من البديهي أن يدرك العرب جميعاً وبخاصة الفلسطينيين أن استباحة المسجد الأقصي المبارك، لم تعد جريمة مقطوعة عن سياقها، بل أصبحت حدثاً يومياً، وفي سياق النهج الصهيوني الخبيث القائم علي إرهاب المصلين، ودفعهم إلي عدم الصلاة في المسجد، خوفاً علي أنفسهم، ما يعطي العصابات الصهيونية الحاقدة، الفرصة لتنفيذ خططها ومخططاتها، بالضغط علي المقدسيين ليوافقوا علي اقتسام المسجد، كخطوة أولي، ريثما يتم تنفيذ مؤامرة انهيار الأقصي، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه. والمفارقة فيما يحدث أن السلطة الفلسطينية والدول العربية ماضية في التنديد والاستنكار، رغم علمها الأكيد بأن هذه اللغة الخشبية، لم تعد ذات معني، بل علي العكس يستغلها العدو لتوسيع العدوان، وفرض الأمر الواقع. ما يجري من عدوان يومي ممنهج بحق المسجد الأقصي من قبل شرطة الاحتلال ومستوطنيه تخطي كل عدوان سابق وكل ما يمكن تخيله منذ احتلال القدس سنة 1967، حيث يتعرض المسجد الأقصي بكافة مرافقه الإسلامية منذ عدة أيام لهجمة احتلالية شرسة غير مسبوقة، وقد ترجم الاحتلال الإسرائيلي رسمياً تقسيم المسجد الأقصي زمانياً بين المسلمين والمستوطنين، وقام بعدة انتهاكات في مدينة القدسالمحتلة وتحديداً في باحات المسجد الأقصي ودمّر عدداً من الزجاج الأثري ودنّس 'منبر صلاح الدين' واعتدي علي المرابطين، وأغلق أمام المسلمين وفتح بواباته أمام قطعان المستوطنين الإرهابيين وبإشراف وتنظيم مباشرين من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلي.. لم ينل هذا الحدث الكبير من جامعة الدول العربية أكثر من بيان إدانة صدر بخجل وطوي في الأدراج. كان دعاة الحرية والديمقراطية يخشون وصول البيان إلي مسامع إسرائيل فيزعجها، وإن كان لن يقدم أو يؤخر في مخططاتها ابتلاع القدس ونزعها من هويتها العربية، بكل ما تحمله القدس من معان عروبية وإسلامية، ومسيحية، ورمزية وجدانية كبيرة. خطة اقتحام المسجد الأقصي كشف عنها صراحة في شباط الماضي الوزير الإسرائيلي المتطرف ''أوري أرئيل'' حينما تعهد بأن يشهد العام الحالي بدء تطبيق الخطة الإسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصي وقال ''أرئيل'' حينئذ، بأن عام 2015 سيشهد تمتع اليهود بممارسة حقوقهم الدينية والقومية في جبل الهيكل الذي يعد علي حد قوله أهم بقعة مقدسة في العالم بالنسبة لليهود.. وقال ''أرئيل'' الذي تولي من قبل منصب مدير عام مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية إن طوفاناً من اليهود سيقتحم الأقصي لتكريس حقوقهم الدينية، وإن الإعداد لتنظيم مسيرات يهودية حاشدة يجري علي قدم وساق بهدف تغيير الوضع في هذا المكان المقدس. والحقيقة أنه لا فرق بين متطرف ينتمي لجماعة دينية متشددة وبين مسؤول سياسي إسرائيلي طالما أن هدف كليهما واحد هو هدم المسجد الأقصي لبناء هيكل سليمان المزعوم علي أنقاضه، والحفائر التي تقوم بها إسرائيل عند باب المغاربة تأتي ضمن سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة ضد المقدسات الإسلامية.. وقد سبق للنائب المتطرف وعضو حزب الليكود ''موشيه فيجيلين'' أن تقدم بمشروع قانون ينص علي بسط السيادة الإسرائيلية علي المسجد الأقصي.. والجميع لا ينسي ما حدث في أغسطس العام 1967 عندما دخل الحاكم العسكري الإسرائيلي ''شلومو جورن'' ومعه الحاخامية العليا إلي ساحة المسجد الأقصي من باب المغاربة ويحملون معهم بوقاً وما يطلق عليه خزانة المقدسات ومنصة متحركة وأقاموا الصلاة في المكان تحت سمع وبصر الجميع! إذن المخطط الإسرائيلي حسب التصريحات الإسرئيلية، هو تقسيم الأقصي زمانياً ومكانياً، ما يعني بسط السيادة الإسرئيلية علي المقدسات الإسلامية في تعدٍّ سافر علي هذه المقدسات تبدأ باقتحامات جماعية وصلوات يهودية لفرض أمر واقع جديد علي الأرض، وهو ما يعني في نفس الوقت إنهاء وصاية وإشراف الأردن علي المسجد الأقصي بموجب القانون الدولي واتفاقية السلام المبرمة بين الأردن وإسرائيل.. ولهذا فإن انتزاع الولاية علي القدسالشرقية من الأردن، ليست شيئاً مثيراً للدهشة ولا يبدو أنها مثيرة للغيرة والانتصار للمسجد الأقصي وللشعب الفلسطيني، في زمن عزت فيه النخوة والشهامة والكرامة والكبرياء، وأصبحت مختنقة بأدخنة العمالة والنذالة والخسة والتواطؤ والتبعية والقبول بوظيفة خادم عند سيد صهيوني مارق علي القانون والشرائع الدولية وطابخ للمؤامرات وصانع لحفلات الدم المجنونة بحق الأبرياء العرب والمسلمين. ''السيادة'' الأردنية علي الحرم القدسي الشريف هي في نهاية المطاف سيادة واهية، لم تتمكن في يوم ما من عرقلة حفريات إسرائيلية قرب المسجد الأقصي أو تحت حرمه، ولم تتمكن من منع إساءات المستوطنين للحرم القدسي، ولم تمنع شارون ذات يوم من زيارة استفزازية للأقصي رفعت من أسهمه ''إسرائيلياً'' فنال بعدها منصب رئيس حكومة! فقد تعود الصهيوني ومن ورائه الأميركي وعودانا علي اصطياد الفرص واقتناصها وسرقتها، وللتاريخ في ذلك دروس طوال تصل حد المعلقات، لكن التغير النوعي الحاصل الآن هو أن فرصاً تم صنعها في مطابخ الاستخبارات ومراكز الدراسات الغربية لتجربتها في مختبر ما يسمي ''الشرق الأوسط الكبير''، لا عجب إذن اليوم أن نجد هذا الذي يسمونه 'ربيعاً' وقد تحول إلي موسم يومي لتدنيس الأقصي وتهويده وخنقه بمزيد من المستعمرات.. بل والأنكي ما كشفته دراسة ''صهيونية'' مؤخراً عن حجم الدعم والحماية الذي توفره حالياً حكومة الاحتلال الصهيوني للجماعات اليهودية المتطرفة الفاعلة من أجل هدم الأقصي وقبة الصخرة وبناء الهيكل الثالث المزعوم، وهو الأمر الذي ينصرف إلي كارثة كبري ومخطط محكم لركوب الانشغال العربي والدولي لفرض أمر واقع جديد في المدينة المقدسة قد يستيقظ العالم عليه غدًا أو بعد غد. الصهاينة اتخذوا كل الاجراءات لهدم المسجد الأقصي المبارك، لبناء ما يطلقون عليه ''كنيس الخراب'' ويستبقون الضربة القاضية باقتسام المسجد للصلاة بين ''المسلمين واليهود''، وهو ما نشهد له دلالات وعلامات كثيرة، وأقلها إقامة ''صلوات تلمودية'' في ساحات الأقصي، كما فعلوا من قبل في المسجد الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل. ومن بين الشواهد علي هذا الاطمئنان الإسرائيلي النجاح في التقسيم الزماني للمسجد الأقصي والعمل علي تقسيمه مكانياً وخنقه بالتهويد والاستيطان، حيث يعتزم الاحتلال الإسرائيلي وأذرعه التنفيذية في القدسالمحتلة نشر مناقصة لبناء كنيس مقبب ضخم في البلدة القديمة بارتفاع نحو 23 متراً مكون من ست طبقات، ويهدف بناء الكنيس إلي استنبات مواقع يهودية في قلب القدس القديمة، وزرع مبانٍ مقببة توحي بأقدمية الوجود اليهودي في القدس، وتشويه الفضاء العام بالمدينة، ومن المخطط أن يكون هذا الكنيس الثاني من حيث الضخامة والعلو في القدس القديمة بعد كنيس الخراب، ويتزامن هذا المخطط مع مخطط سرقة جديدة في القدس القديمة أيضاً بإقامة بؤرة استيطانية جديدة في الحيين الإسلامي والمسيحي، والهدف أيضاً هو إنهاء المعالم الإسلامية والمسيحية، حيث يستمر غزو هذين الحيين بالبؤر الاستيطانية، كما يتزامن هذا مع الحملات الإسرائيلية المسعورة بالاستيلاء علي أملاك الغائبين، وحملات التطهير العرقي بهدم منازل فلسطينيي 48. إذاً المعركة متواصلة في القدسالمحتلة، وعناوينها تزداد يوماً بعد يوم، وتتنوع بين محاولات وسياسات تهويد وتدنيس المدينة ومقدساتها، وحتي مقابرها التاريخية، وأسماء شوارعها وأحيائها، والتضييق علي الصامدين من أهلها المقدسيين، وتصعيد وتيرة العدوان عليهم، من خلال سياسة العزل، والاعتداء الجسدي واللفظي، وسحب الهوية، ومصادرة أملاكهم وزرعها بالمستوطنات، وقد أخذت معركة القدس أبعاداً جديدة، عندما دخلت المواجهة المفتوحة، في ساحات المسجد الأقصي المبارك، وقبة الصخرة، مرحلة الاشتباك غير المتكافئ بين الفلسطينيين العزل، وجنود الاحتلال المدججين بالسلاح.. فأين ''الجهاديون والإخوان والثوار والدواعش''؟ أين ''الانتحاريون وطلاب الشهادة في سبيل جنات العدن وحور العين''؟ أين القرضاوي والظواهري والبغدادي وأشباههم من تجار وسماسرة الدين والدم؟ والأهم أين حراس المحميات والقواعد الأميركية في ممالك وإمارات الرمال المتحركة من أصحاب العروش المتهالكة والكروش المتخمة؟ بل أين البهلوان الأميركي وأسطوانته الببغائية حول السلام والدولة الفلسطينية المنشودة؟ نعم أين هؤلاء مما يجري في الأقصي؟ أين هم وأعلام إسرائيل ترفع وترفرف فوقه؟ وقطعان المستوطنين تدنس حرماته كل يوم؟ والحفريات الإسرائيلية تدك الأساسات من تحته ومن حوله وتذيب صخوره بالمواد الكيماوية؟ لماذا لا يدعون لاجتماع طارئ لمجلس الأمن؟ أو يحشدون لمؤتمر أصدقاء الشعب الفلسطيني والأقصي؟ والأهم لماذا لا يعلن مفتي الناتو وإخوانه ''الجهاد''' نصرة للفلسطينيين ولاسترجاع حقوقهم المغتصبة؟ مأساة الشعب الفلسطيني وقضيته أن معظم الدول العربية والجامعة العربية تجمع 'المال' وتوظف جدول عملها السياسي لاستهداف دول عربية تقف ضد المشروع الصهيوني، ولم تبدأ بعد بعض دول النفط والغاز بوضع خطة توظف الأموال فيها والدعم لحماية أقدس مقدسات المسلمين في مدينة القدسالمحتلة. وبالمقابل يجد هؤلاء العرب أنفسهم مسخّرين في خطة سياسية أميركية إسرائيلية تحقق لإسرائيل التوسع في مشروعها الصهيوني علي حساب الشعب الفلسطيني ومقدسات أمة عربية وإسلامية. وهذا ما يؤكده نتنياهو حين يطالب العرب جميعاً وليس الفلسطينيين وحدهم بالاعتراف بيهودية الدولة التي اغتصبت فلسطين بغرض تهويد كل مقدساتهم الإسلامية والمسيحية في وطنهم التاريخي. إن سماح كيان الاحتلال الإسرائيلي لليهود المتطرفين باقتحام الأقصي الشريف وتدنيسه، هو فعل إجرامي، لم ولن يكون الجريمة الأولي والأخيرة، وإنما يأتي في إطار السلسلة المتواصلة من عمليات التدنيس والتهويد الصهيونية الممنهجة ضد المسجد الأقصي، وبينما تستمر هذه الاعتداءات غير المسبوقة يتم سوق الفلسطينيين إلي مفاوضات تحت حراب الاستيطان والتهويد، وكل إرهاصاتها تشير إلي أنه يراد منها أن تكون اللحظات الحاسمة والمصيرية في ترتيب نهائي وبرعاية أميركية لصالح الاحتلال الصهيوني، يعلن فيها النهاية الحقيقية للقضية الفلسطينية، بحيث تتحول إلي ذكري جديدة كذكري النكبة وإحراق المسجد الأقصي وإحراق الحرم الإبراهيمي وغيرها، ومما يلاحظ أن هناك سباقًا نحو الزمن لاستغلال الراهن العربي المتضعضع تحت ضربات الفوضي الأميركية الخلاقة للوصول إلي الهدف الصهيو أميركي المنشود.