زيلنسكي يصل إلى برلين للقاء شولتس    احتفالا بعيد الأضحى، جامعة بنها تنظم معرضا للسلع والمنتجات    التجمع الوطني يسعى لجذب اليمينيين الآخرين قبل الانتخابات الفرنسية المبكرة    أيمن يونس: لست راضيا عن تعادل مصر أمام غينيا بيساو.. وناصر ماهر شخصية لاعب دولي    ضياء السيد: تصريحات حسام حسن أثارت حالة من الجدل.. وأمامه وقتًا طويلًا للاستعداد للمرحلة المقبلة    زكي عبد الفتاح: منتخب مصر عشوائي.. والشناوي مدير الكرة القادم في الأهلي    عيد الأضحى في تونس..عادات وتقاليد    إيلون ماسك يهدد بحظر استخدام أجهزة "أبل" في شركاته    بالصور| هاجر أحمد وزوجها يحضران العرض الخاص لفيلم "أهل الكهف"    عمرو أديب: مبقاش في مرتب بيكفي حد احنا موجودين عشان نقف جنب بعض    صحة الفيوم تنظم تدريبا للأطباء الجدد على الرعاية الأساسية وتنظيم الأسرة    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 11 يونيو 2024    إنتل توقف توسعة مصنع في إسرائيل بقيمة 25 مليار دولار    مصر ترحب بقرار مجلس الأمن الداعي للتوصل لوقف شامل ودائم لإطلاق النار في غزة    تعليق ناري من لميس الحديدي على واقعة تداول امتحانات التربية الوطنية والدينية    حماس ترحب بقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزة    رئيس هيئة ميناء دمياط يعقد لقاءه الدوري بالعاملين    بعد 27 عاما من اعتزالها.. وفاة مها عطية إحدى بطلات «خرج ولم يعد»    السياحة: توفير عيادات صحية وتقديم خدمات مميزة لرعاية الحجاج    عيد الأضحى 2024.. إرشادات هامة لمرضى النقرس والكوليسترول    الحق في الدواء: الزيادة الأخيرة غير عادلة.. ومش قدرنا السيء والأسوأ    وزراء خارجية بريكس يؤيدون منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    إخماد حريق داخل حديقة فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    حالة الطقس.. 41 درجة مئوية بشرم الشيخ    مصرع سيدة صدمتها سيارة أثناء عبورها لطريق الفيوم الصحراوى    مجموعة مصر.. سيراليون تتعادل مع بوركينا فاسو في تصفيات المونديال    «جابوا جون عشوائي».. أول تعليق من مروان عطية بعد تعادل منتخب مصر    «اختار الأهلي».. كواليس مثيرة في رفض حسين الشحات الاحتراف الخليجي    مختار مختار: غينيا بيساو فريق متواضع.. وحسام حسن معذور    تحذير عاجل ل أصحاب التأشيرات غير النظامية قبل موسم حج 2024    روسيا بالأمم المتحدة: إسرائيل لم توافق رسميا على اتفاق بايدن بشأن حرب غزة    قصواء الخلالي: وزير الإسكان مُستمتع بالتعنت ضد الإعلام والصحافة    أحمد كريمة: لا يوجد في أيام العام ما يعادل فضل الأيام الأولى من ذي الحجة    رئيس خطة النواب: القطاع الخاص ستقفز استثماراته في مصر ل50%    خبير اقتصادي: انخفاض التضخم نجاح للحكومة.. ولدينا مخزون من الدولار    إبراهيم عيسى: طريقة تشكيل الحكومة يظهر منهج غير صائب سياسيا    مفاجأة في حراسة مرمى الأهلي أمام فاركو ب الدوري المصري    شهداء وجرحى فى قصف للاحتلال غرب مخيم النصيرات بقطاع غزة    هل خروف الأضحية يجزئ عن الشخص فقط أم هو وأسرته؟.. أمين الفتوى يجيب (فيديو)    وفد من وزراء التعليم الأفارقة يزور جامعة عين شمس .. تفاصيل وصور    بالصور.. احتفالية المصري اليوم بمناسبة 20 عامًا على تأسيسها    منتخب السودان بمواجهة نارية ضد جنوب السودان لاستعادة الصدارة من السنغال    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب أتوبيس بالمنوفية    هل تحلف اليمين اليوم؟ الديهي يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة (فيديو)    وزيرة الثقافة تفتتح فعاليات الدورة 44 للمعرض العام.. وتُكرم عددًا من كبار مبدعي مصر والوطن العربي    «أونلاين».. «التعليم»: جميع لجان الثانوية العامة مراقبة بالكاميرات (فيديو)    أستاذ اقتصاد: حظينا باستثمارات أوروبية الفترة الماضية.. وجذب المزيد ممكن    عالم موسوعي جمع بين الطب والأدب والتاريخ ..نشطاء يحييون الذكرى الأولى لوفاة " الجوادي"    أخبار 24 ساعة.. الحكومة: إجازة عيد الأضحى من السبت 15 يونيو حتى الخميس 20    الرقب: الساحة الإسرائيلية مشتعلة بعد انسحاب جانتس من حكومة الطوارئ    منسق حياة كريمة بالمنوفية: وفرنا المادة العلمية والدعم للطلاب وأولياء الأمور    إبراهيم عيسى: تشكيل الحكومة الجديدة توحي بأنها ستكون "توأم" الحكومة المستقيلة    هل يجوز الأضحية بالدجاج والبط؟.. محمد أبو هاشم يجيب (فيديو)    «الإفتاء» توضح حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة    وزير الصحة: برنامج الزمالة المصرية يقوم بتخريج 3 آلاف طبيب سنويا    تفاصيل قافلة لجامعة القاهرة في الصف تقدم العلاج والخدمات الطبية مجانا    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غريب بشكل بشع


1
لم نلاحظ أن ماريتا لا تتكلم إلا في منتصف الطريق، ونحن نعبر فرنسا. كانت تراقبنا بعينيها اللامعتين وهي تجلس في مؤخرة السيارة. زحفتُ علي المرتبة وتوجهت نحوها، ثم طلبت منها أن تحكي لنا حدوتة، فتنهدت وأشاحت بوجهها.
كان جون يقود السيارة بسرعة، بيد واحدة علي عجلة القيادة. جون هو زوج ماريتا .. سمعته يقول لأمي أنه أحضرها في اللحظة الأخيرة لأنها ليست علي ما يرام.
نظرت بي إليّ نظرة ساخطة، فحاولت معها مرة أخري بإصرار: ماريتا..
لكنها لم تجب، بل وضعت كفها الأبيض الشاحب علي شعري، ولم تحركه حتي اقشعرت فروة رأسي، فانحنيت وابتعدت عنها. همست بي: لم تطلبي منها بطريقة لائقة.. لم تقولي لها من فضلك.
- حسناً، اطلبي أنتِ منها.
- لا أريد سماع حدوتة.
- لكنك طلبت مني ذلك.. كنت أطلب الحدوتة من أجلك.
استدارت أمي من الكرسي الأمامي وقالت: سكوت .. داني قد يستيقظ.. تعالوا اجلسوا إلي جواري وسوف أحكي لكم حدوتة. نظرت إلي بي وتمنيت أن توافق. وافقت فعلاً، فتجاوزنا جسد داني وانزلقنا من بين الكرسيين الأماميين.
" قالت السمكة البيضاء للحلزون.. أسرع فهناك خنزير بحر خلفي يدوس علي ذيلي".
التصقت بجسد أمي وتابعتها وهي تكمل" هل سترقص معي أم لا.. ترقص أم لا.. ترقص أم لا.. ترقص أم لا..."
سمعنا صوت خشخشة حقيبة داني عندما استيقظ، قال وهو يتثاءب: " هل تود أن أقود؟"
رد جون وهو ينظر إلي الطريق: "بعد نصف ساعة."
كان داني صديقي المفضل. عندما قابلته أول مرة، أخرج لي قطعة حلوي باللوز بطريقة سحرية من داخل الغليون. منذ ذلك الحين وأنا أنتظر فرصة مناسبة لأطلب منه قطعة حلوي أخري. فهو إما يقود السيارة، أو نائم، أو بي موجودة. بي أكبر مني بعامين، وهناك أشياء أحب أن أخفيها عنها. ورغم أن حلوي اللوز سحرية كما قال داني إلا أنها انتهت كأي حلوي أخري.
توقفنا تلك الليلة لكي نطهو بعض الطعام. طهت لنا أمي حساء الجزر والبطاطس في وعاء معدني علي موقد صغير، ثم تناولنا الطعام فوق العشب. نادت أمي علي ماريتا وهي تناولها الطبق، لكنها كانت تنظر إلي الأرض: "ماريتا.. هل تريدين بعض الحساء؟"
أشاحت ماريتا بوجهها ولم تجب. بدأت يد أمي الممدودة إليها ترتعش، فتأرجح سطح الحساء وتساقطت بعض القطرات علي الأرض.
قالت أمي بصوت مرتفع وحاسم وهي تفرغ مرت إلي جوارنا شاحنة مسرعة. وانتابتني موجة من الضحك الهيستيري، فعضضت شفتي وحركت الملعقة في الطبق بسرعة فأصدر ضجيجاً عالياً.
وقف جون أمام أمي، في منتصف المسافة بين ماريتا وبينها، وقال لها: "سوف تتحسن حالتها عندما نصل إلي مراكش.. سوف تتحسن.. تزوجتها لمدة أربع سنوات وكان يجب أن أعرف.."
أحاط جون خصر أمي بذراعه، فمالت برأسها علي كتفه وقالت له: " مازلت أعتقد أننا يجب أن نعيدها."
وقفا علي جانب الطريق يتمايلان، فاعتقدت أن هذه هي اللحظة المناسبة.
- داني.. هل يمكنك استخدام السحر لتحضر لي قطعة حلوي؟
كانت بي أقرب مما أظن. رفعت حاجبيها المقوسين، فتجهمتُ كي أحذرها من التدخل.
ضرب داني ركبته بيده وقال:"اللعنة.. لقد نسيت الغليون"، ثم خفض صوته وقال ضاحكاً وهو يضغط وجهي المحبط بأصابعه: "ربما علينا العودة إلي لندن بعد كل هذه المسافة!"
وصلنا بعد ظهر اليوم التالي إلي ألخيثيراس ودخلنا بالسيارة إلي العبّارة ثم خرجنا من السيارة، ووقفنا علي سطح العبارة. انحنيت أنا وبي علي السور الحديدي ولوّحنا بحماس لمجموعة من الأسبان يقفون علي رصيف الميناء. لوّح لنا بعض الرجال يرتدون زيّاً أزرق اللون. كان الهواء ثقيلاً ومشبعاً برائحة السمك والزيت.
قبل أن تختفي أسبانيا، ظهرت المغرب من الناحية الأخري للعبّارة، بدت كظل مسطح فوق الماء.
صاحت بي ونحن نجري إلي الناحية الأخري: "أهلاً بالأرض.. أهلاً بالأرض". كنا نودع أسبانيا ونرحب بالمغرب بينما شمس الغروب تغطس في الماء، والنوارس لا تتوقف عن الطيران في دوائر.
كان الظلام يهبط علي المغرب، ونحن ننحني علي السور الحديدي للعبّارة، فلم نميز بين البحر واليابسة سوي من درجة السواد. عدنا إلي السيارة ورأينا ماريتا تجلس في المقعد الأمامي. فسألتها عن الآخرين وقد نسيت أنها لا تجيب.
وقفت بي بجوار السيارة وقالت لي هيا نبحث عنهم. سألت ماريتا وأنا ألمس شعرها الكثيف الرطب المتسخ: "هل تودين الذهاب معنا؟".
جذبتني بي من ذراعي وقالت سوف أسبقك إلي سطح العبّارة، فتبعتها دون أمل في اللحاق بها. سمعنا ضحكات وأصوات مألوفة، فتسللنا وعيوننا علي الأطراف المشتعلة للسجائر. قفزت بي من الظلام ووضعت كفيها علي عيني أمي، التي صرخت وتظاهرت بالخوف.
- أخرجي نقودك وإلا قتلتك.
رفعت أمي يديها في الهواء، وتوسلت إلينا وهي تطلب الرحمة : " ليس معي نقود ".
ضحكنا جميعاً وغنينا معاً: "زهرة برية شقية تقفز في الهواء"، ثم قفزنا جميعاً.
أمسك داني بي وحملني علي كتفه وهتف: "هيا إلي السيارة". ناديت علي بي وأنا معلقة علي كتفه والدم يندفع إلي رأسي وقلت لها سوف أسبقك، ثم ضربت ظهره بكفي كي يسرع.
جلسنا في الظلام ضمن طابور طويل من السيارات، ننتظر دورنا. أظهرت أمي صورنا تحت صورتها في جواز سفر أسود اللون، ثم قالت لنا: "سوف يأتي حالاً رجل ليتأكد من هويتنا"، وبدأت تسوي شعري و تعيد الخصلات النافرة خلف أذنيّ.
كان جون يجلس علي كرسي السائق، وداني وماريتا يجلسان في الخلف، بينما الطابور يتحرك إلي الأمام ببطء.
- بمجرد أن نخرج من الجمرك، سنصل إلي طنجة في ساعتين علي الأكثر، عبر الطريق الساحلي.
كنا نتجه نحو حاجز أبيض، حيث يقوم رجلان يرتديان زياً رسمياً بتفتيش السيارات. قبل أن يرتفع الحاجز إلي أعلي ويسمح للسيارات بالعبور. سمعنا طرقاً علي الزجاج، فجلسنا ساكنين. قام جون بفتح الزجاج فهب هواء بارد ملحي، وظهر وجه طويل، وعينان زرقاوان لامعتان. ألقي التحية وسألنا وهو يدخل رأسه من شباك السيارة ويحدق فينا في العتمة: "إلي أين تتجهون؟"
- سنصل إلي طنجة الليلة.. ومنها إلي مراكش.
- أنا أيضاً متجه إلي هناك.. ديف.. إسمي ديف.
اتكأ بكوعه علي حرف شباك السيارة المفتوح وابتسم، ثم سار إلي جوار السيارة ونحن نقترب من الحاجز.
- إذن هذه هي رحلتكم الأولي.. سوف تحبون المكان.. لن تفكروا في العودة.. من أين أنتم؟.. دعوني أخمن.. لندن.. إنسي لندن يا رجل.. إنها مراكش.. حيث يوجد كل شيء.
كان يربط رأسه بإيشارب تبرز منه خصلات شعره البني الفاتح، ولم يكن معه حقيبة، أو معطف. ربت علي كتف جون وقال له : "يا أخي.. سوف تحتاج إلي بعض التوجيه.. سوف أساعدك.. سوف أركب معكم إلي طنجة.. ما رأيك؟"، ثم فتح باب السيارة، وقفز داخلها. جلس في المقعد الخلفي، ثم ألقي التحية علي ماريتا:"أهلاً سيدتي.. كيف حالك؟"، لكنها لم تجب.
ظهر وجه آخر من النافذة. وجه أسمر صارم، له شارب كث. انحنت أمي وناولته جوازات السفر. ألقي عليهم نظرة ثم نظر في وجوهنا الواحد تلو الآخر. أعاد جوازات السفر ثم أشار إلي ديف الذي كان يحتضن بعض الوسائد. قال له شيئاً لم أفهمه. أمي وجون هزا رأسيهما بالنفي، لكن ديف رفع رقبته الطويلة البيضاء، وأومأ برأسه موافقاً. صمت الضابط قليلاً ثم أشار بيده كي نعود إلي العبّارة.. إلي أسبانيا. و ظل الحاجز مغلقاً بحزم في وجوهنا.
تناولنا الإفطار في ألخيثيراس، لفائف خبز ومشروب فانتا. وتناولت ماريتا فنجان قهوة، لكنها لم تمسح البقايا عن جانبي فمها. قالت أمي أننا كنا محظوظين لأن جوازات سفرنا لم تختم بخاتم "غير مرغوب به"، ثم أضافت أننا يجب ألا نتحدث إلي ديف أو أي شخص يشبهه عند الحاجز في طنجة.
سألت بي : "هل هو شيء فظيع أن تكون غير مرغوب فيك؟"
فظيع هي كلمة بي المفضلة، فظيع وبشع هما الكلمتان الوحيدتان اللتان نطقت بهما ماريتا منذ رأيناها.
بدأت أغني لنفسي : فظيع وبشع.. فظيع وبشع.
أجابت أمي: "أجل أمر فظيع.. إذا كان هدفنا العبور إلي المغرب"
وصلنا طنجة في نفس اليوم، بعد أن عبرنا مرة أخري. هذه المرة، كان العبور سريعاً،
والشمس ساطعة، ولم يكن هناك أثر لديف. أشار لنا الضابط أن نمر بعد نظرة سريعة لجوازات السفر. صاح الجميع بأعلي صوتهم احتفالاً بدخول المغرب، عدا ماريتا.
2
قبل أن نصل مراكش بعدة ساعات، انحرفت السيارة عن الطريق، واندفعت نحو أحد الحقول ثم تعطلت. فتح جون الغطاء ووقف يحملق في الموتور، واضعاً يده في جيبه، وعلي وجهه نظرة عارفة مطمئنة ثم قال: "في الواقع.. لا أعرف ما يجب عمله.."، ثم ضحك هو وأمي، بينما قالت بي بقلق: "لا يمكن أن نبقي هنا إلي الأبد"
الحقول حولنا علي امتداد البصر من كل جانب. لا ينبت فيها سوي العشب والكثير من زهور الخشخاش والأقحوان.
قلت: "لا.. لا يمكن أن نبقي هنا للأبد"، فمن الحكمة دائماً أن أساند وجهة نظر بي. عدنا إلي السيارة، وانتظرنا حتي تتوقف أمي وجون عن الضحك. كانت ماريتا ترقد علي جنبها مغمضة العينين، وقد وضعت ذراعها علي وجهها، ومع ذلك لا أستطيع التأكد إن كانت نائمة أم لا. في البداية توقفت عن الكلام، ثم توقفت عن تناول الطعام، والآن يبدو أنها لن تتحرك مرة أخري. فمازالت بقايا القهوة علي جانبي فمها منذ يومين.
كان داني يريد الوصول إلي طنجة. تركناه هناك أمام مقهي له واجهة مخططة باللونين الأبيض والبرتقالي. ودع داني الجميع، وقبل أن ينصرف انحني قليلاً وفرك أنفي ثم قال: "يا الهي.. ما هذا.. كيف وصلت إلي هنا".. كانت قطعة كبيرة من الحلوي البيضاء تستقر في راحة يدي.
سألت ماريتا: "هل يبيعون الحلوي في مراكش؟"، فلم تجب، ولم تكن بي تعرف الإجابة.
جلسنا علي جانب الطريق، نشاهد جون وهو يبتعد، في طريقه للبحث عن شخص يُصلح السيارة. تمددت أمي علي العشب وطلبت مني أن أحكي لها حدوته، ثم تمددت بي إلي جوارها وقالت: "هيا احكي لنا حدوته".
حكيت لهما ما حدث ذات يوم قبل أن نغادر لندن، عندما سمعت طائرين يتحدثان عن كل ما يشغل بال الطيور: نتف الخبز، الطقس، الطيور الأخري.. ثم حكيت لهما عن الشجار الذي نشب بينهما بسبب دودة.
قالت بي: هذا سخيف.. لا أحد يفهم لغة الطيور.
أجبتها: أنا أفهمها.. لكن صوتي لم يكن مقنعاً أثناء الحكي.
فقالت: كاذبة.
غضبت وامتقع وجهي.. كيف أكذب وأنا أذكر كل كلمة قالتها الطيور. فكرت في الموضوع، فتزايدت شكوكي.. وناديت علي أمي لكنها كانت قد نامت في الشمس.
تبعنا جون إلي مقهي غير بعيد عن المكان الذي تركنا فيه السيارة. همس إلي أمي: "إنه في فندق فرنسي.. أظن أن الأسعارهنا مرتفعة بعض الشيء". أكدت له أمي أننا سوف نتناول الشاي فقط، ثم جلسنا علي رصيف المقهي في الظل. الشاي به أوراق النعناع، ومُحلي بالكثير من السكر. نظرت أمي إلي الكوب وقالت: "إنه يشبه العصير".
أحضر جون ثلاثة من الصبية المغاربة يرتدون عباءات لها غطاء رأس مدبب، ليساعدوه في دفع السيارة. رفضت ماريتا مغادرة السيارة، فابتسم الصبية، ولوّحوا لها عبر الزجاج الخلفي للسيارة.
جلسنا في المقهي طوال النهار، وقبل الغروب حدق جون في موتور السيارة بأسي وقال: "هذه السيارة تحتاج إلي معجزة حتي تصل إلي مراكش". فأخرجت أمي البطاطين من السيارة وصنعت لنا فراشاً في حديقة الفندق. لطيف أن تنام علي الأرض، فوق سرير لا يتحرك بك وأنت نائم.
قال جون: "سوف استخدم طوابع التأمين هذه حتي نستطيع تأجير شاحنة تقطر السيارة وتجرها حتي مراكش". عاد صوت أمي المندهش للظهور من جديد وهي تسأل: "طوابع تأمين؟!"، بينما سألت بي عن معني كلمة "يجر".
جلسنا في الشاحنة التي تجر سيارتنا، وجلس جون وحده في سيارتنا؛ خلف عجلة القيادة، حتي ماريتا كانت معنا. في البداية رفضت النزول، لكن جون حملها ووضعها في الشاحنة. اعتقدت أنه من الأفضل والأسهل لنا أن نأخذ قارباً ونعود إلي انجلترا.
لابد أنني نمت، وحلمت بجون وماريتا، وابنتهما الصغيرة التي تركاها في لندن. كنا علي سطح سفينة، وهي تقف علي سلم متحرك وتلوّح لنا. الجميع علي سطح السفينة يلقون بكرات المناديل الورقية علي أصدقائهم الواقفين علي الرصيف، ولم يكن لدينا بكرات مناديل لنلقيها.
استيقظت علي حِجر أمي، في حجرة بيضاء صغيرة. كانت أمي تتحدث بالفرنسية إلي رجل بدين قصير، يبتسم وهو يتحدث، ويصفق ويضحك بعد كل جملة يقولها. وكانت بي تنظر من نافذة يتدفق منها ضوء أبيض إلي داخل الحجرة. السيارة تقف قبالة النافذة. مُعطلة ومُتربة، و يتجمع حولها الذباب وبعض الأطفال.
صب لنا أكاري السمسار، الذي كنا نجلس في دكانه، شاياً بالنعناع في أكواب زجاجية. كان يصبه من ارتفاع عال دون أن يسقط قطرة واحدة علي الأرض. وبعد أن امتلأت الأكواب، أعاد الشاي إلي البراد، وصبه في الأكواب مرة أخري. كان لون الشاي في صفرة عيون القطط.
طلب جون من أمي أن تسأله إذا كان يمكن ترك السيارة عنده حتي يبيعها أو يصلحها. ابتسم أكاري بعد أن سمع الترجمة، وحرك رأسه موافقاً، ثم نهض ليغلق الدكان وأمي تخبرنا أنه سيؤجر لنا بيتاً في حي الميلا، سوف نذهب معه لنراه.
حي الميلا هو الحي اليهودي في المدينة. كان البيت بسيطاً، أبيض اللون، وبه ثلاث حجرات نوم في الطابق العلوي، بينما المطبخ وحجرة المعيشة بالطابق الأول. الأرضية مُبلطة، وكذلك الحوائط حتي منتصفها. ولم يكن به أي أثاث. وكان له حديقة تنمو فيها الزهور بين الأحجار. استطاعت ماريتا المشي حتي البيت، وحين وصلنا جلست علي الأرض.
نصحنا أكاري أن نشتري مِجمار. سألت بي عن معني الكلمة فأجابت أمي إنه موقد للطبخ، يعمل بالفحم، وسوف نحتاج إلي كير نفخ.
قال جون: "سوف أبحث عن أحد يحضر المراتب من الشاحنة".
- ما هو كير النفخ يا أمي؟
- بي.. ما هو كير النفخ؟
كانت بي قد خرجت إلي الحديقة، تركل الزهور، وتبحث عن السحالي بين الأحجار.
في الليل، عندما بدأت أمي تقرأ لنا في حجرة النوم، اتكأت عليها وسألتها: "هل وصلنا ؟"
أجابت: "أجل وصلنا.. هل يشبه هذا ما كان في خيالك ؟"
لا أعرف، لم أفكر من قبل كيف سيكون الأمر هنا. سألتها بي: "كم من الوقت سنبقي هنا؟"،
فأجابت: "لا أعرف.. حسب رغبتنا في البقاء"، ثم بدأت تقرأ القصة التي سوف تحكيها لنا ونحن ننتظر، لكنها أضافت: "يمكن أن تذهب بي إلي المدرسة هنا إن أرادت"، فسألتها هل أستطيع الذهاب إلي المدرسة أنا أيضاً؟"
ربتت علي رأسي وقالت: "في العام القادم عندما تصبحين في نفس عمر بي".
بدأت أبكي، لكني كنت متعبة جداً فتوقفت، وبالكاد شعرت بأمي وهي تخلع ملابسي، وأحسست بالنعومة المألوفة لملاءات السرير النظيفة الباردة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.