮ ‬جسدِي اللينةِ‮ ‬دون كللٍ،‮ ‬حتي هَبّ‮ ‬من مكانِه واقفًا،‮ ‬ثم بحركتِه الأسطورية المُمتَلئة بالرجولة،‮ ‬جاء إليّ‮ ‬وأمسك بيديّ،‮ ‬و بدون أن أنبس بكلمة واحدة،‮ ‬غصتُ‮ ‬في أعماقِ‮ ‬عينيه اللتين ارتسمتا بشغف عاتٍ،‮ ‬ثم أسلمتُ‮ ‬له نفسي،‮ ‬حتي أخذتْنا رقصتُنا إلي وهنٍ‮ ‬مِن الليلِ‮.‬
‮ ‬عادتْ‮ ‬إلي صمتِها ببطء،‮ ‬وحين واجهتني تمامًا لاحظتُ‮ ‬ملامحَها المتعبةَ،‮ ‬كان الوجهُ‮ ‬مغضنًا،‮ ‬إلا إنّه كان قدْ‮ ‬زُيِّن ببراعةٍ‮ ‬ووقارٍ،‮ ‬ثم لمحتُ‮ ‬في‮ ‬يدِها الأخري وردًا أحمر،‮ ‬لحظتُها خُيِّل إليّ‮ ‬أنها لديها ما تقوله‮.‬
‮- ‬ولكن انتهي كل شئ و أنا ما زلت هنا أنتظر‮.‬
‮ ‬قالتها بصوت مختنق ثم استطردتْ‮ ‬تقول‮: ‬هذا ابني‮.. ‬
‮ ‬و أخرجتْ‮ ‬صورةً‮ ‬حديثةً‮ ‬لشابٍ‮ ‬تفوقُ‮ ‬وسامتُه بعضَ‮ ‬المشاهيرِ‮ ‬الذين أراهُم في الأفلامِ‮ ‬العالميةِ،‮ ‬وأردفتْ‮:‬
‮- ‬هل تري ذلك الثوب الذي أرتديه؟ لم ألبسْهُ‮ ‬منذ تُوفي عاصم العام الماضي‮..‬
‮- ‬مَنْ‮ ‬عاصم؟‮ ‬سألتُ‮ ‬بسذاجة‮..‬
‮ ‬ردتْ‮ ‬بلطفٍ‮: ‬ابني‮.. ‬ابني عاصم‮.‬
‮ ‬نظرتُ‮ ‬إليها مُستدركًا،‮ ‬طالبًا منها العفو في سري عن تذكيري إياها بما تحاول نسيانَه،‮ ‬قالتْ‮ ‬بلغةٍ‮ ‬أكثر لطفًا بعدما قرأتْ‮ ‬تأنيبي لضميري‮:‬
‮- ‬لا تقسُ‮ ‬علي نفسك‮ ‬يا بني،‮ ‬أنا أصلًا لم أنسَه‮.. ‬
فتحتْ‮ ‬فمَها لتُكمل إلا أنها عادت فشدتْ‮ ‬شفتيها إلي بعضهما بإصرارٍ،‮ ‬و امتلأتْ‮ ‬عيناها بالدمعِ‮ ‬فجأة،‮ ‬وحين لم تستطعْ‮ ‬التغلب علي دموعِها،‮ ‬لوَّحَتْ‮ ‬بيدِها المرتعشةِ‮ ‬إلي الصورةِ‮ ‬الملتصقةِ‮ ‬بيدِي،‮ ‬ثم أمسكتْ‮ ‬بيدي تعتصرها بين أصابعها الواهنة‮..‬
‮ - ‬أرجوك لا تترُكني‮ ‬يا عاصم‮.‬
‮ ‬قالتْها ودمعُها‮ ‬يتلاشَي شيئًا فشيئًا،‮ ‬ثم ما لبثتْ‮ ‬أن استبدلتها بضحكةٍ‮ ‬هيستيريةٍ‮ ‬تجلجلُ‮ ‬الأرجاءَ‮.. ‬انتفضتُ‮ ‬واقفًا،‮ ‬ثم أكملتْ‮:‬
‮ - ‬لا تتركني ثانية‮ ‬يا عاصم‮..‬
راحتْ‮ ‬نظرةٌ‮ ‬داهشةٌ‮ ‬تنسابُ‮ ‬من عينيّ‮ ‬حتي‮ ‬غمرتْ‮ ‬أساريرَ‮ ‬وجهي المتعرقةَ‮..‬
‮- ‬أ‮.. ‬أ‮.. ‬أنا لست عاصم‮. ‬رددتُ‮ ‬ويدي‮ ‬يغمرها الارتعاش‮.‬
‮ ‬ثم جاء الكمسري الذي انبثق من الأرض،‮ ‬وأمسك بها من‮ ‬ياقة ثوبِها،‮ ‬وراحَ‮ ‬يقولُ‮:‬
‮- ‬أنتِ‮ ‬مرة أخري‮ ‬يا عزيزة؟ ألم أقل لك أن ابنك ليس علي هذا القطار؟‮..‬
تصرخُ‮: ‬لا،‮ ‬إنه عاصم‮.‬
‮ ‬ثم نظرتْ‮ ‬إليّ‮ ‬وهي تستغيثُ‮ ‬قلبي‮:‬
‮ - ‬قُلْ‮ ‬لهُ‮ ‬أنْ‮ ‬يترُكني‮ ‬يا عاصم،‮ ‬قُلْ‮ ‬لهُ‮..‬
‮ ‬و حين لم أجد ما أصرّحُ‮ ‬به عندما أخَذَ‮ ‬الكُمسري‮ ‬يجرّها من‮ ‬ياقتها المتكسّرة،‮ ‬و هي تهتف دون توقف‮..‬
استيقظتُ‮ ‬من نومي الذي طمَرَ‮ ‬عينيّ‮ ‬بجناحيه الثقيلين،‮ ‬علي صافرة أخري من القطار‮..‬توجدتُ‮ ‬القطار ما زال في مكانه لم‮ ‬يبرحْهُ،‮ ‬وأنا ملتصقٌ‮ ‬بمقعدِي،‮ ‬و هي ما زالتْ‮ ‬تجلسُ‮ ‬في مكانِها خارج القطار علي مقعدِ‮ ‬المحطةِ،‮ ‬تنظرُ‮ ‬بعيدًا عني إلي شيءٍ‮ ‬لم أتبينْهُ‮ ‬في السماءِ‮.‬
في‮ ‬غاية الوهن
أتذكر حين واتتني تلك اللحظة جيدًا،‮ ‬كنت ابن عشرة تحديدًا‮..‬
وكنت قد التهمتُ‮ ‬ملامحه كاملةً،‮ ‬بوهن وفزع،‮ ‬حينما سحبتْ‮ ‬يده المتشققة‮ -‬بحذر‮- ‬جرار حقيبة والدتي المعلقة علي كتفها،‮ ‬وتشعبت الخواطر إلي شراذم مخيفة‮.‬
في الصباح،‮ ‬وفي التاسعة تحديدًا،‮ ‬ابتلع الزحام علي طريق القطارات‮ -‬العاري من التحذيرات وموانع المرور‮- ‬خلقًا كثيرين،‮ ‬بشرًا مكدسين‮ ‬يمرون بعرض السبيل الوحيدة تجاه الناحية الأخري،‮ ‬القضبان تحمل الأقدام،‮ ‬وحرارة الأنفاس تجابه شمسًا تحدق في شرود‮.. ‬
أتذكر أني كنت أتبعها بإلحاحي كلما توجهتني بنظرها،‮ ‬أقسمتُ‮ ‬حينها أن الأمور ستتحول للأسوأ إن لم أحصل علي أقلام كثيرة بألوان عدة،‮ ‬وأغلفة وجلادات من النوع الفاخر،‮ ‬بغية الزهو والتفاخر لا أكثر‮. ‬لكن،‮ ‬وفي الفجالة سيصبح هاجسك الوحيد أن تحصل علي ما تستطيع‮ ‬يداك الوصول إليه،‮ ‬وألا‮ ‬يلطمك العطش،‮ ‬وأن تحن عليك بعض المباني الشاهقة بظلٍ‮ ‬كيما تواصل البحث والتنقيب عن اللوازم المكتبية‮.‬
‮ ‬
وتبدأ السيدات بالفصال المرير،‮ ‬الفصال الذي قد لا‮ ‬ينقطع إلا مع هبوط قيمة المستَهلَك إلي النصف،‮ ‬أو حتي إلي حين تبدأ الفترة الدراسية،‮ ‬لا مشكلة في ذلك‮. ‬وكن‮ ‬يضعن النظارات وينزعنها،‮ ‬ويقلبن بين أيديهن أشياءً‮ ‬قد لا تُشتَري،‮ ‬وأمي تشري البضاعة مبتسمة وراضية بقليل مال‮. ‬
ولما رأتني لا أحتمل الجوع والعطش والزحام،‮ ‬قنعتْ‮ ‬بما تحصلتْ‮ ‬عليه،‮ ‬ولم‮ ‬يعد بمقدوري الإلحاح أكثر،‮ ‬وانتحت ركنًا نتناول فيه عصيرًا معلبًا،‮ ‬ومخبوزًا صنعته بيديها‮. ‬واستولي مشهد وجهها المتفصد عرقًا،‮ ‬وثغرها‮ ‬يلوك الطعام في‮ ‬غاية الوهن،‮ ‬علي كياني كليًا‮.. ‬ولكنها ما كادت تنهي القضمة الأولي من قطعتها،‮ ‬حتي أعلنت الشبع؛ وأغلب الظن أنها استبقتها لبقايا جوع قد‮ ‬يجر أذياله علي معدتي ولا‮ ‬يندثر بقطعة واحدة‮. ‬
قفلنا راجعين،‮ ‬وأمي تحمل التعب،‮ ‬وبضعة أكياس بلاستيكية ممتلئة تهتز بخفة بين‮ ‬يديها‮. ‬وحقيبتها الوحيدة علي كتفها،‮ ‬تحمل حلمها بالوصول وانتهاء اليوم‮. ‬
‮ ‬وفي خضم الأشياء التي تبهت حولنا،‮ ‬علي نفس القضبان التي لا تزال مشتعلة بجدائل الشمس،‮ ‬وفي لحظة فاصلة‮.. ‬
‮ ‬حدث كل شيء‮.‬
استلمت عيناي مشهد سحبه لجرار الحقيبة المعلقة علي كتفها بخضوع،‮ ‬أصابعه تتشنج وتنقبض،‮ ‬شعر أشعث ونظرة ميتة جافة،‮ ‬ورأسه العالي الذي أناخه التوجس،‮ ‬أراه‮ ‬يلهث،‮ ‬ويراقب الناس،‮ ‬ولكنه نسي أن‮ ‬يراني أنا؛ القصير القامة،‮ ‬الضعيف الحيلة،‮ ‬الذي أراقبه،‮ ‬ولا تعلم بشأنه أمي‮. ‬
كتمت خوفي الصاخب‮.. ‬لم أهجم عليه ولم أوبخه،‮ ‬لم أجد حتي كلمة تحمل شجبي وإدانتي لما‮ ‬يحدث،‮ ‬فيما كانت مهمته قد قطعت المسافة إلي نصفها،‮ ‬ورآني فجأة‮. ‬
كالملدوغ‮ ‬تراجع،‮ ‬وراح‮ ‬يسحب أنفاسه اللاهبة،‮ ‬بدلًا من الجرار بعيدًا عنها وعني،‮ ‬وحين انتهي العبور المتأزم،‮ ‬لاحظتْ‮ ‬هي اصفرار وجهي المجهد،‮ ‬وخمود الكلمات التي صدئت في الحلق‮.. ‬وعرفتْ‮ ‬السبب من بضع كلمات وإشارات‮. ‬
قامت بتهدئتي،‮ ‬ووضعت بضع رشفات من الماء علي شفتي،‮ ‬وتوجهت بنظرها إلي حيث كنا فعرفتْه بإشارة مني،‮ ‬وصدري ما زال‮ ‬يعدو تجاه الانفلات‮. ‬
أعرفها جيدًا،‮ ‬فهي لا تترك حقها،‮ ‬لذا أدركت أنها ستركض وراءه،‮ ‬ولو تطلب الأمر سفرها إلي نهاية العالم‮. ‬وشجاعةً‮ ‬فعلتْ،‮ ‬بعدما تركت الأكياس بجانبي‮. ‬
العجيب في الأمر،‮ ‬ومن تدابير الأقدار،‮ ‬أنه لم‮ ‬يستطع التزحزح هاربًا من كتلة الناس المصمتة حوله،‮ ‬فتصلب كجعران،‮ ‬وراح‮ ‬يبعد الناس عن طريقه،‮ ‬في‮ ‬غاية الوهن؛ لم‮ ‬يكن قويًا إلي الحد الذي‮ ‬يسمح له بالعبور والهروب‮. ‬وفي ثانية كانت أمامه،‮ ‬وهو أمامها‮.. ‬لا‮ ‬يفصل بينهما سوي رافد نحيل من الهواء،‮ ‬ينظران إلي بعضهما بلغة لا أفهم رموزها،‮ ‬أحملق بعيني المترقبتين مخافة أن‮ ‬يؤذيها،‮ ‬أقدم قدمًا وأؤخر‮.. ‬
ولكنها توجهت بنظرها تجاه جرار الحقيبة،‮ ‬وفتحته،‮ ‬ثم أخرجت قطعة المخبوز المتبقية وأعطتها له مبتسمة بحنان،‮ ‬الأمر الذي شجعه علي مد‮ ‬يده وتناولها منها‮. ‬نظر إليها طويلًا كأنه‮ ‬يحدق بالفراغ،‮ ‬حينها قضم،‮ ‬ومضغ‮ ‬الأولي بسرعة ليلحقها بثانية‮. ‬أكل بنهم حتي شبع‮.. ‬وتساقطت قطرات اللعاب علي ملابسه الرثة‮..‬
وتركها وهو‮ ‬يمشي مطوحًا،‮ ‬بلا كلمة شكر‮.. ‬
وتراجعت نحوي مبتسمة‮. ‬أتساءل وأزيح عرق الخوف عن جبهتي،‮ ‬أستبين ألغاز ما حدث،‮ ‬وقبل أن تشِتُّ‮ ‬الحيرة بالقلب‮.. ‬
انتصبتْ‮ ‬أمامي فرِحَة،‮ ‬وقالتْ‮ ‬باطمئنان‮:‬
‮- ‬أرأيت؟ كان جائعًا فقط‮.‬
وعدنا بسلام‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.