فى سوريا، لا أحد يتوقع المآل الذى ستنتهى إليه الحرب العبثية بين النظام السورى ومعارضة متعددة المشارب والأجندات، مدعومة معظم فصائلها من الخارج. هل سيؤدى هذا الصراع العبثى إلى تغييرات جيوسياسية راديكالية؟ هل ستبقى سوريا موحّدة بغير تقسيم أم ستنفرط وحدتها الإقليمية وتتوزّع أشلاؤها بين الفصائل المتحاربة؟ أم سينجح النظام فى الدفاع عن الوحدة الجيوسياسية، ويتحرك فى اتجاه إعادة اللُحمة الوطنية ويعيد ترميم علاقاته الإقليمية؟ وما تأثير كل هذه التغيرات الجيوسياسية على الثروة النفطية فى الخليج؟! أياً كان شكل السيناريو المقبل، فإن توترات الجوار السورى القريب من الخليج وتهديداته سوف ترفع التكلفة السياسية لنفط الخليج، خصوصاً فى ظل العلاقة الاستراتيجية الخاصة التى تربط النظام السورى بإيران، وهى علاقة لن يكون من السهل التفريط فيها إلا بثمن باهظ. ثمة ثلاثة مشاهد نفطية لا تخطئها العين تعكس التحديات الجيوسياسية المترتبة على الأزمة السورية: ■ هناك مشروع قطرى مدعوم أمريكياً لمد أنبوب لجر الغاز القطرى عبر الأراضى السعودية والأردنية إلى حمص السورية (هل يفسر هذا المشروع التورط القطرى فى الأزمة السورية لتقوية شوكة المعارضة؟!). ومن حمص يتفرّع إلى ثلاثة أنابيب، واحد باتجاه اللاذقية على الساحل السورى، والثانى إلى طرابلس فى شمال لبنان، والثالث باتجاه تركيا. والهدف هو توصيل الغاز القطرى والإسرائيلى إلى البر الأوروبى، وكسر احتكار المنافس الأكبر لتزويد أوروبا بالغاز، وهو الاتحاد الروسى، وتحرير تركيا من الاستمرار فى اعتمادها على استيراد الغاز الإيرانى. وثالثاً منح إسرائيل فرصة تصدير غازها إلى أوروبا براً وبتكلفة رخيصة. وهكذا يبدو النفط والغاز وكأنهما القمة الظاهرة من جبل الجليد السورى الذى تختفى وراءه الصراعات السياسية والعسكرية. ■ فى مقابل هذا المشروع القطرى يوجد مشروع إيرانى - سورى لمد خط أنابيب من إيران عبر العراق، وصولاً إلى الأراضى السورية. ويتفرّع هذا الخط فى حمص إلى خطين ينتهيان فى كل من اللاذقية على الساحل السورى، وطرابلس على الساحل اللبنانى. ■ كان للأزمة السورية تأثير سلبى على صناعة النفط السورية. فقد وقعت معظم آبار النفط فى دير الزور والقامشلى تحت سيطرة «جماعات إرهابية مسلحة» تابعة لتنظيم «دولة الشام والعراق الإسلامية»، «داعش»، وجماعة النصرة فرع «القاعدة» فى بلاد الشام. وتضع هذه الجماعات أيديها على تلك الآبار وتقوم بأعمال تكرير، باستخدام تقنيات ومعدات بسيطة، ويُباع الإنتاج بأسعار زهيدة للسكان المحليين أو فى السوق التركية عبر وسطاء أتراك. وتقدّر مبيعات «داعش» اليومية بحوالى مليون ونصف المليون دولار، مما يهدر ثروة البلاد. وتكاد ليبيا تتوزّع بين «ملوك الطوائف الإسلامية». من «داعش» و«فجر» و«الإخوان» وانتقال الصراعات المسلحة بين الفرقاء الليبيين قريباً من منابع النفط الليبى، وتصاعد الاتجاهات المطالبة بالحكم الذاتى والفيدرالية للكيانات الإقليمية الثلاثة التى تتكون منها ليبيا، وهى برقة وطرابلس وفزان. بل والشروع فى اتخاذ خطوة عملية نحو استقلال بنغازى وبرقة وإعلانها منطقة حكم ذاتى، وهى المنطقة الأغنى بالنفط الليبى (30 بالمائة من الإنتاج)، وتشكل هى الأخرى «هلالاً نفطياً» آخر تتربّص به وتقترب منه وتتلمظ لالتهامه ميليشيات الإسلام السياسى. وقد خرجت مناطق ليبية مهمة بسبب هيمنة الميليشيات المسلحة من دورة الإنتاج والتصدير، وهو ما ينقل جزءاً من الطلب الأوروبى على النفط الليبى إلى النفط الجزائرى أو نفط الخليج العربى. وليس عنق اليمن بعيداً عن سكين التقسيم، فعنقه تحت نصله مباشرة، وتقسيمه هذه المرة بين ستة أقاليم كأن لم يكفِ التقسيم إلى شمال وجنوب. وبانتقال الرئيس والحكومة إلى عدن وسيطرة الحوثيين على صنعاء صرنا قاب قوسين أو أدنى من التقسيم الفعلى، وصارت خطوط الملاحة البحرية من باب المندب إلى البحر الأحمر فى مرمى الخطر، وهى الممرات التى تسلكها ناقلات النفط العملاقة التى تحمل جزءاً مهماً من نفط الخليج. ولا شك أن وجود تنظيم القاعدة وتمركزه فى اليمن يجعل الملاحة فى باب المندب فى حالة تهديد مستمر، لأن ناقلات النفط سوف تكون هدفاً لضرباته، وهو ما يُنزل أشد الضرر بالاقتصادات العربية فى الخليج، ناهيك عن الدعم الإيرانى للحوثيين، أولئك الذين أوجدوا موطئ قدم لإيران فى اليمن صارت بمقتضاه صاحبة قرار فى أمن البحر الأحمر. لقد بدأت سكين التقسيم -طبقاً لحدود نفطية- تغرس نصلها فى قالب الكيك العربى بالعراق، الذى ورثت دولته المركزية الموحّدة دولة طائفية سرعان ما ذرتها ريح «داعش» فاجتاحتها وأعلنت فى نصفها الشمالى والغربى دولة الخلافة الإسلامية وعاصمتها الموصل، وضمت إليها المناطق الغنية بالنفط المقضومة من شمال شرقى سوريا. وقد امتد النصل ليقتطع دولة فى جنوب السودان وُلدت وهى تحمل بذور تفتُّتها، حتى إن كانت ترقد على ثلثى مخزون النفط السودانى، وفتحت بانفصالها باباً لفصل أقاليم أخرى فى كردفان ودارفور، وتم تعليق النزاع فى إقليم أبيى السودانى الغنى بالنفط، وتفتيت الصومال بحرب أهلية منذ 1991. وقد ثبت مؤخراً أن الصومال قد دخل، أو فى سبيله لأن يدخل، بقوة إلى دائرة الصراع على النفط. وبحكم موقعه على القرن الأفريقى والمحيط الهندى فإن أطماعاً كثيرة، بعضها تركى أخذ يسيل لعابها عليه. لقد أرخت التوترات المصاحبة لأحداث ما اصطلح عليه «بالربيع العربى»، وهو مصطلح أمريكى نستخدمه تجاوزاً، جرياً على استعارة كل ما هو أمريكى!، أرخت هذه التوترات بظلالها على مناطق النفط العربية، وتركت، أو هى فى سبيلها لأن تترك، آثاراً سلبية، أو على الأقل، غير مضمونة النتائج على أمن الطاقة وإمدادات النفط واستقرار أسواقه. بعض هذه التغيرات الجيوسياسية وقعت فى أقطار تتماس حدودها مع الدول النفطية فى الخليج العربى مثل سورياوالعراق واليمن، والبعض الآخر وقع فى دول نفطية مثل ليبيا، حتى الدول التى وقعت بعيداً عن خطوط التماس مع النفط، مثل تونس ومصر، كان لها تأثيرها غير المباشر فى منطقة تخضع العلاقات بين وحداتها لنظرية الدومينو!