أسعار اللحوم والدواجن والبيض اليوم 20 مايو    التلفزيون الإيراني: لا مؤشر على أي علامات للحياة في مكان تحطم مروحية رئيسي    تسنيم: قرارات جديدة لتسريع البحث عن مروحية رئيسي بعد بيانات وصور وفيديوهات الطائرة التركية    استشهاد عشرات الفلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة ورفح    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحاني الجبر وتكنولوجيا المعلومات اليوم    عمر كمال الشناوي: مقارنتي بجدي «ظالمة»    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: اليمين المتطرف بإسرائيل يدعم نتنياهو لاستمرار الحرب    ما حكم سرقة الأفكار والإبداع؟.. «الإفتاء» تجيب    فاروق جعفر: نثق في فوز الأهلي بدوري أبطال إفريقيا    الجزيري: مباراة نهضة بركان كانت صعبة ولكن النهائيات تكسب ولا تلعب    بعد تهنئة للفريق بالكونفدرالية.. ماذا قال نادي الزمالك للرئيس السيسي؟    معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    مصدر أمني يكشف تفاصيل أول محضر شرطة ضد 6 لاعبين من الزمالك بعد واقعة الكونفدرالية (القصة الكاملة)    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    ارتفاع تاريخي.. خبير يكشف مفاجأة في توقعات أسعار الذهب خلال الساعات المقبلة (تفاصيل)    محمد عادل إمام يروج لفيلم «اللعب مع العيال»    المسيرة التركية تحدد مصدر حرارة محتمل لموقع تحطم طائرة رئيسي    تركيا: مسيرة «أكينجي» رصدت مصدر حرارة يعتقد أنه حطام مروحية رئيسي    سوريا تعرب عن تضامنها مع إيران في حادث اختفاء طائرة «رئيسي»    سقطت أم أُسقطت؟.. عمرو أديب: علامات استفهام حول حادث طائرة الرئيس الإيراني    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    دعاء الحر الشديد كما ورد عن النبي.. اللهم أجرنا من النار    طريقة عمل الشكشوكة بالبيض، أسرع وأوفر عشاء    جريمة بشعة تهز المنيا.. العثور على جثة فتاة محروقة في مقابر الشيخ عطا ببني مزار    نشرة منتصف الليل| تحذير من الأرصاد بشأن الموجة الحارة.. وتحرك برلماني جديد بسبب قانون الإيجار القديم    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    د.حماد عبدالله يكتب: العودة إلى الماضى والنظر إلى المستقبل    اليوم.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة بقيمة 9 مليار    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق داخل مدرسة في البدرشين    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    تقرير رسمى يرصد 8 إيجابيات لتحرير سعر الصرف    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مختصر تاريخ العالم".. انتقائية أساليب السرد ومركزية التاريخ الغربي
نشر في البوابة يوم 07 - 10 - 2013

“,”كان المثال الذي قدمه هؤلاء العرب الذين نظر إليهم الفرسان الصليبيين على أنهم أعداء لهم هو السبب الرئيسي في تحويل محاربي أوروبا البرابرة إلى فرسان شرفاء بحق“,” .
لا مفر من أن ينصرف ذهن قارئ كتاب “,”إي إتش جومبريتش“,”، المؤلف البريطاني ذي الأصول النمساوية، إلى فكرتين: الفكرة الأولى هي أنّ توجيه الكتاب للصغار قد لا يختلف عن أية حيلة فنية، أو “,”حكاية إطارية“,” في أي كتاب قصصي آخر، مثل توجيه السرد في “,”ألف ليلة وليلة“,” على لسان شهرزاد، أو إيراد الحكايات على لسان الحيوانات في “,”كليلة ودمنة“,”، وأن الغرض من وراء هذه الحيلة الفنية يمكن أن ينصرف إلى اشتقاق أدوات قص فعَّالة من جعبة السرد، والتي تكفل خلق هذا الكتاب الجميل المشوِّق، الرافل في سحر حقائق التاريخ.
فأن يُروَى التاريخ البشري المعروف، على هيئة حكاية مسلسلة، عمل قد لا يتيسر لكاتب أن يوجهه – ببساطة - للكبار الذين قد يصدم غرورهم المعرفي - لأول وهلة - بذلك.
كما أن حكاية تاريخ العالم، وتبسيطه للصغار، من ناحية أخرى، سوف يتيح لكاتبه ولوج عوالم جمالية، يُمزَج فيها التاريخ بالقدرة على التجسيم والتصور والتخيل، ويصل خلالها إلى أكثر الصياغات شعرية، وأفضل التشبيهات أصالة وابتكارية، تحت عنوان الوصول لعقول الصغار، بينما هو يصل في الحقيقة إلى أقاصي وجدان قارئه، ويغرس غرس الحقيقة هنالك بقوة، فالكاتب – مثلا - يتحدث عن إمكانيات “,”الأداة التاريخية البشرية“,” في الوصول إلى المعرفة، خلال الأعماق السحيقة المجهولة للتاريخ، وما قبل التاريخ، هكذا:
“,”المسألة تشبه بئرا بلا قرار، أيصيبك إمعان النظر إلى الأسفل بالدوار؟، هكذا يفعل بي، لذا.. لنحرق قطعة ورق صغيرة، ونرميها أسفل البئر، ستسقط الورقة ببطء، أعمق فأعمق، وبينما تحترق، ستنير جوانب البئر، هل تستطيع رؤيتها؟، إنها تهبط أكثر فأكثر، هي الآن شديدة العمق، حتى لتبدو كأنها نجم بالغ الصغر في الأعماق المظلمة، إنها تصغر أكثر فأكثر.. والآن ها هي قد اختفت.
تشبه ذاكرتنا قطعة الورق المحترقة تلك...“,” .
وقطعا فإن: “,”هناك مبان مخصصة للاحتفاظ بقصاصات الورق القديمة، التي كتب عليها الناس ذات مرة، نطلق عليها اسم الأرشيف، أو المحفوظات“,”.
ويكفل توجيه “,”القصة البشرية“,” للصغار، أن يحافظ المؤلف على إيقاع ملحمي مبهر وحافل بالحماس، لحكايات التاريخ الواقعية، دون حاجة منه للغرق في نقاشات فلسفية مقحمة على وجود الإنسان التاريخي، إيقاع يستند إلى نظرة فلسفية دقيقة لفكرة التقدم، نظرة متفائلة بالتاريخ البشري، تلفت الانتباه دائما إلى تصاعد التاريخ الهادر لمدارج إنسانية أرقى، حيث يكافئ حضور الصغار في معادلة الحكاية التاريخية، حضور هذه النظرة المتفائلة بصورة تلقائية مستفيضة، ويجعل منها فعلا مشتقا من نسيج الحكاية ذاتها، ومن نسيج التاريخ ذاته، كرواية منتقلة على الدوام من الكبير إلى الصغير، من الأقدم إلى الأحدث، من الأقل إلى الأكثر، حكاية تنطوي في ذاتها وفي تقدمها الدائم على إضافة.
وتتماهى هذه النظرة المتفائلة للتاريخ، مع توجيه السرد للصغار، في التأثير على منهجية التناول التاريخي للكتاب، فيبدو – مثلا - خلال عدة مواضع، مُحجِمًا عن السرد التفصيلي للتاريخ، إما لدواعي الحضور الطفلي، أو لدواعي المرور سريعا، على هذه المراحل التي يبدو فيها التاريخ متلكئا إزاء حمل الإنسان تجاه مصائر التقدم، بقدر ما يبدو خلال ذلك تاريخا دمويا ووحشيا، إذ يبدأ مثلا الفصل الثلاثين، المخصص ضمن عدة فصول من الكتاب، للحديث عن العصور الوسطى الأوربية، بهذه العبارات: “,”في مقدوري - لو رغبت - أن أكتب فصولا عدة أخرى حول الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، غير أنني لن أفعل، لقد كان عصرا مريعا، فسرعان ما تداخلت الأحداث حتى لم يعد الناس يفقهون مع أو ضد من يحاربون“,”.
ويتجه “,”جومبريتش“,” نفسه، ربما متعمدا، إلى إحداث هذه المقارنة الذكية بين “,”عالم الصغار“,” و“,”عالم الكبار“,”، خلال الفصل الأخير من كتابه، حين يحاول تبرير “,”خطوة التاريخ المؤلمة إلى الوراء“,”، التي تتجسد في تدني عقلية القطيع بالإنسان، واتجاهها به نحو التعصب واضطهاد الآخرين من أصحاب العقائد المختلفة، بما يقترن بذلك من وسائل لا إنسانية، مثل القتل، أو استخدام التعذيب، أو “,”مساءلة الحق الإنساني“,”، وهو يرى أن “,”عالم الصغار“,” ربما يكون أكثر استيعابا لهذه الردة التاريخية، الماثلة في ظاهرة مدرسية يومية، هي الازدراء والسخرية من الطلبة المختلفين في لون البشرة، أو شكل الشعر، أو طريقة المأكل والحديث، و“,”بالطبع لا يتساوى كل الصغار في القسوة وانعدام الرحمة، بيد أن أحدا لا يرغب في أن يكون “,”مُخرِّب المرح“,”، وعليه، فبطريقة أو أخرى ينضم الجميع إلى هذا اللهو، إلى أن يصبحوا غير قادرين على تمييز أنفسهم“,”، و “,”مع الأسف، لا يتصرف الكبار بطريقة أفضل كثيرا..“,”.
وبما إن الكبار – للأسف - لا يتصرفون بشكل أفضل، فهم قطعا لا يفكرون بشكل أفضل. وإذن، يؤدي تشابه طرق التفكير إلى تشابه وسائل الخطاب، وبما أن البشرية ذاتها تمر بمراحل نمو عقلي، وتطور روحي، يشبهان إلى حد كبير مراحل النمو في عمر الإنسان الفرد، فما المانع أن يوجه الخطاب للعقل البشري خلال مرحلة معينة من نموه، بنفس الهيئة القصصية المبسطة التي يوجه بها إلى إنسان فرد خلال نفس المرحلة، الطفولة؟.
من هذه الجهة، يصلح كتاب “,”مختصر تاريخ العالم“,” للقراءة كعمل فني، وعلمي تاريخي، يناسب الصغار كما يناسب الكبار، بل ويمكن للكبار أن يجدوا فيه حاجتهم من متعة المعرفة والخيال كالصغار، سواءً بسواء، وربما أكثر.
أما الفكرة الثانية المرتبطة بكتاب “,”مختصر تاريخ العالم“,”، فهي تتصل بالقارئ العربي تحديدا، والذي لا بُدّ أن يتجه ذهنه إلى الهوة الحضارية الفاصلة بين العرب والغرب، فإذا كان الغربيون يخصصون لصغارهم، أمثال هذه الكتب بكل ما لها من أفق علمي وخيال تاريخي وقدرة ذهنية معرفية، فما بال الصغار في بلادنا يتحفون بكل ما هو سطحي مفتقر إلى المعرفة والخيال، وخرافي (عادة ما يأتي تحت مسمى الخيال)؟!!، وكأننا نعتبر الطفولة حالة عقلية صنو البلاهة وانعدام الإدراك!، وبالطبع.. فإن انعدام الإدراك الحقيقي يكمن في مثل هذه النظرة البلهاء للطفولة.
حقا، قد يجسد كتاب “,”جومبريتش“,”، بالنسبة للعديد من القراء العرب، ما نحن محرومون منه في بلادنا من متع التاريخ والمعرفة والخيال، ومن ثمرات العقل والعلم، سواء خلال مرحلة الطفولة أو ما بعدها، مع ملاحظة مهمة لا بُدّ أن يضعها وعي القارئ الناضج نصب عينيه، وحتى لا يصاب بسوء الفهم أو التشتت، وربما بإحاطة الكتاب نفسه بمشاعر سلبية، أو اتهامه بتزوير التاريخ مثلا، وهو اتهام غير حقيقي، فلا توجد أبدا، ويستحيل أن توجد، هذه الرواية التاريخية المتجردة من الذات الحضارية بما تحمل من موروث ثقافي وفكري، لا يوجد هذا التاريخ الإنساني الذي يروى من “,”لا موقع“,”، أو من فراغ منفصل عن محدودية الذات، وحضورها المتعيّن في المكان، وخلال لحظة معينة من الزمان، وهو ما يضع القارئ يده عليه بشكل محسوس في مركزية الموقع الأوروبي في حكاية “,”جومبريتش“,” الأوروبية للتاريخ، وهي مركزية تبدو باهتة بعض الشيء خلال تناول مراحل التاريخ الأولى السحيقة، ولا تلبث أن تتضح قليلا في مرورها بالحضارات القديمة، بدءا من الفرعونية والسومرية، مرورا بالصينية واليابانية والهندية، حتى تصبح أكثر جلاء وتوضحا عند الحديث عن الحضارتين الإغريقية والرومانية، (وهي الأصول المرتبطة، أو المباشرة، للحضارة الأوروبية المعاصرة)، وأخيرا، تتمركز رواية الحدث التاريخي كله في تصاعده حول المجتمع الأوروبي في العصور الوسيطة والحديثة، مع إلقاء نظرة على “,”العالم البشري المحيط“,” من حين لآخر، وحين يقتضي الظرف.
هذا الأمر لا يعد عيبا إطلاقا في الكتاب، إذ لا تمكن رواية التاريخ بأي شكل آخر ممكن. فالتاريخ هو رواية معرفية ترتبط بالذات، ولا يمكن - بحكم بشريته - إلا أن يشكل في تقدمه دوائر منتقلة من الكونية إلى الإنسانية إلى القارية إلى القومية إلى الدائرة الوطنية، وربما الشخصية المباشرة، وهي دوائر تضيق أو تتسع بحسب المنظور، وترتبط بالممكن البشري. وهي نفس الدوائر التي تتنقل بينها فصول كتاب “,”جومبريتش“,”، بدءا من فصله الأول المعنون “,”في يوم من الأيام“,”، والذي يصف الأرض ما قبل الإنسان، وانتهاء بالفصل الأخير المعنون “,”الجزء الصغير من تاريخ العالم الذي عشته بنفسي“,”، وهكذا، من الدائرة الكونية إلى الدائرة البشرية إلى الدائرة القارية أو القومية إلى الدائرة الوطنية إلى الدائرة الشخصية، ولا توجد أية طريقة أخرى ممكنة لرواية التاريخ.
وغاية ما نعنيه من “,”حياد المؤرخ“,” ها هنا، هو وعيه بمركزية الذات في الحكاية، وقدرته على التخلص من تحيزاتها لنفسها أو ضد الآخرين، وأصالة ما تتميز به من حس منصف، ورغبة في الموضوعية والوصول إلى الحقائق.
أما من يرون ضرورة أن تحضر رواية الذات العربية أو المصرية للتاريخ البشري على المنوال المبدع لحضور رواية “,”جومبريتش“,” الأوروبية الساحرة، فلهم بالطبع كل الحق.
المقارنة: بصيرة التاريخ...
لا تبدو المقارنة في عمل “,”جومبريتش“,” التاريخي مجرد أداة استيعاب شارحة لمعنى الحدث، تساعد في إلقاء الضوء على أبعاده، وتبيان حدوده الواقعية في سياقه الزمني، بلا استهانة أو تضخيم، من خلال مقارنته بنظائره في الأماكن والعصور المختلفة وحسب، بل تبدو - وهذا هو الأهم - نطاقا يوحِّد التاريخ الإنساني، ويسهم في كشف قوانين تطوره، المتماثل خلال الحضارات والمجتمعات والأزمنة المختلفة، لذلك تستخدم المقارنة بصورة متواترة وعلى نطاق واسع في كتاب “,”مختصر تاريخ العالم“,”.
ويلحظ القارئ دائما حرص المؤلف على إيراد المقارنة خلال كل أحداث التاريخ البشري تقريبا، فالمقارنة – على عكس ما قد يُتَصوَّر - لا يمكن أن تقع بين شيئين مختلفين اختلافا تاما، ولا تجوز مطلقا إلا بين متشابهين بينهما بعض الاختلافات، هذا التشابه مع بعض الاختلافات هو روح الوحدة التاريخية الإنسانية، التي تصدق على تاريخ التطور البشري في كل المجتمعات التي عرفها الإنسان على وجه الأرض، في مختلف العصور، مهما كان اختلافها في الجنس أو الثقافة أو الدين أو درجة التطور الحضاري.
وتقترب روح المقارنة التاريخية، من مضمون حكاية ترد في الفصل الثاني عشر، المعنون “,”أعظم مغامرة في العالم“,”، والمكرس للحديث عن فتوحات الإسكندر الأكبر (المقدوني). حيث يرسل له الملك الفارسي، القابع في قصره، والمسمى “,”جوجاميلا“,”، بمدينة “,”نينوى“,”، عرضا يحصل الإسكندر بمقتضاه، ودون قتال، على نصف مملكته، ويد ابنة الملك الفارسي للزواج، وحتما يرفض الإسكندر الفاتح، ولكن صديقه “,”بارمينيوس“,” يقول له آسفا: “,”لو كنت الإسكندر لقبلت“,”، فيرد عليه الإسكندر: “,”ولقبلت أنا كذلك، لو كنت بارمينيوس“,”.
والخلاصة هي أنه، تتشابه الظروف والأوضاع والمراحل التاريخية البشرية عادة، لكن الخيار يختلف بحسب التكوين الذاتي والظرف الموضوعي والبيئة والشخصية والثقافة. وهذا هو ملخص الاختلاف والتشابه الذي تحمله لنا مقارنات “,”جومبريتش“,” الحافلة خلال الكتاب، وهي مقارنات دسمة وثرية ومتشعبة، ولا تقف عند حد المقارنة بين الشخوص أو الديانات أو السمات الثقافية والنفسية للشعوب أو اللغات، كعدة مقارنات شائقة أجراها بين اللغات الهيروغليفية والمسمارية والصينية، وبين اللغات الأوروبية.
فهناك مقارنات مثلا، تتناول الأوضاع الاجتماعية والطبقية السائدة بين الحضارات المختلفة، مثل المقارنة التي يجريها في الفصل الثالث عشر، بين جوهر النظام الطبقي الواحد في كل من روما القديمة، والذي يقسم المجتمع طبقيا إلى “,”نبلاء وعوام“,”، والنظام الطبقي في “,”الهند القديمة“,”، الذي يقسم المجتمع إلى طبقات: “,”الكهنة والمحاربين والتجار والحرفيين والفلاحين والمنبوذين“,”، لكن الاختلاف بين الحضارتين كان أيضا حاضرا ومؤثرا: “,”فخلافا لما فعل الهنود دمثو الأخلاق، لم يخضع العوام في روما طواعية، ففي أكثر من مناسبة هدد هؤلاء بمغادرة المدينة ما لم تحسن معاملتهم، ويتم إعطاؤهم نصيبا من الحقول والمراعي التي كان النبلاء يفضلون الاحتفاظ بها، وبعد صراع قاس، استمر لأكثر من مئة سنة، نجح العوام في الحصول على الحقوق نفسها المكفولة للشرفاء“,”، هنا، وفي حالة الحضارة الرومانية التالية تاريخيا على الحضارة الهندية الأقدم والأعرق، يكمن تقدم المجتمع البشري خطوة إلى الأمام.
وقد تأتي المقارنة بين مظهر حضاري واحد - قد يبدو فرعيا - في حضارتين مختلفتين، لكنه يعكس معنىً عميقا من معاني الاختلاف الحضاري، مثل هذه المقارنة التي يجريها في الفصل الخامس عشر، المعنون “,”قوانين العالم الغربي“,”، حول غرام الرومان والإغريق بالاحتفال واختلافهما - رغم هذا الغرام المفرط المشترك - في روح ومظاهر الاحتفال، يقول: “,”تلك كانت لتبدو احتفالات سخيفة بالنسبة للرومانيين، فمن هذا الرجل الجاد المحترم الذي يسمح لنفسه بأن يغني أمام العامة، أو أن يخلع ثوبه الروماني الرسمي ذا الطيات المتعددة ليرمي الرماح أمام الجماهير؟، الأفضل ترك هذه الأشياء للأسرى، فهؤلاء من كان عليهم أن يتعاركوا ويتصارعوا، أن يواجهوا الوحوش الضارية، ويمثلوا المعارك الكاملة في الحلبة تحت أنظار الآلاف، وأحيانا عشرات الآلاف من المشاهدين“,”، اختلاف قد يبدو هامشيا أو صغيرا، غير أنه يعكس اختلافا جوهريا أعمق، بين روح حضارة قامت على نهضة عقلية، فكرية وفلسفية، احتفت بالفن والجمال والطبيعة، وهي الحضارة الإغريقية، وبين حضارة قامت على روح الجندية والهيبة العسكرية، واحتفت بالتوسع والمعمار وصياغة القوانين الصارمة.
وقد تأخذ المقارنة بين الشعوب أحيانا سمة فسيولوجية، أو وراثية، كما تكتسب بين المظاهر الحضارية طابعا يركز على الاختلاف خلال فترة من التطور الحضاري، والتماثل خلال فترة أخرى، مثل هذه المقارنة التي يجريها الكاتب في الفصل السابع عشر، المعنون “,”الحياة في الإمبراطورية“,”، مقارنة بين طبيعة وحياة المواطن الروماني وحياة “,”الجرمانيين“,”، وهي واحدة من قبائل الفلاحين والرعاة التي طوقت حدود الإمبراطورية الرومانية، وهددتها بالغزو، حتى نجحت في اجتياحها اجتياحا إعصاريا، عام (476 م) من الجهات الأربع، فيما عرف بسقوط روما.
يصف “,”جومبريتش“,” قبائل الجرمان بأنهم: “,”مثيرون للقلق، ببنياتهم القوية الطويلة، كانت هاماتهم ترتفع فوق الرومانيين، مثيرين فزعهم الشديد، غير أنه ببساطة - وقبل كل شيء - لم يكن الجيرمانيون معتادين على الحياة في البيوت الراقية المدفأة مركزيا، لقد كانوا فلاحين ورعاة، كما كان الرومانيون أنفسهم في يوم سلف“,”.
والمقارنة قد تأتي في كتاب “,”مختصر تاريخ العالم“,”، بين وسيلتين من وسائل الصعود الحضاري، التي كفلت هيمنة مدنية على غيرها من المدنيات خلال التاريخ، مثل هذه المقارنة الذكية، التي تلفت نظر القارئ إلى اعتماد السيادة البحرية الإنجليزية خلال فترات من القرون الوسطى، على نفس الوسيلة التي كفلت هيمنة حضارة “,”الفينيقيين“,” على تجارة البحر المتوسط، أي بإقامة المحطات التجارية.
وقد تركز المقارنة على اتجاهين متماثلين من اتجاهات الفعل أو التغيير خلال عصرين مختلفين، كفل لأحدهما النجاح، ولثانيهما الفشل، تغير الظرف التاريخي، كتلك المقارنة التي تجري في الفصل الثامن والعشرين، المعنون “,”دين جديد“,”، بين أفكار “,”لوثر“,” الناقدة للكنيسة، والتي ظهرت خلال القرن السادس عشر، وأفكار قسيس آخر هو “,”يان هاوس“,”، والتي ظهرت قبلها بقرن ونصف القرن تقريبا، ولاقت الفشل كما لاقى “,”يان هاوس“,” مصيرا بشعا، هو الإحراق حيا: “,”وكان المصير نفسه سيصيب لوثر وأتباعه، غير أن الزمن قد تغير، فبصورة عامة كان لاختراع الطباعة الفضل الأكبر في شراء وقراءة مؤلفات لوثر في كل ألمانيا، وكانت تلك المؤلفات مكتوبة بأسلوب مفعم بالحيوية والإثارة، وأحيانا كثيرة بأسلوب خشن غير منمق، لقد كسب الكثيرين من الناس بحججه“,”، وتعول مقارنة “,”جومبريتش“,” هنا – كالعادة - على رهان التقدم من خلال وسائل الاتصال (المطبعة) في نشر وحماية أفكار التغيير.
وقد تبدو المقارنة أحيانا شكلية محضة، كأن تكون بين عامين متماثلين في الأرقام قبل وبعد الميلاد، كالعام 444، وهو الذي ظهر فيه “,”أتيلا“,”، الملك المتوحش لقبائل “,”الهون“,” البرابرة، لكن تحت هذه المفارقة الشكلية تكمن المفارقة الأعمق: فكرة تراجع التاريخ أو انقلابه على أعقابه، أو تقهقره، وهي فكرة لا يمكن الاقتناع بها إلا عبر مقارنة محدودة، وبشكل نسبي، وعلى خلفية تاريخية محددة: “,”هل تتذكر من كان على رأس السلطة في العام 444 قبل ميلاد المسيح؟، لقد كان “,”بيركليس“,” في أثينا، كانت تلك أفضل الأزمنة، غير أن “,”أتيلا“,” كان بكل صورة نقيضا ل “,”بركليس“,”، كان الناس يقولون إنه حيثما مشى هذا الملك، فإن العشب يتوقف عن النمو“,”.
وبعكس ذلك، تحمل هذه المقارنة مماثلة بين فترتين تقعان على بعد زمني كبير، هي المقارنة التي صيغت بصدد الخلاف حول كروية الأرض، حيث فهمت الكنيسة، ومعها الشعوب المسيحية، آية الإنجيل التي تقول: “,”توقفت الشمس ساكنة، والقمر صمت..“,”، على هذا الشكل: طالما أن الشمس توقفت في سكون فهي إذن ذات طبيعة متحركة!، وهو الوهم الذي بدده بالدليل العلمي، الفلكي الشهير “,”جاليليو“,”، وتحمَّل في سبيل ذلك، التكفير والاضطهاد والمحاكمة، وتأتي المقارنة البارعة هذه المرة بين أمرين لهما نفس القدر من الخطورة، ويتعرض أصحابهما لنفس المصير البشع، وهو الموت حرقا: عالم في القرون الوسطى المسيحية – وللمفارقة - ومسيحي في عصور نيرون!.
وكمثال أخير على طبيعة منهج “,”جومبريتش“,” في المقارنة التاريخية، أورد أخيرا هذه المقارنة، التي أجراها بين عصرين يفصل بينهما آلاف السنين، ثلاثة آلاف على أقل تقدير، حيث تحولت العقيدة في القديم منهما إلى طقس تمثيلي، أو “,”مجرد لعبة“,” في العصر الأخير، إنها المقارنة بين العصر الفرعوني وعصر “,”لويس الرابع عشر“,”، الذي كان في نظر حشود الأمراء والأتباع والخدم والموظفين في بلاطه، “,”هو الشمس التي وهبها الله بحد ذاتها، الملك الشمس، والذي تعتمد الحياة بأكملها على دفئه ونوره، قد يبدو لك تماما مثل الفرعون حين تمت تسميته بابن الشمس، غير أنه كان هناك فارق واحد كبير، كان المصريون القدماء يصدقون ذلك بالفعل، بينما بالنسبة إلى لويس الرابع عشر كان الموضوع مجرد لعبة“,”.
العظماء وأمجاد العصور...
يعد التعرض لسير حياة الرموز التاريخية، جزءا مهما من منهج كتاب “,”مختصر تاريخ العالم“,” في العرض التاريخي، ويعمد المؤلف إلى اختيار شخصية تاريخية كبيرة تحمل سمات وطابع عصرها، وتلخِّص وقائع حياتها وموتها، جوهر التقدم التاريخي الذي حققته مغامرة الإنسان الحضارية، ففي العصور التي تسود فيها الفتوحات، تكون الشخصية التي يسلط عليها العرض التاريخي الضوء، شخصية فاتح كبير مثل “,”الإسكندر“,”، أو “,”هانيبال“,”، أو “,”نابليون“,”، آخر الفاتحين.
أما العصور التي تشهد ازدهارا وتطورا سياسيا أو تجاريا، وتوسعا في البناء ورقيا في التمدن وفنون الحضارة، فقد تكون الشخصية لملك عظيم مثل “,”فريدريك“,”، أو فنان مثل “,”دافنشي“,”، أو سياسي مثل “,”كرومويل“,”، ولا يغفل الكتاب عرض نماذج من الشخصيات التاريخية التي تعد مثلا أو نموذجا في رداءتها الأخلاقية، أو تطرفها ودمويتها، مثل شخصية “,”دوق ألبا“,”.
وهذه الشخصية الأخيرة، التي تعد مجسدة لعصور التعصب الأوروبية المشهورة بالقرون الوسطى، ولكونها قد لا تكون مشهورة عند القارئ العربي، تستحق إلقاء ضوء عليها، فقد كان “,”دوق ألبا“,” هو مبعوث الملك الإسباني “,”فيليب الثاني“,” لحكم الأراضي الواطئة (بلجيكا وهولندا)، وكانت المهمة الأولى له هي إجبار الأهالي على التخلي عن المذهب البروتستانتي: “,”كان دوق ألبا، بوجهه النحيف الشاحب، ولحيته الهزيلة المدببة، ونظرته الجليدية، تماما من هذا النوع من المحاربين الذي يفضله “,”فيليب“,”، بدم بارد، حكم دوق ألبا على عدد كبير من المواطنين والنبلاء بالإعدام شنقا“,”.
وقطعا، فقد تسببت سنوات الحكم الدموي لدوق ألبا في ثورة عامة اشتعلت عام 1579 في كل المدن البروتستانتية، وشكلت أول هزيمة ساحقة من هزائم الملك المتطرف “,”فيليب الثاني“,” المذكورة في التاريخ، حيث ترتب عليها طرد القوات الإسبانية من كل مدن بلجيكا وهولندا وتحررهما.
ويعد غياب أي حديث تفصيلي عن شخصيات هامة ومحورية في تاريخ شعوبها، “,”غير الأوروبية“,”، ملمحا رئيسيا يشير إلى مركزية التاريخ الأوروبي في رواية “,”جومبرتيش“,”. غير أن المؤلف يستعيض عنه بحس موضوعي وتاريخي منصف تجاه الحضارات الأخرى، والتي من بينها الحضارة اليابانية، التي يعدها “,”جومبريتش“,” - في العصور الحديثة - “,”أفضل تلاميذ الغرب“,”، وكذلك الحضارة الصينية، التي يعتبرها من الجهة الأخرى، “,”أفضل أساتذة الغرب“,” حيث نقل عنها – أحيانا بوساطة حضارية عربية - اختراعات كان لها تأثير حاسم في تطوره، مثل البوصلة والمطبعة والبارود، أما إنصافه المحقق، والذي يشعر القارئ بالامتنان نحوه، فهو إدانته لجرائم الإبادة العنصرية الأوروبية ضد سكان أمريكا الأصليين من قبائل الهنود الحمر، وتدمير مدنيتهم الباذخة، والذين سُمّوا هنودا، في مظلمة تاريخية كذلك، بمحض خطأ من “,”كولومبوس“,”، الذي اعتقد أن إبحاره غربا سيؤدي به إلى الهند، طالما أن الأرض كروية، لولا أن اعترضت طريقه الأمريكتان: “,”فهناك، وفي أماكن أخرى من أمريكا، انهمك الإسبان في إبادة الشعوب الهندية المهذبة القديمة، وبأبشع الطرق، إن هذا الفصل من تاريخ البشرية لهو شديد الخزي لنا كأوروبيين“,”، ولا شك أن مناورة لتهدئة الضمير، هي ما جعلت “,”جومبريتش“,” يحيل قارئه إلى الطبيعة البشرية في حديثه عن “,”تاريخ بشري شديد الخزي للأوروبيين“,”.
تبقى أن نشير إلى موقف “,”مختصر تاريخ العالم“,” من العرب والإسلام، وإذا استبعدنا ما يبدو من قلة المتاح من مادة تاريخية عن حضارة العرب والإسلام، شأن تعامل الكتاب مع حضارات الأمم غير الأوروبية، يمكننا القول إن به روح احتفاء تاريخي بالمنجز الحضاري العربي، بل وروح إنصاف للإسلام، الذي تعرض خلال قرون الحروب الصليبية للتشويه والإجحاف، وألصقت به - قبل معتنقيه - كل قيم الهمجية والعنف والتعصب، ففي الفصل العشرين، المعنون هكذا “,”لا إله إلا الله.. محمد رسول الله“,”، يبدي المؤلف الإنجليزي احتراما يصل إلى حد التبجيل للإسلام ونبيه، فضلا عن استيعاب لظروف وملابسات انطلاق الدعوة الإسلامية من أمة العرب، التي تمتعت بحريتها في صحراء شاسعة، “,”لم يذكرها أحد“,”، حين كان “,”الميروفنجيون“,” يحكمون “,”الفرانكيين“,”، وهي القبائل التي تولدت من انصهارها الشعوب الأوروبية الحديثة.
يقول الكتاب عن نبي الإسلام: “,”كان محمد مفعما بالقوة والنشاط والحيوية، له شعر ولحية أسودان، وبأنف نسر، ومشية واثقة هادئة، وكان يحظى باحترام كبير، كان يعرف بلقب الصادق الأمين“,”، ويعود الكتاب إلى المقارنة بين العرب وبين غيرهم من أبناء الحضارات والديانات الكبرى، في عرضه للهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، والتي “,”بدأ أتباع محمد في تأريخ السنوات من يومها، تماما كما فعل الإغريق بعد الألعاب الأوليمبية، والرومانيون بعد تأسيس روما، والمسيحيون بعد ولادة المسيح“,”.
ومرورا بدعوة التوحيد الإسلامية، وجهاد المسلمين وغزواتهم، وفتح مكة وتحطيم الأصنام، إلى وفاة النبي واستخلاف الصحابيين: أبي بكر وعمر، حتى الفتوحات العربية التي بدأت معها، وكأن محمدا قد ألقى شرارة متوهجة على الخريطة“,”، يصل الكتاب إلى الحديث عن الحضارة العربية الإسلامية التي حمت التراث الإنساني من الاندثار على يد التطرف البيزنطي والروماني المسيحي: “,”وعوضا عن حرق الكتب، بدأوا في جمعها وقراءتها“,”. ومن الإغريق، تعلم العرب الاهتمام بكل شيء في الطبيعة، وتعمقوا في دراسة العلوم والفنون المختلفة، وأبدعوا فيها، لذا فإن أسماء الكثير من العلوم التي تدرسها في المدرسة تأتي من اللغة العربية، أسماء مثل الكيمياء والجبر، الكتاب الذي بين يديك الآن مصنوع من الورق، وهو إنجاز آخر ندين به للعرب، الذين تعلموا صناعته من أسرى الحرب الصينيين“,”.
أما ابتكار العرب للصفر وأرقام الحساب المنقولة عن الهند، والتي تتميز بالقيمة المكانية، أي بترتيب الأرقام، آحادا فعشرات فمئات... إلخ، فقد أفرد الكتاب فقرة طويلة لشرح هذا الإنجاز وأهميته، وفضله على تطور علوم الرياضيات في الغرب والعالم.
ويبدو المؤلف قمة في الموضوعية التاريخية، وتكثيف العبارة أيضا، حين يختصر العلاقة التاريخية بين العرب والغرب بعبارة واحدة جيدة، يقول فيها إنه كان مفرحا للغرب أن يهزم قائد الجيرمانيين “,”شارل مارتل“,”، العرب على حدود فرنسا عام 732 ميلادية، لكنه لم يكن سيئا أن يؤسس العرب إمبراطوريتهم العظيمة.
خارج هذا الفصل المخصص، يعود الكتاب إلى تناول العرب والإسلام خلال أحداث وتطورات العالم الغربي، ومن بينها الحروب الصليبية، التي يدين المؤلف ما قام به خلالها الفرسان والجنود الصليبين من مذابح وأعمال وحشية، ويعد من بين حسنات هذه الحروب اكتشاف المسيحيين للحضارة والثقافة العربيتين، بمبانيها ومفاهيمها عن الجمال وعلومها، ويختم فقرة طويلة حول استفادة الغرب الجبارة من العرب وعلومهم وحضارتهم، بهذه العبارة: “,”كان المثال الذي قدمه هؤلاء العرب، الذين نظر إليهم الفرسان على أنهم أعداء لهم، هو السبب الرئيسي في تحويل محاربي أوروبا البرابرة، إلى فرسان شرفاء بحق“,”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.