الأطراف اليمنية المتصارعة من مؤتمر جنيف بخُفّى حنين. وبعودتهم لم يعد بمقدور أحد أن يتنبأ بمآلات الأزمة. كل ما يمكن تخمينه هو أن مستقبل اليمن أصبح مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، وأصبحت العودة حتى إلى اليمن الذى كنا نعرفه قبل الأزمة يحوم حولها شك كبير. تعقدت الأزمة واشتجرت خيوطها، واستعصى على أطرافها فى داخل اليمن أو فى خارجه أن تعرف من أين يبدأ أول الخيط ومتى ينتهى. وهل يمكن للاعب واحد فى اليمن أن يتحكم فى تلك الخيوط، كما يتحكم لاعب الدُمى الماهر فى خيوط دُميته ويحركها فى الاتجاه الذى يريد؟! والمشكلة فى اليمن أن المسرح ليس عليه لاعب واحد، وإنما لاعبون متنافسون تحركهم دوافع ومصالح متعارضة، ولكل منهم خياراته وسيناريوهاته التى تتعارض مع خيارات الآخرين. بعد حرب -لم تضع بعد أوزارها- شنّها تحالف بقيادة السعودية ضد جماعة الحوثيين المتمردة على الشرعية، ما زالت الأزمة تراوح مكانها. ويبدو الأفق مسدوداً أمام حسم عسكرى سريع يفتح كوة فى نهاية النفق المغلق. وعندما انتقل المتحاربون من ميادين القتال إلى مائدة التفاوض فى جنيف، فإنهم لم يتحركوا أبعد مما تسمح لهم به قوتهم على الأرض، ولذلك سرعان ما طوى المتفاوضون أوراقهم فى جنيف وعادوا أدراجهم من حيث أتوا. وبين الكر والفر على الأرض، وبين التدافع والتراجع على طاولة التفاوض يبدو مستقبل اليمن وكأنه معلق على سيناريوهات أربعة تحركها وتدفع إليها قوى محركة داخلية وخارجية: (1) السيناريو المرجعى و(2) السيناريو الصومالى و(3) السيناريو العراقى و(4) سيناريو حكومة الائتلاف الوطنى. (1) السيناريو المرجعى أو عودة النظام السابق أو على الأقل إعادة إنتاجه أو استنساخ صورة شبيهة منه، يُستغنى فيها عن الرئيس الضعيف منصور هادى غير المتوافَق عليه من كل الأطراف اليمنية، وإحلاله -تأكيداً للشرعية المعتدى عليها- بنائب الرئيس توطئة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة يؤول فيها الحكم لشرعية جديدة. ويتوقع أن يعارض الحوثيون هذا الخيار ويضعون فى طريقه العقبات، بينما تؤيده من الداخل قطاعات مهمة من حزب المؤتمر الوطنى والحزب الاشتراكى اليمنى والأحزاب ذات التوجه القومى (الناصريون والبعثيون) وحزب التجمع اليمنى للإصلاح (الذراع السياسية للإخوان المسلمين فى اليمن) ومن الخارج السعودية ودول التحالف العربى. (2) السيناريو الصومالى: وفيه تعلن «القاعدة» ذات النفوذ الطاغى فى محافظات اليمن الجنوبية عن دولة من الطراز الصومالى، تحاكى فى تنظيمها وإدارتها ومؤسساتها ومحاكمها التنظيمات التى أقامها الشباب المسلم فى الصومال. وتبسط القاعدة هيمنتها الآن على محافظة حضرموت وتتخذ من المكلا عاصمة لها. (3) السيناريو العراقى: ويفترض هذا السيناريو أن الصراع فى اليمن سيفضى لا محالة إلى تقسيم اليمن على أساس طائفى بين دولة ذات مرجعية شيعية زيدية يقودها الحوثيون والزيود ومدعومة من إيران، ودولة سنية يلتف حولها الشوافع والتجمع اليمنى للإصلاح وجماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من الفواعل التى أعلنت تأييدها للتحالف العربى ضد الحوثيين بقيادة السعودية. وسيؤدى هذا التقسيم إلى تأجيج الاقتتال الأهلى والصراع الطائفى والمذهبى. وبحكم موقع اليمن الاستراتيجى وجوارها القريب من الخليج فإن الصراع بين دولتين شيعية وسنية سيجلب تدخلات من جماعات إرهابية سنية كالقاعدة وداعش والنصرة أو من جماعات شيعية عربية بعضها أعلن النفير، وهو ما قد يؤدى إلى توسيع دائرته خليجياً وعربياً، وربما يشعل أول حرب طائفية عربية فى التاريخ الحديث، ويفتح الطريق إلى إحياء مشاريع التجزئة الإقليمية المقترحة للجزيرة العربية وأهمها مشروع «الهلال الشيعى». (4) سيناريو الخروج الآمن للدولة اليمنية، أو سيناريو حكومة ائتلاف وطنى. وهو أكثر السيناريوهات تفاؤلاً فى الحالة اليمنية، باعتباره طوق الإنقاذ الذى لم يُجرَّب بعد لإخراج اليمن من لُجة الفوضى التى ضربته، وتركته فريسة لجماعات مذهبية (الحوثيون) حتى إن ما تبقى من الدولة (الجيش)، صار يحتمى بها ويأتمر بأمرها ويهدد مؤسساتها السيادية ويهيمن عليها، بل وينقلب على رئيسها الشرعى. يفترض هذا السيناريو أن تسعى القوى اليمنية المختلفة إلى «صفقة» تقوم على أساس القبول الطوعى من كافة القوى لقواعد جديدة للعملية السياسية، تضمن ديمقراطية «استيعابية» لكافة القوى الموجودة على الساحة ومنها الحوثيون. وينبغى لتحقيق الائتلاف الوطنى اليمنى أن تتوافر له «نواة مركزية» من بين الأحزاب والقوى الوطنية قادرة على إدارة حوار خلاق بين الشتيت المتنافر من هذه القوى والأحزاب، وإيجاد مساحة اتفاق تضمن بقاء التحالف حياً، وتحييد المؤسسة العسكرية اليمنية والمتغير الخارجى، فليس من المنطق أن يقوم التحالف على فكرة استعداء قوى أجنبية أو على الانتقاص من الدور الوطنى المنوط بالمؤسسة العسكرية، وهو دور يرتفع فوق أى اعتبارات قبلية أو مذهبية أو حزبية. على القوى الوطنية اليمنية أيضاً صاحبة المصلحة فى وحدة اليمن واستقراره أن تكون القوة المحركة وراء هذا السيناريو. وسوف تجد معها قوى إقليمية تضغط معها فى اتجاه هذا الخيار، مثل مصر صاحبة الدور التاريخى الأبرز فى اليمن والحضور المقبول من غالبية القوى الوطنية اليمنية. ولا يخفى أن قوى دولية كبرى مثل روسيا ليس لها تراث تاريخى معاد للأمانى العربية قد دخلت مؤخراً على خط الأزمة منحازة إلى خيار الائتلاف الوطنى.