جزء كبير -إن لم يكن الجزء الأكبر- من تاريخنا العربى الحديث فى القرن العشرين مكتوب بمداد من النفط، حتى عندما كانت أحداث التاريخ تقع بعيداً عن منابعه أو تُنسب -بغرض إخفاء المطامع- لأسباب غير أسبابه، فإن رائحة النفط التى تفوح منها لم تكن لتخطئها الحواس. وتاريخ النفط واكتشافه فى الخليج والجزيرة العربية هو حلقة فى تاريخ الصراع على المنطقة العربية، لكنها الحلقة الأهم، بحكم ما يمثله النفط من أهمية اقتصادية واستراتيجية للحضارة العالمية الحديثة التى ظلت طوال القرن العشرين معتمدة عليه. ولا يبدو -ولأسباب كثيرة- أن اعتمادها عليه فى القرن الحادى والعشرين سيخف. وربما لهذا السبب لم تختلف سيناريوهات الصراع حول منابعه التى كانت ذروتها الحرب على العراق فى 2003 عن سيناريوهات الصراع بين القوى الكبرى فى السنوات الأولى من القرن العشرين، وهى السنوات التى بدأت تبوح فيها الأرض العربية بأسرار كنوزها النفطية. منذ الحرب على العراق والشروع فى تفكيكه تواجه مناطق النفط العربية تحديات جيوسياسية عديدة تهدد أمن الطاقة وتدفق النفط إلى مناطق الاستهلاك فى المستقبل. بعض هذه التحديات ناجم عن الارتجاج المدوى الذى صاحب ثورات مبتسرة وحركات احتجاج لم تكتمل وحروباً أهلية مفتوحة لتدخلات خارجية، ودولاً قبل أن تسقط وتستسلم أسلمت قيادها لميليشيات الإرهاب وجماعاته لتستكمل بيدها -لا بيد عمرو الأمريكى- مشاريع تقسيم المنطقة وإعادة صياغة خرائطها! ليس من الحكمة أن تؤخذ المشاريع المقترحة لصياغة خرائط جديدة للشرق الأوسط مأخذ الهزل، فمن قبل أن يغرب القرن العشرون تقوم مراكز الفكر فى الولاياتالمتحدة بنشاط محموم لإعادة صياغة الخرائط الجيوسياسية فى الشرق الأوسط، وتقسيم المنطقة الواقعة بين باكستان شرقاً والمغرب غرباً إلى كانتونات ووحدات سياسية جديدة تستند إلى أسس دينية وعرقية وطائفية غير تلك التى قامت عليها الوحدات فى «سايكس بيكو» فى مطلع القرن العشرين، ومن أكثر هذه المشاريع رواجاً مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، ومشروع القرن الأمريكى الجديد اللذان ظهرا فى بداية القرن الحادى والعشرين، ومنها على سبيل المثال أيضاً «خطة السنوات العشر لتغيير الشرق الأوسط من الداخل» التى وضعها مايكل لادين بتكليف من معهد أمريكان إنتربرايز American Enterprise Institution وتقارير مؤسسة هيريتاج Heritage عن إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وقبل هذه المشاريع بسنوات طويلة كان يصدر عن العقل الباطن الأمريكى إشارات وفلتات لسان مهدت لهذه المشاريع التى أطلت برأسها فى غير مواربة فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، ففى عام 1980 والحرب العراقية الإيرانية دائرة صرح مستشار الأمن القومى الأمريكى بريجيسكى بقوله «إن المعضلة التى تعانى منها الولاياتالمتحدة من الآن هى كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس بيكو»، وعقب إطلاق هذا التصريح وبتكليف من «البنتاجون» بدأ المؤرخ الصهيونى «برنارد لويس» بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعاً كل على حدة، وتفتيت كل منها إلى كانتونات ودويلات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية، وثمة دراسة مسربة من البنتاجون بتقسيم الدول العربية قبل 2015 إلى عدد من الدويلات، كما تقدم ماكس سينجر مؤسس معهد هدسون بخطة للمسئولين بوزارة الدفاع تتلخص فى تقسيم المملكة العربية السعودية، كما أن الهلال الشيعى المقترح فى الخليج وشرق الجزيرة العربية وجنوب العراق إن هو إلا «هلال نفطى خصيب» لا يغيب عن نظر الطامعين فيه، وهو ما يقدم دليلاً جديداً على أن الحدود الجيوسياسية المقترحة هى بالأساس «حدود نفطية». ويشهد بصحة خطط التقسيم تلك عمليات التقسيم الفعلية التى تجرى الآن على قدم وساق فى الدول العربية كالعراق بعد الاحتلال وإقرار الفيدرالية الكردية فى الشمال توطئة لقيام دولة كردية كاملة السيادة، تضم داخل حدودها كركوك تلك الدجاجة التى تبيض ذهباً أسود، وهناك محاولات بدأ التفكير فيها بعد الاحتلال لإحياء مشاريع قديمة مثل مشروع أنابيب كركوك لنقل نفط العراق إلى حيفا فى إسرائيل، ومشروع سليمان ديمريل لنقل النفط إلى تركيا مقابل نقل المياه التركية إلى الخليج والجزيرة العربية الذى عرف بمشروع «النفط مقابل المياه»، كان الهدف ولا يزال هو نقل نفط العراق عبر البحر المتوسط سواء عن طريق الموانئ الإسرائيلية، أو عن طريق البوابة التركية.