يعتقد البعض أن إفريقيا بمنأى عن القضية الفلسطينية وما يعانيه الشعب الفلسطيني لاستعادة أراضيهم المحتلة، ولكن الحقيقة أن المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية كانت واضحة ولم تكن مواقف باهتة أو صامتة، وقد اتسمت تلك المواقف بالوضوح منذ استقلال غانا عام 1957، حيث كانت الدول الإفريقية تناضل من أجل التحرر الوطني، وهو الأمر الذي يدفع إلى إثارة أكثر من سؤال حول الدوافع والأسباب التي تفسّر لنا موقف الأفارقة إزاء الكيان الصهيوني منذ نشأته؛ بوصفه كياناً "إمبريالي" محتلا ودخيلا في قلب الأمة العربية عام 1948م. وبرغم الموقف الإفريقي المناهض للكيان الصهيوني، إلا أن ذلك الموقف مر بالتعقّد والتغيّر وعدم التجانس في بعض الفترات وذلك لعدة أسباب: أولها : أن فرض الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط؛ أدّى إلى خلق نظام إقليمي صراعي، حيث أضحى سمة لازمة للتفاعلات العربية الإسرائيلية، ويعني ذلك أن تحرّك إسرائيل في تفاعلاتها الخارجية، وخصوصاً مع القارة الإفريقية، جعلها ترتبط بهذه الوضعية التي أخرجت علاقاتها مع دول المنطقة عن مصافّ العلاقات الطبيعية بين الدول. وثانيها: ارتباط العلاقات الإسرائيلية الإفريقية وتأثرها بالعلاقات العربية الإفريقية، وهو ما أدى إلى النظر للقارة الإفريقية بوصفها ساحة للتنافس والصراع بين إسرائيل والدول العربية. وثالثها : ارتباط كل من إسرائيل والعرب والأفارقة بمتغيّرات النظام العالمي، حيث تأثرت العلاقات بين هذه المجموعات بإرادة النظام العالمي وتوجهاته، سواء القديم أو الجديد، وربما يكون التغيّر الهيكلي الذي شهده النظام العالمي منذ بداية التسعينيات، وأودى بحياة الحرب الباردة في غير مصلحة العرب والأفارقة، هو ما أفاد يقيناً الدولة الصهيونية التي راحت تُعيد ترتيب أولويات تحركاتها الخارجية بما يحقق لها الهيمنة الإقليمية، وأحلامها في بناء دولة إسرائيل الكبرى. ومن الملاحظ أن مواقف الدول الإفريقية، ولا سيما غير العربية، من القضية الفلسطينية، قد شهدت تحوّلات فارقة خلال الأعوام الخمسين الماضية، وربما ترجع تلك التحوّلات إلى تغيّر الاهتمامات وترتيب الأولويات الإفريقية، فضلاً عن تطوّر النظام العالمي، فالدول الإفريقية خلال عقد الستينيات أقامت علاقات دبلوماسية ودخلت في إطار منظومة تعاون هادفة مع إسرائيل، خاصة الدول التي بها مواطنون يهود ومسيحيون، وكان الاهتمام كبير بدول القرن الإفريقي، وهو الوضع الذي سرعان ما شهد نهاية حاسمة له بعد حرب أكتوبر 1973م، وقيام الدول الإفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، وقد حاولت الدبلوماسية الإسرائيلية إعادة وصل ما انقطع مع إفريقيا خلال فترة الثمانينيات، وقد تحقّق لها ما أرادت بعد توقيع اتفاقات "أوسلو" عام 1993م. ولا شك أن حرب عام 1967م مثّلت تطوّراً مهماً في المواقف الإفريقية إزاء طبيعة الدولة الإسرائيلية، حيث نظر الأفارقة إلى إسرائيل بوصفها قوة احتلال لدول إفريقية، ومن المؤكد ان موقف منظمة الوحدة الإفريقية لم يكن حاسماً بدرجة كافية، ولكنّه أكد تأييد قرار الأممالمتحدة 242 القاضي بعدم شرعية احتلال إسرائيل للأراضي العربية. "غينيا فاتحة الدول الإفريقية لقطع العلاقات بإسرائيل"كانت غينيا بقيادة الرئيس أحمد سيكوتوري؛ هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بعد عدوان 1967م مباشرة، خاصة مع تصاعد الدعم العربي لحركات التحرّر الوطني في الجنوب الإفريقي، وخيبة أمل القادة الأفارقة من الدول الغربية لعدم مساعدتها في تنفيذ الخطة الإفريقية الرامية إلى عزل جنوب إفريقيا والبرتغال وروديسيا، فإن الانتقاد الإفريقي للعدوان الإسرائيلي ازدادت حدّته حتى وصل الأمر، قبل نشوب حرب أكتوبر 1973م، إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية، ففي عام 1972م قامت أوغندة بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ثم تبعتها سبع دول أخرى، هي تشاد ومالي والنيجر والكونغو برازافيل وبوروندي وزائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) وتوجو. إذا كانت حروب الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل قد أحدثت مزيداً من التعقيدات في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، فكذلك فعلت مبادرات التسوية السلمية في المنطقة ، ففي أعقاب قيام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس عام 1977م، وتوقيعه على اتفاقات كامب ديفيد عام 1979م، بُذلت محاولات عربية دؤوبة لعزل مصر إفريقيًّا، بيد أنها لم تنجح مطلقاً، ففي القمة الإفريقية التي عُقدت في ليبيريا عام 1979م قامت ست دول عربية أعضاء في المنظمة، من بينها المغرب والجزائر وليبيا، بمقاطعة القمة احتجاجاً على وجود "السادات". وقد عملت إسرائيل على إعادة روابطها الإفريقية، وهو ما اتضح جلياً في عودة علاقاتها مع زائير (الكونغو الديمقراطية) في 14 مايو 1982م. "بعد كامب دايفيد.. انفرط العقد الإفريقى المناوئ لإسرائيل" إن تحليل الموقف الإفريقي بعد كامب ديفيد يُفصح، أن الأساس الذي بمقتضاه اتخذت الدول الإفريقية قرار المقاطعة لإسرائيل؛ قد انهار بعد تبادل السفراء بين كلٍّ من القاهرة وتل أبيب، وطبقاً لأحد الكتّاب الأفارقة، فإن "مصر؛ وهي عضو في منظمة الوحدة الإفريقية، قادت إفريقيا لمقاطعة إسرائيل، أما الآن؛ فقد تبادلت كلٌّ من مصر وإسرائيل السفراء، وما زلنا نحن الذين ذهبنا لمواساة مصر على فقدانها سيناء، غير قادرين على العودة من هذه الجنازة إلى بيوتنا". والذي يوضح لنا بالأدلة القاطعة الموقف الإفريقي من القضية الفلسطينية القوة التصويتية لإفريقيا في الأممالمتحدة، خاصة إن الأهمية الإفريقية في الأممالمتحدة من حيث قدرتها العددية، لم تكن خافية على إسرائيل منذ البداية، فرئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون أكّد أن "الدول الإفريقية ليست غنية، ولكن أصواتها في المحافل والمؤسسات الدولية تعادل في القيمة أكثر الدول قوة". جدول رقم (1)السلوك التصويتي للمجموعة الإفريقية جنوب الصحراء تجاه قرار الأممالمتحدة بشأن العدوان الإسرائيلي عام 1967مالمجموعة الأولى: دول صوّتت ب (نعم) لتأييد قرار أمريكا اللاتينية، و ب (لا) للقرار اليوغوسلافي (الإجمالي 8):بوتسواناجامبياغاناليسوتوليبيرياملاجاشيمالاويتوجوالمجموعة الثانية: دول أيدت قرار أمريكا اللاتينية ولكن بصورة غير حاسمة (الإجمالي 12):دول صوتت لتأييد قرار أمريكا اللاتينية وامتنعت عن التصويت للقرار اليوغوسلافي:دول صوّتت لتأييد القرارين معاًإفريقيا الوسطىتشادبنينإثيوبياكوت ديفوارسيراليونبوركينافاسوروانداالكونغو كينشاساالكاميرونكينياالنيجرالمجموعة الثالثة: أيّدت القرار اليوغوسلافي، ولكن بصورة غير حاسمة، صوّتت لتأييد القرار اليوغوسلافي وامتنعت عن التصويت لقرار أمريكا اللاتينية (دولتان فقط): نيجيريا – الجابون.المجموعة الرابعة: صوّتت لتاييد القرار اليوغوسلافي وضد قرار أمريكا اللاتينية (الإجمالي 10 دول): بوروندي - السنغال - الصومال - أوغندة - زامبيا - الكونغو برازافيل - غينيا – مالي - موريتانيا - تنزانيا. جدول رقم (2)التصويت الإفريقي على قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية 1975م. تأييد (20)معارضة (5)امتناع (12)بورونديإفريقيا الوسطىبوتسواناالكاميرونكوت ديفوارالجابونكيب فردليبيرياغاناتشادمالاويكينياالكونغوسوازيلاندليسوتوبنين موريشيوسغينيا الاستوائية سيراليونغامبيا توجوغينيا بوركينا فاسوغينيا بيساو زائيرمدغشقر زامبيامالي إثيوبياموزمبيق النيجر نيجيريا رواندا ساوتومي السنغال تنزانيا أوغندة إعلان مونروفيا يوفر لإسرائيل مناخا للعودة ولكن الدول الإفريقية التي عانت من الاستعمار والمجاعات والإهمال وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ابتداءً من نهاية السبعينيات: قد دفع ذلك بالدول الإفريقية إلى تبنّي "إعلان مونروفيا" عام 1979م بشأن الاعتماد الإفريقي على الذات، والمطالبة بإقامة نظام عالمي جديد، وسرعان ما تم تبنّي هذا الإعلان من قِبل منظمة الوحدة الإفريقية، وأُطلق عليه "استراتيجية مونروفيا"، على أن المنظمة الإفريقية اجتمعت في أبريل عام 1980م في لاجوس وأقرّت "خطة عمل لاجوس للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (1980م - 2000م) ".وعليه؛ فقد أسهمت برامج التعاون الفني منذ الستينيات في توفير المناخ الملائم لعودة إسرائيل إلى إفريقيا، وهو ما أثّر سلباً في المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية. ولكن عادت إفريقيا مؤخراً مرة أخرى تناهض الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل ويكون لها صوت جلي تنتبه له إسرائيل وتحلله خوفاً من عواقبه ففي يوم الخميس الموافق 9 – 5 – 2013 استنكرت فعاليات في جنوب إفريقيا، اعتداءات الاحتلال بحق المسجد الأقصى ومدينة القدسالمحتلة. وصدرت عدة بيانات من لجان تضامنية مع الشعب الفلسطيني في جنوب إفريقيا أبرزها من الشبيبة الحزبية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومن حملة لجان المقاطعة "بي بي أس"، ومن لجنة التضامن مع الشعب الفلسطيني في جامعة بريتوريا، وكذلك من اتحادات النساء المسلمات في جنوب إفريقيا، وعدد آخر من الاتحادات. وأكدت البيانات أن إسرائيل تحاول إشعال حرب دينية بالمنطقة بإجراءات تعسفية في القدس والمسجد الأقصى وبإطلاق العنان للمستوطنين في الضفة. وجددت البيانات إدانتها لكل الأعمال الاستيطانية، داعية الشعب الفلسطيني لمواصلة النضال والتصدي للاحتلال الإسرائيلي. وقال وقتها مسؤول الإعلام في السفارة الفلسطينية سامر المصري، إن المواقف الشعبية لشعب جنوب إفريقيا تنسجم تماما مع الموقف السياسي لحكومة الرئيس الجنوب إفريقي جاكوب زوما، في الوقوف الدائم إلى جانب القضية الفلسطينية على كافة الصعد التضامنية والإعلامية والسياسية. ولم يمر موقف جنوب إفريقيا مرور الكرام بل أعلنت إسرائيل غضبها من الموقف الفلسطيني، ووفقاً للوكالات العالمية؛ فقداستدعت الخارجية الإسرائيلية سفير جنوب إفريقيا لديها وقدمت له احتجاجا على قرار حكومته بوضع علامة على المنتجات القادمة من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية، تقدمها على أنها سلع أنتجت في "الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وهي خطوة رحبت بها السلطة الفلسطينية، واعتبرها مسؤول إسرائيلي رفيع، تصرفا يذكّر بنظام التمييزالعنصري البائد "الآبارتهيد". كما اتخذت حكومة جنوب إفريقيا قرارها يوم الأربعاء الماضي، وفقاً لموقع "أوول أفريكا"، وقالت إنه يتماشى مع موقفها الذي "يعترف بحدود 1948 التي رسمتها الأممالمتحدة ولا يعترف بالأراضي المحتلة الواقعة خلف هذه الحدود على أنها جزء من دولة إسرائيل. وقالت الحكومة إن وضع علامة على المنتجات بهذا الشكل هدفه؛ "ألا يعتقد المستهلكون أن هذه السلع جاءت من إسرائيل." وقد استدعت الخارجية الإسرائيلية إسماعيل كوفاديا سفير جنوب إفريقيا في تل أبيب، وأبلغته احتجاجها على القرار. ووصف إيغال بالمور المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية القرار بأنه "تمييز صارخ مبني على تفريقات قومية وسياسية." وعلى صفحته في الفيسبوك اعتبر نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني يعلون –المنتمي إلى حزب الليكود اليميني- أن دولة الفصل العنصري ما زالت قائمة، قائلا: "إن نظام الآبارتهيد موجه الآن نحو إسرائيل ونحو منجميي جنوب إفريقيا." وقال "يعلون" إنه كان أحرى بحكومة جنوب إفريقيا، بدل أن تميز منتجات المستوطنات بهذا الشكل، "اتخاذُ قرارات شجاعة في قضية المنجمين الأربعة والثلاثين الذين كانوا يريدون تحسين أوضاعهم". وكان يشير إلى منجميين قتلوا برصاص الشرطة الجنوب إفريقية الأسبوع الماضي قرب جوهانسبورغ، عندما كانوا يتظاهرون للمطالبة بتحسين أجورهم. أما الجانب الفلسطيني فقد رحبت السلطة الفلسطينية بقرار جنوب إفريقيا، وتعهدت بأنها سوف تساعد في إنجاح حملة مقاطعة سلع المستوطنات اليهودية. ودعم المؤتمر الوطني الإفريقي "الحاكم الآن في جنوب إفريقيا"، لعقود القضية الفلسطينية، وكانت إسرائيل إحدى دول قليلة احتفظت بعلاقات وثيقة مع نظام التمييز العنصري، الذي انتهى رسميا في 1994. ورغم أن التبادل التجاري بين إسرائيل وجنوب إفريقيا متواضع، فإن الحكومة الإسرائيلية قلقة من أن تنتهج دول أخرى النهج الذي أقدمت عليه بريتوريا، بما يعزز دعوات الفلسطينيين إلى مقاطعة السلع المنتَجة في مستوطنات الضفة والقدسالشرقية.