وهَبّ ستالين ذات يوم غاضباً وهو يلعن خروشوف قائلاً: »هل أنا أعمي لتقول إنه ينهض من السرير، أريد أن أعرف ماذا يقولون لا ماذا يفعلون»! في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي كنت من طلبة ثانوية »كلية بغداد» التي يديرها الآباء اليسوعيون الأمريكيون، ومعظم موادها ودروسها باللغة الإنجليزية، ومع ذلك قررت في بداية الستينيات الانتساب إلي المعهد الأمريكي للغات في بغداد. وفي الاختبار التحريري الأولي، وكان يضم 100 سؤال شبحي (أي نختار واحداً من الإجابات الثلاث المرفقة بكل سؤال)، أهلتني النتيجة للمستويات العليا في المعهد. وسألني المشرف الأمريكي علي الطلبة عن سبب انتسابي للمعهد فأجبته: الهامبرجر! تعجب الرجل وسألني: ما علاقة الهامبرجر باللغة؟ فقلت: إن رجلاً مسيحياً يلقب ب »أبو يونان» افتتح لأول مرة في العراق كشكاً لبيع الهامبرجر علي الرصيف المقابل للمعهد الأمريكي. وبسبب إعجابي الشديد بطعم ونكهة ذلك القرص من اللحم، قررت الانتساب إلي المعهد الأمريكي لأضمن تناول »ساندويتش هامبرجر» بالخردل مع قنينة مياه غازية في طريقي إلي تعلم الإنجليزية علي الطريقة الأمريكية. وتركت المعهد بعد ستة أشهر وأنا أجيد الحديث بالإنجليزية علي الطريقة الهندية! وإذا أردت، يا سيدي، أن تعرف صورة تقريبية عن طلبة ذلك المعهد الشهير فعليك أن تلجأ إلي »جوجل» في هاتفك النقال ثم تكتب اسم المسلسل التليفزيوني البريطاني الشهير Mind your language لتشاهد أطرف حلقات تعليم اللغة الإنجليزية علي الطريقة الهندية. كنا في المعهد خليطاً، ذكوراً وإناثاً، مراهقين وبالغين وشيوخاً، نتعلم ونتلعثم ونترجم، قصة حياة إبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدةالأمريكية (ترامب الرئيس رقم 45) الذي استطاع بقوة السلاح القضاء علي الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب في منتصف الستينيات من القرن الثامن عشر، وصاحب إنجاز تحرير العبيد ومنع تجارة الرقيق في بلاده، إلا أنه اغتيل خلال فترة رئاسته علي يد متطرف عنصري أبيض. ومناسبة هذا المقال انتشار معاهد تعليم اللغات الأوربية المختلفة إجبارياً للاجئين العرب، وفي مقدمتهم العراقيون والسوريون والليبيون والصوماليون. وثبت أن تعلم اللغات الأجنبية يتحقق بالممارسة اليومية والمعايشة مع سكان البلد الأجنبي أكثر من المعاهد، وثبت أيضاً أن الأحزمة الناسفة والدهس بالسيارات لا تعلمنا غير لغة العنف والكراهية. في سبعينيات القرن الماضي طار المواطن العراقي محمد السعدي من العراق بعد إكمال دراسته الثانوية لدراسة الملاحة البحرية في فرنسا آملاً في أن يكون قبطاناً يعيد أمجاد السندباد البحري وابن بطوطة. لكنه قرر في اللحظة الأخيرة أن يتعلم اللغة الفرنسية والترجمة الفورية، ونجح في ذلك وتفوق إلي أن صار المترجم الخاص للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران. وفي قسم الصحافة بكلية آداب جامعة بغداد حاولوا تعليمنا اختيارياً اللغة الفرنسية، وبعد ثلاث محاضرات من الأستاذة هربتُ بجلدي لكثرة الحروف التي تُكتب ولا تُلفظ. إلا أن معظم اللاجئين العرب يتذمرون من وجوب تعلم لغات البلدان التي لجأوا إليها. لكنهم غير محقين في ذلك؛ إذ كيف يستطيع اللاجئ غسل أطباق المطعم الذي يشتغل فيه إذا كان يجهل لغة البلد الذي يعيش فيه؟ وكيف يكوي ملابس الإنجليز إذا لم يكن يعرف لغة شكسبير؟ أخطاء كوميدية في المؤتمرات الصحفية تلعب الترجمة دوراً مهماً وحساساً في المؤتمرات الصحفية للزعماء والسياسيين والعسكريين وقد يؤدي أي خطأ إلي نتائج كارثية. ففي السبعينيات من القرن الماضي قرر الرئيس الأوغندي عيدي أمين استحداث قوات بحرية لدعم جيش بلاده، فقال له الرئيس السوداني جعفر نميري: »كيف يتسني لك هذا وبلادك لا تملك حدوداً بحرية علي الإطلاق»؟ فردّ عليه عيدي أمين قائلاً: »إنك مفلس ومع ذلك فلديك وزير للمالية»! وأشعل المترجمون الرديئون نيران غضب الرئيسين بتحويل الحوار »الرئاسي» الطريف إلي حفلة شتائم نقلها التليفزيون كادت أن تقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اللذين كانا جارين قبل انفصال جنوب السودان في دولة مستقلة. وفي السبعينيات أيضاً غاب المترجم الخاص لمديري في العمل الإعلامي، فطلب مني الترجمة خلال استقباله وفداً صحفياً بريطانياً، علي الرغم من أنني أتحدث اللغة الإنجليزية علي الطريقة الهندية ولكن بدون هز الرأس! وبدأ المسئول حديثه بكلمات: »هللو. جود مورننج. سيت داون. تي أور كوفي؟» وهي كلمات تعلمها الأخ في المدرسة الابتدائية. وسكت لحظة ثم قال: »آي» بمعني »أنا» والتفت نحوي قائلاً: »قل لهم إنني ممنوع من زيارة بريطانيا ومازلت أنتظر الفيزا منذ بضعة أشهر». فقلت لهم: »إنه يتمني زيارة بلدكم». فهزّوا رءوسهم مبتسمين. ثم قال: »إن لندن مشهورة بالضباب بينما بغداد مشهورة بالعجاج (رياح الخماسين)، وهذا فرق استراتيجي في النظر إلي الشئون السياسية». فترجمت ما قاله إلي: »إنكم لا تنظرون إلي قضايانا السياسية بالوضوح الذي نراها فيه». وهي ترجمة غير مناسبة لأني لم أكن أعرف مرادف كلمة »العجاج» في ذلك الحين باللغة الإنجليزية. جئناكم من بلد علي بابا وفي زيارة رسمية إلي طوكيو في الثمانينيات، وكنت رئيس وفد إعلامي، دعانا رئيس حزب ياباني معارض إلي »إفطار عمل» بعد إفطار الفندق وألقي جنابه كلمة باللغة اليابانية لم نفهم منها شيئاً لعدم وجود مترجم، وكنا نصفق كلما سمعنا كلمة »إيراك». ثم كان علي أن أرد علي كلمته بخطاب مناسب ألقيته باللغة العربية مستغلاً عدم وجود أي مترجم، وقد بدأته قائلاً: »جئناكم من بلد علي بابا» وضجت القاعة بالضحك لأنهم شاهدوا أفلام علي بابا والأربعين حرامي.. لسوء الحظ! وتنقل إعلامية جزائرية أن شخصية إسلامية كانت تلقي محاضرة دينية في كندا باللغة العربية. وبعد أن انتهي الرجل من المهمة سأل جمعاً تَحَلَقَ حوله من غير الناطقين باللغة العربية عما إذا كانت الترجمة وصلت إليهم بدون تحريف، فرد أحدهم قائلاً: »لا لم تكن الترجمة أمينة يا شيخ، فقد ضحك الناطقون بالعربية ثلاث مرات بينما ضحكنا نحن مرة واحدة فقط»! وكادت الترجمة أن تكون سبباً في فتنة طائفية. ميشيل أوباما زوجة لرجلين وتحت عنوان »الإنجليزية لغة صعبة» وصلتني بالبريد الإلكتروني قصة قيل إنها حقيقية مصدرها السفارة اليابانية في واشنطن. فقد تلقي رئيس الوزراء الياباني الأسبق يوري موسيفيني دورة سريعة في أساسيات التفاهم باللغة الإنجليزية قبل زيارته لواشنطن واجتماعه مع الرئيس باراك أوباما. وقال له المدربون: حينما تُصافح أوباما قل له »كيف حالك؟» وعندها سيرد عليك أوباما قائلاً: »أنا جيد.. وأنت؟» الآن عليك أن تقول: »أنا أيضاً». أما بقية الاجتماع فسيقوم المترجمون بالمهمة. ولكن حين قابل موري الرئيس أوباما نسي جملة: »كيف حالك؟» وقال بدلاً عنها: »من أنت؟» أي »هو آر يو؟» بدلاً من »هاو آر يو؟» وقد فوجئ أوباما بسؤال من أنت، فصمت لحظة ثم تجاوب مع ضيفه قائلاً: »أنا زوج ميشيل».. ها.. ها. فأجابه موري: »وأنا كذلك».. ها ها! أي إن موري هو أيضاً زوج ميشيل! أما الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر فكان يعرف كيف يجذب انتباه الجمهور. إلا أنه خلال كلمة ألقاها في وارسو عام 1977 كاد أن يتسبب في أزمة مع بولندا حين قال »أنا أرغب في التعرف إلي المزيد عن رغبات البولنديين في المستقبل»، فقال المترجم »إنني سعيد للإمساك بالأعضاء الحساسة لبولندا»! وتصرف المترجم في فقرة أخري قال فيها كارتر: »غادرت الولاياتالمتحدة هذا الصباح» فترجمها إلي »غادرت الولاياتالمتحدة ولن أعود أبداً!» واضطر كارتر إلي تغيير المترجم في مأدبة عشاء رسمية في الزيارة نفسها، لكن معاناته لم تتوقف، فبعد أن ألقي أول جملة من خطابه البروتوكولي توقف في انتظار أن يترجم المترجم ما قاله، إلا أن المترجم أصيب بالخرس وأطبق الصمت علي المكان. والسبب أن المترجم البولندي لم يفهم اللهجة الإنجليزية التي تحدث بها كارتر؛ فهو مثل كل الأمريكيين يبلع الحروف أو يختصرها. وبعد أن ألقي كارتر جملة أخري واجه نفس المشكلة فآثر أن يخطب بلا ترجمة بعد أن قرر المترجم أن أفضل شيء يفعله هو أن يسكت ولا يترجم شيئاً! وفي السينما أجد أن فيلم »تيرمينال» للنجم الأمريكي توم هانكس واحد من أفضل الأفلام عن معاناة الركاب في المطارات الدولية بسبب الترجمة وعدم التمكن من التفاهم مع موظفي الجوازات والتفتيش والخطوط الجوية. ولا أريد سرد قصة الفيلم فقد عرضته القنوات الفضائية مراراً وهو لا يُمَلّ. ستالين وخروشوف وأختتم حديث الترجمة برئيس الوزراء السوفيتي الراحل نيكيتا خروشوف الذي كان الدكتاتور السوفيتي الراحل ستالين يعتبره مترجمه الخاص في جلسات مشاهدة أفلام »الكاوبوي» الأمريكية. فقد كانت لغة خروشوف الإنجليزية سيئة، ولذلك كان يخشي غضب ستالين فيترجم ما يراه لا ما يسمعه. أي إنه كان يقول حين يمسك البطل يد البطلة إنه الآن يمسك يدها! ثم يصمت إلي أن يبدأ بتقبيلها فيقول إنه يقبلها! ويصمت مرة أخري إلي أن يبدأ اللصوص بإطلاق الرصاص طالبين من البطل الخروج، فيقول خروشوف لقد جاء اللصوص! وهَبّ ستالين ذات يوم غاضباً وهو يلعن خروشوف قائلاً: »هل أنا أعمي لتقول إنه ينهض من السرير.. إنه يفتح الباب.. إنه ينظر من الشباك؟ أريد أن أعرف ماذا يقولون لا ماذا يفعلون»! في المكتبات كتب عديدة عن فن الترجمة، لكن أشهرها كتيب يحمل عنوان »كيف تتعلم اللغة الإنجليزية في سبعة أيام بدون معلم». طبعاً كل »خريجي» هذا الكتيب من جماعة »ده إنجليزي.. يا مرسي؟»!