محافظ القاهرة يترأس لجنة إجراء مقابلات المتقدمين لشغل وظائف مديرية الإسكان    جامعة العريش تنظم ندوة تثقيفية بعنوان «سيناء الماضي والحاضر والمستقبل»    انطلاق الموسم الأول لمسابقة اكتشاف المواهب الفنية لطلاب جامعة القاهرة الدولية    قانون التصالح الجديد يفتح أبواب أمل لتقنين الأوضاع    محافظ أسوان يتابع ميدانيا توافر السلع الغذائية والإستراتيجية بأسعار مخفضة بالمجمعات الاستهلاكية    محافظ الفيوم يشهد فعاليات إطلاق مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة    السياحة: مستمرون في محاربة الكيانات الوهمية العاملة في الحج والعمرة    انخفضت 170 ألف جنيه.. أسعار ومواصفات هيونداي أكسنت RB الجديدة بمصر    الشرطة الألمانية تقمع تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في جامعة برلين الحرة    البرلمان العربي يثمن قرار جزر البهاما بالاعتراف بدولة فلسطين.. انتصارًا جديدًا للقضية    روسيا تشن هجومًا جويًا هائلاً على منظومة الكهرباء الأوكرانية    الزمالك يعترض على تعيين حكام تونسيين لتقنية الفيديو في مباراتي نهضة بركان    مدير تعليم الجيزة يتفقد سير امتحانات النقل بإدارات العجوزة والدقي وجنوب    المشدد بين 3 و15 سنوات ل4 متورطين في إلقاء شاب من الطابق السادس بمدينة نصر    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    فيلم السرب يحقق 17 مليون جنيه إيرادات خلال أسبوع    "البيرة مش بتاعتنا".. أول تعليق من فاطمة ناعوت على هجوم علاء مبارك    "الصحة" تعلن اكتشاف 32 ألف حالة مصابة ب "الثلاسيميا" في مصر    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    «تعليم كفر الشيخ»: غرفة العمليات لم تتلق أي شكاوى في أول امتحانات الفصل الدراسي الثاني    رئيس نادي خيتافي يكشف مصير ميسون جرينوود في الموسم المقبل    أخبار الأهلي : اليوم ..حفل تأبين العامري فاروق بالأهلي بحضور كبار مسؤولي الرياضة    مسؤول إسرائيلي: لا نرى أي مؤشرات على تحقيق انفراج في محادثات الهدنة في غزة    أفضل دعاء للأبناء بالنجاح والتوفيق في الامتحانات.. رددها دائما    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    احذر.. الحبس 7 سنوات وغرامة 50 ألف جنيه عقوبة التنقيب عن الآثار بالقانون    أسعار الذهب منتصف تعاملات اليوم الأربعاء.. الجنيه يسجل 24.8 ألف جنيه    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    عبد المعطى أحمد يكتب: عظماء رغم الإعاقة «مصطفى صادق الرافعي»    مرصد الأزهر: استمرار تواجد 10 آلاف من مقاتلي داعش بين سوريا والعراق    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    قصور الثقافة تصدر كتاب "السينما وحضارة مصر القديمة"    أصالة تحذف صورها مع زوجها فائق حسن.. وتثير شكوك الانفصال    البنك المركزي يصدر تعليمات منظمة للتعامل مع الشكاوي بالبنوك    وزير الخارجية الإيراني: طهران والقاهرة تتجهان نحو إعادة علاقاتهما الدبلوماسية إلي طبيعتها    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    نائب يسخر من تخفيف أحمال الكهرباء: الحكومة عاملة عرض ساعتين بدل ساعة    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين استعمارين .. داخلى وخارجى
نشر في الشعب يوم 02 - 09 - 2006

لم تعد هناك حاجة لتوصيف الأخطار التى تحدق بنا وتحيق برقابنا فقد باتت معلومة ومعروفة. هما اثنان الأول مخطط صهيوأمريكي خارجى والثانى مشروع توريث داخلى، والاثنان متحالفان كمطرقة وسندان. الحل الوحيد للخلاص هو الإصلاح السياسى الحقيقى الداخلى لمواجهة المشروع الخارجى وهذا لن يتأتى إلا بقوة فاعلة نراها حاليا فى أربعة قد تأتي حصريا (Exclusive) أو ضمنيا (Inclusive) أو قد لا يأتى الكل مطلقا.
ما يتهددنا هما استعماران الداخلى أشد قسوة وأكثر بطشا من الخارجى. المقصود بالاستعمار الداخلى (Internal Colonialism) هو هيمنة فئة جزئية على مقدرات الفئة الكلية في كافة شئونها الحيوية. وفى حال البلدان والأوطان تمثل الفئة الجزئية الاستعمارية تكتلا ممن ينسبون إلى المجتمع أو الوطن ككل، هم مجموعة تجمعهم سمات وتربطهم مصالح ويُسيّرون الكلّ لمنفعة الجزء داخليا وخارجيا، سياسيا واقتصاديا وما يستتبعهما من نوائب اجتماعية وعواقب ثقافية وغيرها. النتيجة الحتمية أن تدفع الأغلبية المستضعفة فاتورة حساب سياسات ومغامرات الأقلية المهيمنة، يحصدون عواقب أعمال ونوائب أفعال لم يشاركوا في صنعها ولم يستفيدوا من ثمارها ولكنهم يحصدون دائما علقمها ومرها. قمة الظلم الإنسانى أن تجنى الشعوب سوء عواقب ما لم تشارك فى فعله أو تُُستشار فى أمره أو تدري بقراره أو تعرف بمساره فقط تصدم فجأة بعواقبه ونتائجه وأثره. ولكنه ليس ظلما إلهيا، فالرعية أُستخف بها فانصاعت وأطاعت وعليها دفع ثمن خنوعها وانصياعها.
الاستعمار الداخلي رأيناه فى "العراق" الذى يدفع شعبه الآن ثمن مغامرات فئة استعمارية سابقة. يدفع الثمن تحت نير استعمار خارجى أجنبى يستبيح أرضه ويهتك عرضه ويجتث زرعه ويحرق حرثه ويهلك نسله بفتنة دموية وتذبيح وتقتيل وشبح تقسيم. ومع التقدير لبعض أعمال "صدام" وما يقال عن نهضة العراق السابقة وإتحاد طوائفه وأعراقه فإن صورة واحدة من صور استباحة أنجال "صدام" وعياله وأقرباءه وحاشيته وكهنته وبطانته لمقدرات وسلطات وثروات العراق لكافية ووافيه بتصنيفه كإستعمارى وطنى داخلى. ولعل يشفع له حبسه وأهانته ومعاناته ومقتل أولياء العهد من أبناءه.
استعمار وطنى داخلى أو استعمار أجنبى خارجى – كلاهما استعمار وكلاهما إستحمار (!!).
والاستعمار الداخلى نراه فى "مصر المحروسة" الآن، نعيش نتائجه الكارثية ونستبصر نكباته المستقبلية. عاشت مصر آلاف السنين تحت نير الاستعمار الخارجى بدء من الهكسوس والليبيين والنوبيين والفرس والإغريق والرومان حتى أسرة "محمد على". وتعيش الباقى من تاريخها في استعمار داخلى. لعل الحكم الناصرى كان أخفهم وطأ فهو على الأقل حقق عدالة اجتماعية وجزء من حرية ثقافية وفكرية وسياسية وتوعية شعبية، ظهر هذا فى خروج الشعب فى مظاهرات أحكام الطيران فى العام 1968 وظهر فى اعتصام الطلاب والعمال في ميدان التحرير لرفض حالة اللاسلم واللاحرب فى العام 1972، وظهر فى انتفاضة العام 1977 بدفع من بقايا موروث ثقافى ووطنى من الحقبة الناصرية التى بدأت محاربتها واستئصالها فى عهد "السادات" وأُجهز عليها تماما الآن بسياسة أمنية قمعية شعارها فرد أمن لكل مواطن ومعتقل (باستيل) بكل محافظة (!!). وهذه ليست مبالغة .. فالجهاز الأمنى يقترب من المليون وربع المليون فردا والجهاز العسكرى يقترب من الثلث مليون وله مهام أمنية داخلية أساسية، أى أن لدينا فردا أمنيا لكل خمسين مواطنا (!) والنسبة العالمية هى واحد لكل 150 إلى 200.
جاءت الجمهورية الحالية (مبارك) بشرعية انتقالية بعد أزمة "خريف" أكتوبر وتعهد رأس الدولة بعدم الاستمرار فى الحكم لأنه يزهده ولا يرغبه (!!)، ولكن منظومة الفساد الدستوري وسلة القوانين الاستعمارية والموروثات الفرعونية ألهّته (قامت بتأليهه) وغيرته وأزالت زهده وعدم رغبته. تنامت فئة المال والأعمال النفعية (الأولجاركية) التى ظهرت فى الجمهورية الثانية (السادات) وتجذرت وتنمرت. التقت المصالح والمأرب وأثمرت عن فكر جديد .. هو فكر التوريث، نفس فكر ومفهوم الفكر الإقطاعى فى العصور الوسطى المظلمة. العالم يتقدم ويصعد نحو الألفية الثالثة ونحن نتقهقر وننحدر نحو الألفية الأولى (!!).
يتساءل أحد الكتاب (د. أحمد دراج في "المصريون") عن سبب استماتة نظام "مبارك" الحاكم في القبض على السلطة لتنفيذ التوريث عنوة وقهرا بفرضه على الشعب. وسبب استهجانه أن معظم ثروات مصر العقارية من أراضي ومصانع قد وهبت كعطايا للأتباع أو بيعت بأبخس الأثمان للمحاسيب من ذيول الرأسمالية العالمية. ويتساءل لماذا يصر نظام الحكم على التوريث ؟؟، مستنتجا أنه مازال فى "مصر" الكثير مما يطمعون فيه ويطمحون إليه. والإجابة صحيحة وإن كانت غير كاملة (!). نعم تم أخذ الكثير بل وأكثر من الكثير، ومازال هناك الأكثر. هناك مشروع بيع مواقع الأرض المتميزة الذي سيدر عشرات ومئات المليارات (مثل مجمع التحرير ومساحة الأرض المتميزة المقام عليها حديقة حيوان الجيزة ومنطقة متحف الآثار بالتحرير وغيرهم)، وهناك مشروع تخصيص مياه النيل وتمريره إلى النقب الإسرائيلي، وهناك مشروعات تأجير أرض سيناء للاستخدام كنفاية للعالم الصناعى والنووى (مثلما فعل "السادات" فى الآبار الملحية بالمنطقة الغربية)، وهناك استكمال مشروعات المواخير السياحية على شواطئ سيناء والساحل الشمالى، وهناك غيرها وغير غيرها. ولكن هذا ليس السبب الأساسى والرئيسى (!!)، فالسبب الحقيقى وراء الاستماتة لتنفيذ مشروع التوريث هو تجنب الحساب واتقاء العقاب الذى سيكون حتميا فى حال تولى أى رئيس جديد للسلطة حتى لو كان من داخل المنظومة الحاكمة. هكذا هى موروثات مصر الفرعونية. وهكذا فعل "السادات" مع "ناصر" وهو الذى توجه وأسبغ عليه حمايته، وهكذا فعل "مبارك" نفسه مع سلفه وربيب نعمته.
كوارث سياسة "مصر" الداخلية ستجلب عليها نكبات خارجية مستقبلية. هكذا تقول المقدمات حولنا وتنبئنا وهكذا يقول الاستدلال العقلانى وهكذا يقول الإستقراء التاريخى. يقول "جمال حمدان" فى موسوعته "شخصية مصر": إن أزمات مصر السياسية هي في الأصل والمصدر الأساسي أزماتها الداخلية. صناعة السياسة الخارجية وتشكيلها وتوجيهها هي عمليا وواقعيا وبغض النظر عن الشكليات والديكورات السطحية المموهة هي حكر لرجل واحد، هو الحاكم الذي لا شريك له. إنه الحاكم المطلق خارجيا كما هو داخليا. ولا يوجد في العالم القديم أو الحديث من يتفرد بوضع سياسة بلده الخارجية مثل الحاكم المصري.
نحن فى "مصر" الآن نتطلع بأمل يبدو سرابا إلى "ربيع" الحرية الوطنية بمحاورها الثلاث، الاجتماعية والسياسية والفكرية، وبآلية الديمقراطية الحقيقية التى تتيح تتداول السلطة وحق الحساب والثواب والعقاب. الحرية ضرورية للشعوب لتقاوم مخاطر الهيمنة الخارجية. المواطنون فقط (لا الرعايا) هم من يجيدون القتال والأحرار فقط (لا السبايا) هم من يعرفون الانتصار.
ربيع "مصر" لن يأتى إلا بإصلاح حقيقى مصادره النظرية لن تخرج عن أربع (أثنين نراهما غير واردين وأثنين محتملين): الأول بواسطة السلطة الحالية بحثِّ داخلى أو دفع خارجى، والثانى بواسطة الشعب من أفراده وفئاته ونخبته وأحزابه، والثالث من داخل مؤسسات الدولة على غرار "صيف يوليو" 1952، وأخيرا الرابع (وهو ما نخشاه) من فصيل يؤمن بأشياء ثلاث هم: أننا نعيش أسوء أيامنا وأن البديل لن يكون وبيلا مهما كان، وأنه لا أمل فى إصلاح من مصادر أخرى، وأن إسقاط النظام يكون حتميا إن أسقط رأسه أو خلفه (!!)، وبهذا يأتى احتمال تكرار القالب التاريخي لأحداث "خريف أكتوبر" 1973. فالتاريخ كما قلنا (سابقا) قد يعيد نفسه إن توفرت أركانه الأساسية وبيئته الحاضنة.
* * * * * * * * * * * * * * *
الخيار الأول للإصلاح قد يأتينا من السلطة الحالية بذاتها إما بحثِّ من داخلها أو بدافع من خارجها، ونرى أن هذا الاحتمال لمن المحال (!!). فالسلطة قد فسدت إدارتها للبلاد وأساءت رعاية العباد عبر نيف وربع قرن من الزمان، أى فسدت سياستها، فهل تستطيع إصلاح ما أفسدته الآن؟؟. فساد الإدارة من فساد من يدير ومن تدنى الكفاءة وانعدام المؤهلات. سقطت الشرعية عن السلطة الحاكمة بحكم قانون الطبيعة والحياة، قانون "إن من فسدت سياسته بطلت بالتبعية رئاسته"، وإن من ساءت إدارته سقطت بالضرورة ولايته. السلطة الحالية خانت أمانة رعاية شعبها، فانتهكت عرضه جهارا نهارا فى أحداث الأربعاء الأسود من مايو 2005، وانتهكت عرضه فى الخفاء فى سلخانات مقار أمنها، وسفكت دماءه وزورت إرادته وأهانت قضاته فى الانتخابات التشريعية، وسرقت ماله وأمواله فى مسرحية الخصخصة الهزلية. السلطة الحالية فاقدة الإرادة فى إصلاح سياسى حقيقى يفقدها سلطانها وينزع صولجانها، ظهر هذا فى مهزلة تعديل المادة (76) ذات العوار الدستوري، وظهر فى تلفيف قانون السلطة القضائية باستقلال منقوص، وظهر فى عدم الوفاء بمنع الحبس فى قانون النشر وإبداء الرأى، وظهر فى نوايا تقليص دور القضاة فى الإشراف على الانتخابات، وظهر فى تعيين رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية السابقة وزيرا حاليا للعدل منذ أيام مكافأة له على ما قام به (وهذا رأى شيوخ ورجال القضاة المستقلين) وتمهيدا لمعركة إصلاح وهمى للدستور على غرار تعديل المادة العوار المسماة المادة 76 (أنتحاب الرئيس من بين عدة مرشحين بدلا من الاستفتاء على شخص واحد)، وظهر فى القيام بحملات قنص وصيد متكررة لكوادر الجماعات الإسلامية (الإخوان المسلمين) واعتقالهم بصفتهم المنافس الوحيد للسلطة في الشارع المصرى وهذا على غرار حملات الصيد الإسرائيلية فى أكبر "عشة فراخ" (حظيرة دواجن) فى التاريخ الشهيرة بأسم غزة والضفة الغربية ، وظهر فى استمرار تجميد الأحزاب الفاعلة (حزب العمل) أو منع الترخيص لها (الوسط والكرامة) والسماح للأحزاب الورقية بالممارسة السياسية الديكورية.
من المهازل السياسية أن السلطة الحالية وكلما ساءت أعمالها وأصابت البلاد بكارثة تقوم بتبرئة نفسها أمام شعبها بإلقاء اللوم على من قبلها ناسيا متناسية أنها بذاتها هى هى التى قبلها (!!). فالسلطة تحكم منذ ربع قرن من الزمان وأى فترة قبلها تقع زمنيا فى نطاق فترة حكمها. أى أن السلطة تبرأ نفسها بإدانة نفسها (!!). إنه غباء فاسد أو فساد غبى (!!).
* * * * * * * * * * * * * * *
الخيار الثانى للإصلاح هو أن يأتينا بواسطة الشعب ذاته، من أفراده وفئاته ونخبته وأحزابه، وهذا واقعيا وتاريخيا غير ممكن بمفرده (!!). حتى الحالة الوحيدة المذكورة فى التاريخ الحديث وهى تتويج "محمد على" واليا على مصر من قبل شيوخ مصر وأشرافها والذين كانوا يمثلون نخبتها وأهل الحل والعقد، قد ظهر زيفها بتضخيمها، فالوثائق التاريخية أظهرت أن "الباشا" استخدم عدة وسائل فاعلة للفوز بعرش "مصر" منها عقد أتفاق مع القنصل الفرنسى للضغط على الباب العالى مقابل تعاون مصرى فرنسى مستقبلى (وهو ما تم فعلا)، إضافة إلى رشوة شخصية من آثار مصرية حملتها سفينة خاصة إلى إيطاليا حيث كون القنصل الفرنسى متحفا خاصا به توارثته ذريته من بعده.
خيار الإصلاح بواسطة انتفاضة شعبية غير ممكن عمليا، فالتظاهر السلمى والاعتصام لجموع الشعب يمكن فضها بالقوة المفرطة من جانب القوة الأمنية الباطشة (وهذا ما سبق حدوثه تكرارا ومرارا وفى جماعات كبيرة)، والعصيان العام ليس من السهل الاتفاق عليه وتنفيذه فى ظل جهالة سياسية وسلبية شعبية وخنوع وخضوع وخوف وجبن. الشعب خرج فى ربع مليون ويزيد فى العاصمة وحدها لتحية فريق "الأهلى" الكروى وخرج بمئات الألوف تصل إلى المليون فى توديع تمثال "رمسيس" إلى مخزنه المتحفى، ويضن بمثيلاتها لدعم قضاته وحماية حرياته، ولولا شباب الإخوان وبضع مئات من الناشطين السياسيين من تيارات أخرى لكانت مهزلة (!!). يقول بعض المثقفين وكثير من المؤرخين أن مصر صانعة حضارات وليست صانعة ثورات ولكن يبدو أن توصيفها الحقيقى هو أنها صانعة مسلات وتماثيل وكثير من الفراعين. من المآسى التاريخية المثيرة للتناقض أن "تشرشل" رئيس وزراء أعرق إمبراطورية استعمارية قد أستاء وتألم من مدى الظلم والمهانة التى يحياها الفلاح المصرى فى صمت وخرس حيوانى دون أن يصرخ أو يحتج أو يثور. ومن المفارقات الصحفية أن الكاتب المصرى المعروف "أنيس منصور" المشهور بهدوئه واهتماماته الغير ثورية وتعايشه مع السلطة قد فاض به الكيل أخيرا فى مقال قال فيه: "ليس أهون علي النفس من قبول الهوان‏,‏ ونحن نعلم أنه كذلك‏..‏ ولا أتعس من شعب لا يريد أن يرفع رأسه أو أنه فقد رأسه فلم يعد يدري شيئا‏.‏ أو هو لا يريد‏..‏إننا إذن لفي ضلال مبين‏!".
استخدام القوة من قبل المتظاهرين ضد السلطة الأمنية هو أمر غير حكيم وقرار غير سليم فهو يعطيها المبرر القانونى والسند الشرعى إلي الانتقال من استخدام القوة المفرطة إلى استخدام القوة الفاجرة أو الأكثر فجرا، وستذهب دماء مئات القتلى وآلاف الجرحى ومثلهم من المعتقلين هباء وسدى وبمباركة قانونية وبفتوى شرعية دينية من شيوخ السلطة وفقهاءها. ولن يتحرك الرأى العام الدولى شعبيا كان أو رسميا إلا بمقدار ذرّ الملح فى العيون وبدون تأثير يذكر. ما دعونا إليه سابقا من تظاهرات واعتصامات وعصيان جزئى أو كلى عام كان أساسا لفضح سوء أعمال السلطة وممارساتها وبيان الرفض الشعبى لها والعمل على خلخلة بنيان الفساد وزعزعة أركان فئة المصالح الأولجاركية. وهو أيضا نوع من النداء العلنى لأصحاب القوة الفاعلة أن يهبوا لحماية البلاد وأمنها القومى ونظامها الدستورى – هكذا فعل رجال القضاء أثناء محنتهم منذ شهور. الانتفاضة الشعبية فى "مصر" المحروسة بأشكالها المختلفة مثل العامل المساعد فى تفاعلات الكيمياء، وكبعض الشروط فى مسائل الرياضيات .. قد تكون ضرورية ولكنها وحدها ليست كافية.
* * * * * * * * * * * * * * *
الخيار الثالث للإصلاح قد يأتينا من تكرار القالب التاريخى لأحداث صيف يوليو 1952، تحرك إصلاحى من داخل أحدى مؤسسات الدولة الفاعلة صاحبة القوة والمسئولية. وهذا نراه غير ممكن وحده وبذاته (كبادئ) وإن كان عالى الإحتمال كمصاحب ومعاقب (تالى) للخيار الثانى (انتفاضة شعبية) أو للخيار الرابع (الخيار المسلح الإرهابى الإنتحارى الاستشهادى – سمها ما شئت). فمؤسسة القوة قد تم تحزيمها وإجادة تقسيمها وعمل استقطاب نموذجى لقيادتها ورموزها وفرض رقابة وسيطرة تامة على أفرادها بوسائل أمنية وأخرى وظيفية.
مصر المحروسة تتميز بثلاث هم "رباطها وخيراتها وجندها"، وهو ما تم رصده وهو أيضا ما تم ضربه. أنحل الرباط بفقدان الانتماء وتفشى شعور الاغتراب فى الوطن. وضاعت الخيرات بسوء الإدارة وما تبقى تولاه السلب والنهب. أما الجند فظلمناهم وحجمناهم بقيادة مصنوعة ورئاسة موضوعة. فى الجمهورية الأولى ولينا صاغا (رائدا) قائدا أعلى ومشيرا فكانت نكسة 1967. وفى الجمهورية الثانية استدعينا جنرالا من التقاعد بعد محاكمته وإدانته فى حادثة الزعفرانة (استيلاء الكوماندوز الإسرائيلي على محطة رادار موقع الزعفرانة بمنطقة البحر الأحمر العسكرية) ليتولى القيادة بصلاحيات استثنائية (موروثة من صلاحيات الفريق "محمد فوزى") فكان فشل تطوير الهجوم (الغير مبرر) وكانت ثغرة الدفرسوار فى حرب رمضان 1393 (أكتوبر 1973). أما الحالى الآن فغنى عن البيان (!!).
من أسباب الفشل الإسرائيلي العسكري فى حرب لبنان الأخيرة هو تخلى الجيش عن مهامه الأساسية وتفرغه لمهام أمنية بوليسية فى "غزة" و"الضفة" مما أفقده مهارته القتالية. فكيف الحال وقواتنا العسكرية لها مهام أمنية داخلية ومهام حفظ سلام خارجية ومهام استصلاح الأراضى وتربية الدواجن والمواشى ومشروعات خدمية كشق المصارف المائية وإنشاء المجارى الصحية (!!).
الخبر الذى تفرد به موقع "المصريون" باحتمال تعيين نائبين للرئيس المصرى قريبا أحدهما مدنى (د. "نظيف" رئيس الوزراء الحالى) والثانى عسكرى (وزير الدفاع الحالى) له ألف معنى وألف مغزى. هو يحدد طبيعة القيادة الحالية، وهو أيضا يحدد طبيعة الحالة الآتية. لا تريد الإسهاب ونكتفى بالتلخيص والترميز. والخلاصة أن هذا الخيار ليس قائما بذاته وفى ظل الحالى من قياداته ولكنه قد يأتى مصاحبا ومعقبا لخيار أخر (الثانى أو الرابع).
* * * * * * * * * * * * * * *
الخيار الرابع الذي قد يأتى محدثا للتغير بذاته ولكن الإصلاح سيكون بغيره (وكلمة إصلاح باعتبار أن "أى" حالة تغيير للوضع الحالى هو إصلاح فى ذاته، فأى قيمة غير "الصفر" والسالب هى إيجابية بالتبعية)، وهو خيار نخشاه لمجهولية عقباه. هذا الخيار سيكون تكرارا لقالب أحداث "خريف" أكتوبر 1973 التاريخى. هناك العديد من الشواهد التى تؤكد وجود "مقومات" هذا الخيار، فالبيئة العامة الخارجية والداخلية جاهزة حاضنة، والسياق التاريخى ظاهر والنوايا مؤكدة والخلايا والكوادر موجودة والأسباب متوافرة.
البيئة العامة وفى المنطقة العربية على الأقل هى مشبعة بثقافة القاعدة وحبلى بالغضب منذ سقوط العراق فى العام 2003. والقمع الأمنى والاعتقالات والاتفاقات السياسية الخفية أخمدت النيران فى "مصر"خلال العقدين السابقين ولكن جذوة الجمر مازالت تتأجج لثأر دم وقتل وتعذيب وثار شرف منتهك (وما أكثرهم منذ أيام "النبوى إسماعيل"). والنوايا انطلقت صريحة من "الظواهرى" ومن انضمام فصيل خفى (محسوب على التنظيم الجهادى) يستعد ويترقب، ولا يُعتد هنا بكلام الشيخ "كرم زهدى" وأمثاله (مع احترامنا وتقديرنا لهم) فلا رأى ولا ولاية لفاقد الأهلية (!!)، والسجين داخل السجن والمعتقل (ومصر كلها باستيل) هو فاقد للأهلية بالتبعية. أما الكوادر الغاضبة الساخطة المترقبة فهى متوافرة يانعة الأغصان وناضجة الثمر بعد أن ارتوت أشجارها من الفقر والفساد والظلم والقهر والمذلة والهوان وكل ما حرم الله عز وجل، إنها أغصان الشوك وثمار الغضب. ظهرت أحداث فرادى وسط القاهرة العاصمة، وظهرت أحداث جماعات فى سيناء بعضها معروفة وأخرى مجهولة (أحداث طابا وشرم الشيخ ودهب منذ أكتوبر 2004 وحتى أبريل 2006)، وهناك تحذيرات مخابراتية إسرائيلية حالية لرعاياها (وقد سبق صحة سابقتها). أما عن الأسباب فقد ذكرناها ونكررها: فهى أولا أننا نعيش أسوء أيامنا وأن البديل لن يكون وبيلا مهما كان، والثاني أنه لا أمل فى إصلاح من مصادر أخرى، والثالث أن إسقاط النظام يكون حتميا إن أسقط رأسه أو خلفه (!!).
هناك مصطلح هام فى أمن وسلامة النظم يسمى القابلية للإيذاء (Vulnerability)، وهى سمات النظام وخصائصه التى تجعله عالى التعرض للإصابة والإيذاء من أخطار محتملة (Threats) ومن ثم تزيد المخاطرة (Risk). والنظام المصرى بطبيعته العامة قد تم اختزاله بكليته فى رأس سلطته، والسلطة الحالية تريد استنساخ نفسها بالتوريث فى شخص نجلها، أى أن منظومة السلطة الحالية قد تم اختزالها بكليتها فى شخصين اثنين سيكون استهداف أحدهما كافيا لإسقاطها. ومهما كانت دوائر قوة وصلابة دوائر الحماية فلن توفر للاثنين نفس الحماية بنفس المقدار من المحتمل من أخطار. مركزية السلطة وشخصنتها ستكون السبب الرئيسى لانهيارها واندثارها وستتحول إلى سطر صغير فى التاريخ المصرى وملف كبير أمام المحاكم الدولية.
* * * * * * * * * * * * * * *
خيارات أربع لبدء التغيير ومن ثم احتمال حلول "ربيع" الإصلاح. الأول (وهو السلطة الحالية) وهو خيار نراه بعيد الإحتمال فاقد المصداقية حتى لو حدث. والثانى (الشعب ونخبته) وهو خيار نأمله ونرجوه فهو الصحيح السوى المفترض حدوثه ولكن حسابات القوى الحالية تمنعه وتجهضه. والخيار الثالث (مؤسسة القوة من داخل النظام وهو تكرار لصيف يوليو 1952) لن تكون البادئة ولكن ستكون اللاحقة. والخيار الرابع (تكرار خريف الغضب أكتوبر 1981) وهو أمر وارد فى ظل حراك جامد وبديل خامد. الحل الأمثل يكون في تحالف الثانى والثالث (إرادة شعبية وقوة حامية) لإقصاء الأول سبب البلاء ولمنع حدوث الرابع خيار الابتلاء. وربنا يستر ... ولعل فى الحديث بقية.
هشام الناصر
الخميس 31 أغسطس 2006
[email protected]
http://www.maktoobblog.com/Alnasser_Hesham


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.