من المؤسف، والمحزن، أن المبدعين الذين عشنا معهم أعمارنا، أو قرأنا لهم، أو شاهدنا أفلامهم ومسرحياتهم، أو استمتعنا بغنائهم، يتناقصون يوماً بعد آخر »يا سيدي أحمد طوغان: لعلك تدرك مدي حزني علي رحيلك. لقد انفطر قلبي وفقدت واحداً من أنبل الرجال. رحمك الله رحمة واسعة». بعثت هذه الرسالة علي الهاتف المحمول إلي رسام الكاريكاتير المصري الكبير أحمد طوغان بعد ساعات من إعلان وفاته في 12 نوفمبر 2014. وطبعاً لم أتلق أي إجابة لسببين: أولهما إن طوغان لم يفتح الهاتف ولا الرسالة. وثانيهما لأن شبكة الهاتف لا تصل إلي القبور. وها أنا أستذكر صديقي الوفي، والرسام البارع، والوطني الشجاع، والمصري الأصيل، بل العربي الأصيل، والإنسان الخلوق والكريم والمبدع. عرفت طوغان منذ نحو ثلاثين عاماً، وزرته مراراً في شقته السابقة وسط البلد قرب مبني صحيفة »الجمهورية» التي كان يعمل فيها منذ تأسيسها في عام 1953. وقُدِّر لي أن يشاركني طوغان في حلقتين متتاليتين من برنامجي التلفزيوني الساخر »حوار الطرشان» الذي كنت أعده وأقدمه اسبوعياً في قناة »البغدادية»العراقية التي كانت تبث من القاهرة. وكانت مهمته في البرنامج أن يرسم موضوعات الحلقة بينما أتحدث عن أوضاع العراق المأساوية. وميزة طوغان الأهم في رسومه إنه ينتبه لأدق التفاصيل، ولذلك فإن معارضه المستمرة في القاهرة وخارجها كانت تثير دهشة زوارها بالتفاصيل أكثر من موضوعاتها السياسية أو الاجتماعية. وهو يبدع أكثر ما يبدع في تصوير الملامح الريفية والأحياء الشعبية والناس العاديين الذين نراهم في المقاهي والشوارع والمباني الحكومية. وهاتفني قبل وفاته بأسبوعين داعياً إياي لحضور افتتاح معرضه الأخير في الزمالك. وأصرّ علي ضرورة حضوري، كأنه يعرف أنه الوداع الأخير. وذهبت، لكنه لم يأت لافتتاح معرضه، فقد تم نقله إلي المستشفي حيث رحل بعد أيام. كان طوغان سياسياً قبل أن يكون رسام كاريكاتير، وهو غطي حرب اليمن وحرب سيناء في عام 1967، بعد أن غطي قبل ذلك حرب تحرير الجزائر وكانت له علاقات متينة مع قادة الثورة وفي مقدمتهم الرئيس الراحل أحمد بن بيللا. وكان ضيفاً علي العراقيين في رحلات التضامن الشعبية معهم ضد الحصار الأمريكي الجائر. كانت مفاجأة لي بعد أن خرجت من المعتقل أن أجد طوغان في صالة الوصول في مطار بغداد مع مجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء والصحفيين المصريين. قال لي وهو يضحك: »جئت لأتضامن معك»! وطوغان صاحب نكتة ملتهبة كرسومه. وكان يشكل مع الكاتب الساخر محمود السعدني ثنائياً لا يسلم من لسانيهما أحد! من المؤسف، والمحزن، أن المبدعين الذين عشنا معهم أعمارنا، أو قرأنا لهم، أو شاهدنا أفلامهم ومسرحياتهم، أو استمتعنا بغنائهم، يتناقصون يوماً بعد آخر كما قالت الفنانة فيروز: »موسيقيي دقوا وفلّوا.. والعالم صاروا يقلّوا.. ودايماّ بالآخر في آخر.. في وقت فراق». وقد فارقنا طوغان تاركاً رسالتي مغلقة. رسالة غرام ضاعت في القاهرة هذا المقال عن الرسائل وإليكم هذه الحكاية: كان مأمون الشناوي صحفياً ناجحاً في جريدة »الجمهورية» القاهرية، وهو شقيق كامل الشناوي الصحفي الشهير ومؤلف أغنية »لا تكذبي» التي غنتها نجاة الصغيرة ثم محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ. وكان مأمون يحرر زاوية شهيرة وناجحة في »الجمهورية» تحت عنوان »جراح قلب» تتناول رسائل القراء العاطفية والاجتماعية. ولهذه الزاوية قصة غريبة معي حدثت في بداية الثمانينيات، إذ تلقيت رسالة بريدية من قارئ في إحدي قري الصعيد في مصر يروي فيها حكايته العاطفية الفاشلة مع فتاة أحلامه، إذ إنه يعشقها وهي مخطوبة لابن عمها منذ الصغر علي طريقة الفلاحين البسطاء، وهي تعشق غيره، وغيره يعشق غيرها. وعمها أقسم بالطلاق إن »الجوازة دي لازم تتم »، بينما القارئ صاحب الرسالة أقسم إن »الجوازة دي مش لازم تتم». ويشير أخونا إلي إنه كان سييء الحظ في المدرسة وفي زراعة الملوخية ولعب الدومينو ونادي السكة الحديد لكرة القدم الذي يشجعه، وإنه لا يريد أن يكون سييء الحظ في الحب أيضاً. ويشرح الأخ الولهان بالتفصيل حالته المالية المزرية وبدلته البني الوحيدة ودراجته الهوائية القديمة وبيتهم الريفي الذي يئن في الشتاء تحت وطأة الرياح والأمطار. لكن الفيلم الهندي لم ينته بعد فوالدته مريضة ووالده يبيع البطيخ في إحدي دول الخليج للمساهمة في التنمية ولم يبعث أي حوالة منذ سنة ونصف، وهو يرجو من الأخ المحرر الصحفي أن يجد له حلاً علي طريقة فاتن حمامة لأن مشكلته أعقد من مشكلة المطرب محمد عبد المطلب الذي يسكن في حي السيدة بينما حبيبته تسكن في الحسين! ولاحظت ظَرف الرسالة فاذا به يحمل طابعاً بريدياً مصرياً، وإنها مرسلة براً من الصعيد »الجواني» إلي مأمون الشناوي محرر زاوية »جراح قلب» في صحيفة »الجمهورية» القاهرية، إلا إن البريد المصري أركبها الطائرة المتجهة إلي العراق، واستلمها عامل بريد عراقي شبه غافي فحولها إلي جريدة »الجمهورية» البغدادية ومدير تحريرها في ذلك الوقت كاتب هذا المقال »الفلتة»! المهم نَشرتُ القصة في عمودي اليومي، فتلقفها الكاتب المصري الساخر الراحل أحمد رجب فكتب في زاويته اليومية »كلمة ونص» في جريدة »الأخبار» يقول »إن البريد المصري يتناول أفضل أنواع المعسل ولذلك تذهب الرسائل إلي جريدة »الجمهورية» في بغداد بدلاً من جريدة »الجمهورية» في القاهرة»! اعتذار متأخر لمأمون الشناوي وأنا مدين لمأمون الشناوي باعتذار متأخر لأنني قرأت رسالة موجهة إليه بلا استئذان، ولذلك أقول لم يتعطر اسم شاعر عربي أو مصري بباقة من أجمل ورود الغناء العربي في عصره الذهبي الحديث مثل اسم مأمون الشناوي؛ أحد أبرز شعراء الأغاني المصرية والمتحدث الرسمي باسم عنترة وعبلة (نجد/ 525م-608م) وقيس وليلي (نجد/ القرن الهجري الأول) وحسن ونعيمة (دلتا مصر في الخمسينيات من القرن الماضي) وكل الذين غنت لهم أم كلثوم »عن العشاق سألوني». ارتبط اسم الشناوي بكوكب الشرق أم كلثوم من خلال أغانيها الشهيرة »أنساك يا سلام» و»كل ليلة وكل يوم» و»بعيد عنك حياتي عذاب» و»دارت الأيام». وارتبط اسم الشناوي أيضاً بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب منذ عام 1941 باغنية »إنت وعزولي وزماني» ثم أغاني »ردي عليّا كلميني» و»إنس الدنيا وريح بالك» و»آه منك يا جارحني» و»كل ده كان ليه» و»من قد إيه كنا هنا»، وأناشيد »الوادي» و»الجهاد» و»زود جيش أوطانك». وكانت أنجح أغاني الموسيقار فريد الأطرش من كلمات مأمون الشناوي مثل »حبيب العمر» و»بنادي عليك» و»أول همسة» و»الربيع» و»حكاية غرامي» و»خليها علي الله» و»سافر مع السلامة» و»نجوم الليل» و»جميل جمال» وغيرها من الأغاني الممتعة التي لازالت تطربنا ونحن نراها في أفلام الأسود والأبيض. وغني عبد الحليم حافظ للشناوي: »أنا لك علي طول» و»عشانك يا قمر» و»بيني وبينك إيه» و»صدفة» و»نعم يا حبيبي نعم» و»في يوم من الأيام» و»حلفني» و»بعد إيه» و»خايف مرة» و»حلو وكذاب» و»خسارة.. خسارة». وغنت أسمهان له: »قهوة» و»إمتي حاتعرف»، وغنت له فائزة أحمد »تهجرني بحكاية» و»بصراحة». أما ليلي مراد فقد غنت له واحدة من أروع أغانيها وهي »ليه خليتني أحبك» وكانت لها مشكلة قضائية مع ملحن الأغنية كمال الطويل لأنه باع الأغنية إلي نجاة الصغيرة في بداياتها وكانت سبباً في شهرتها، إلا إنها نجحت بصوت وإحساس ليلي مراد التي غنتها كما لم تغن من قبل. والطريف أن الشناوي هو صاحب كلمات أغنية أحمد عدوية الكوميدية »زحمة يا دنيا زحمة»! وللمطرب السعودي محمد عبده أغنية عن الرسائل يقول فيها: »وجت تأخذ رسايلها.. وخصلة من جدايلها/ وتديني جواباتي.. بقايا عمر بسماتي». وللسيدة ليلي مراد طقطوقة لحنها عبد الوهاب قالت فيها: »جواب حبيبي بخط إيده.. قريته واللي أقراه أعيده أعيده/ يا جاي بعد من عند الأحباب.. علمت قلبي يا جواب». وبعث عبد الحليم حافظ رسالة إلي حبيبته من فوق الماء مطلعها: »حبيبي الغالي من بعد الأشواق بهديك.. كل سلامي وحنيني وغرامي». ثم بعث رسالته الثانية »من تحت الماء» وهي تحفة نزار قباني ومحمد الموجي التي أنهت خصاماً بين عبد الحليم والموجي إستمر خمسة أعوام. ولجارة القمر فيروز أغنية شهيرة من كلمات الأخوين رحباني وألحان فيلمون وهبي مطلعها: »كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا.. كتبنا مية مكتوب ولهلق ما جاوبنا». رسالة الغفران من الجنان إلي النيران مرة أخري أمسك بتلابيب هذا المقال وأعود إلي الرسائل وأشهرها »رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري التي تعتبر من درر الأدب العربي ومن أجمل مؤلفات المعري، وهي رسالة ذات طابع روائي يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين في العالم الآخر حيث نعيم الجنة ونار جهنم، ومنهم زهير بن أبي سلمي والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت الذي يلتقيهم في الجنة، بينما يلتقي في جهنم أمرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والمهلهل وتأبط شراً والشنفري. ثم يعود إلي الجنة ونعيمها فيري الشعراء الذين غفر الله لهم بسبب أبيات شعر نظموها ويشاركهم مأدبة عامرة وحور عين ونعيم مقيم. من الرسائل التاريخية الأخري »الرسالة» للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي الذي عاش في مصر في القرن الثاني للهجرة وبلغ من قوة الحجة والبرهان في رسالته أن الشيخ أحمد بن حنبل قال: »ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتي»! ولأبي محمد علي بن حزم الأندلسي كتاب »طوق الحمامة» ويوصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، وتمت ترجمته إلي العديد من اللغات العالمية، وهو يضم أخبار وأشعار وقصص المحبين من خلال تحليل نفسي يحذرنا فيه من الحب من أول نظرة! وللجاحظ كتاب تحت مسمي »رسائل الجاحظ» يتناول باسلوبه البلاغة والإيجاز وكتمان السر وحفظ اللسان والجد والهزل والأخلاق المحمودة والمذمومة، والعداوة والحسد، والحجاب، والحنين إلي الأوطان، والتربيع والتدوير، ومدح النبيذ وصفة أصحابه، وطبقات المغنيات، وكتاب الأمصار، وصناعة الكلام، والشارب والمشروب. وقبل الجميع غنت رجاء عبده »البوسطجية اشتكوا من كُتر مراسيلي»! • صحفي عراقي مقيم بالقاهرة