فى كتابه الجديد «اختطاف الثورة» يواصل الأستاذ عاطف الغمرى قراءاته فى الوثائق الأمريكية، وهى هواية أشبه بالاحتراف بدأها منذ أن كان مديراً لمكتب الأهرام فى واشنطن، فلم يكن صحفياً يكتفى بتزويد صحيفته بتغطية الأخبار من العاصمة التى تصنع فيها القرارات الدولية، وإنما قضى وقته باحثاً منقباً عن أسرار السياسة الأمريكية فى وثائقها المنشورة، أو تلك التى لم يرفع عنها النقاب بعد. فى كتابه السابق «وثائق البيت الأبيض تتكلم» فض الأختام عن الأسرار الأولى للعلاقة المثيرة للجدل بين الإخوان والولاياتالمتحدة، التى بدأت فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق آيزنهاور. وفى كتابه الجديد يقرأ عاطف الغمرى وثائق من نوع آخر صادرة هذه المرة عن مراكز دراسات وأبحاث كرست جهودها لخدمة مراكز صنع القرار الرئيسية فى الولاياتالمتحدة، وبعضها كتبها باحثون محترفون قريبون من تلك المراكز. وكتابه الجديد يختلف عن كتبه السابقة التى تعرضت لهذه العلاقة المسكونة بالألغاز والمفارقات، والتى يستعصى على البعض أحياناً تفسيرها. فبينما ضربت الكتابات السابقة فى الجذور التاريخية الأولى لهذه العلاقة، فإن الكتاب الجديد «اختطاف الثورة» يبدأ من نقطة زمنية قريبة، ما زلنا نعيش تداعياتها وتفاعلاتها منذ 25 يناير 2011، ويحلل فيه الكاتب نماذج من «منتجات» مراكز الفكر الأمريكية التى تعرضت لجوانب معروفة عن دور الولاياتالمتحدة فى التمكين للإخوان ليس فقط من حكم مصر، وإنما أيضاً من أجل «ترويض النمرة» الإسلامية، مع الاعتذار ل«شكسبير»، «وتطويعها» لدور «الوكيل» الأمريكى فى دول الربيع العربى التى سقطت ثمارها فى حجر الإسلاميين. لكن أخطر ما فى الكتاب الجديد أو المحور الذى دارت حوله فصوله وصفحاته هو تقريره بأن وصول الإخوان للحكم لم يأتِ نتيجة جهود ذاتية، بل كان للإدارة الأمريكية الدور الأكبر فى ممارسة الضغوط، وتهيئة الأوضاع التى تمهد لهم طرق الوصول إلى الحكم. وقبل ثورة 30 يونيو 2013 بثلاثة شهور كتب «بارى روبين» مقالاً فى «نيويورك تايمز» قال فيه «من المقطوع به أن أوباما كان يدفع بالإخوان نحو السلطة طبقاً لاستراتيجية واعية ومتعمدة»! كانت الدراسات الغربية قد استقرت على الرأى القائل بأن «اختطاف الثورة» فى مصر كان عملية وضعت لها الولاياتالمتحدة -كما قال «الغمرى»- خطة من اليوم الأول لانطلاقها، والترتيب لدفعها إلى يد «وكيل»، يكون بمثابة الواجهة التى تتستر وراءها الولاياتالمتحدة، واختارت «الخطة» أن يكون الإخوان هم «الوكيل» فى مصر. يقطع بهذا الرأى البروفيسير مايكل شوسودوفسكى مدير مركز الأبحاث الدولية فى كندا. يقول فى دراسته عن «حركات المعارضة فى مصر»: «إن أجندة واشنطن فى مصر قامت على اختطاف حركات المعارضة واستبدال حكم حسنى مبارك برئيس جديد للدولة أكثر طاعة وانصياعاً، يحافظ على مصالح واشنطن الخارجية. وجاء حكم محمد مرسى نظاماً بالوكالة عن أمريكا فى مصر». لم يكن الإخوان يمثلون -فى الماضى أو فى الحاضر وبالقطع فى المستقبل- أى تهديد مباشر لمصالح واشنطن الاستراتيجية، فلهم تاريخ طويل من التعاون مع أجهزة المخابرات الأمريكية منذ الخمسينيات. فقد استخدمتهم الأخيرة للإطاحة بعبدالناصر، وظلت الروابط السرية قائمة بينهما حتى بعد عبدالناصر. وكان الإخوان من أنجع أدوات الحرب الباردة التى استخدمها الأمريكيون لوقف نفوذ الاتحاد السوفيتى السابق فى الشرق الأوسط، وحتى دورهم فى تعبئة «وتوريد» المجاهدين العرب للحرب فى أفغانستان، تلك الحرب التى أضرموها أيضاً «بالوكالة» عن الولاياتالمتحدة، ولم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل، بينما تركوا ساحات الجهاد الحقيقية التى لنا فيها «نوق وجمال مغتصبة». كان الشيخ عبدالله عزام الإخوانى «الفلسطينى» مسئولاً عن «تفويج» المجاهدين العرب إلى أفغانستان، وليس إلى فلسطين.. أرأيت المفارقة؟! كثيرون كانوا يغردون «داخل» السرب غير هؤلاء منهم الإنجليزى جون برادلى والأمريكى دانيال جرنيفيلد، ومنهم -وليس مفاجأة- جون كيرى ذاته. يقول «برادلى» فى كتابه «بعد الربيع العربى»: «إن الإسلاميين ركبوا موجة الثورات العربية، واختطفوها. ثم نفذوا ثورة مضادة شاركت فيها دول خارجية من بينها قطر. فالإسلام السياسى اختطف ثورات الربيع العربى عبر الشرق الأوسط كله». ويذهب جرنيفيلد إلى أبعد من مصر فيقول: «فى سوريا قام الإخوان بإرسال فرق من المتسللين والعملاء الأجانب المتعاونين معهم إلى سوريا معتمدين على التأييد الغربى لهم. لكن حملة الإخوان خابت بسبب تعدد الأطراف الطامعة فى الاستيلاء على سوريا». يعترف شاهد من أهلها هو جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكى، بأن الثورة التى أطلقها الشباب سرعان ما اختطفت منهم على يد التنظيم الوحيد المنظم جيداً فى الدولة وهو تنظيم الإخوان المسلمين. ربما كان موقف «كيرى» من ثورة 30 يونيو أكثر وضوحاً وحسماً من كل مواقف إدارة الرئيس أوباما فقد كان رأيه أن الجيش فى مصر -باحتجاز محمد مرسى- قد استعاد الديمقراطية، وحقن دماءً كثيرة كانت فى طريقها للجريان لو ظل الإخوان فى الحكم! لكن يظل موقف أوباما أكثر المواقف إثارة للجدل. ففى كتابه «الإخوان المسلمون عدو أمريكا الكبير المقبل» ينحو مؤلفه ستيكلبيك باللائمة على إدارة أوباما التى احتضنت الإخوان ورتبت اجتماعات مع ممثلين لهم مقيمين فى أوروبا ووفود منهم ما زالت حتى اليوم تتردد على أبواب البيت الأبيض. وكان لدى أوباما إصرار على دعم الإخوان للاستيلاء على السلطات فى الشرق الأوسط. وتلك قصة نعود إليها فى مقال مقبل.