رئيس الوزراء يعقد لقاءً مُوسعًا مع المستثمرين وأصحاب الشركات الناشئة    أسعار سيارات شانجان 2024 في مصر.. الأسعار والمواصفات والمزايا (التفاصيل كاملة)    برلماني: موقف مصر من القضية الفلسطينية تاريخي وراسخ    الشناوي على الدكة| تعرف على بدلاء الأهلي لمواجهة الترجي بنهائي دوري الأبطال    لفتة طيبة في مدرجات الأهلي قبل مباراة الترجي التونسي بدوري أبطال إفريقيا    صدمة جديدة ل تشواميني بسبب إصابته مع ريال مدريد    السجن المشدد 15 عاماً لمتهمة بالانضمام لخلية المنيا الإرهابية    فى حب « الزعيم»    نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية يتفقد مشروعات العلمين الجديدة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    «إسرائيل.. وقرارات القمة» (1)    متحدث فتح: نتنياهو لا يريد حلاً.. وكل من يقف جانب الاحتلال سيلوث يده    دخول قانون التجنيد "المثير للجدل" حيز التنفيذ في أوكرانيا    منها تعديل الزي.. إجراءات وزارة الصحة لتحسين الصورة الذهنية عن التمريض    خطة اغتيال عادل إمام.. المُكلف بالتنفيذ يروي الكواليس    تفاصيل اجتماع وزير التعليم ومحافظ بورسعيد مع مديرى الإدارات التعليمية    الزمالك يختتم تدريباته استعداداً لمواجهة نهضة بركان في إياب نهائي الكونفدرالية    رسميا.. نافاس يبقى في إشبيلية "مدى الحياة"    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    حادثه خطيرة.. تامر حسني يطالب جمهوره بالدعاء ل جلال الزكي    من بينهم أجنبى.. التحقيقات مع تشكيل عصابى بحلوان: أوهموا ضحايهم بتغير العملة بثمن أقل    السكك الحديد تعلن تشغيل قطارات إضافية بمناسبة عيد الأضحى المبارك    خطوات مطلوبة لدعم المستثمرين والقطاع الخاص    6 عروض مجانية بإقليم القناة وسيناء الثقافي    فصائل فلسطينية تعلن استدراج قوة للاحتلال.. وقتل 5 جنود وإصابة آخرين    يوم عرفة.. ماهو دعاء النبي في هذا اليوم؟    أعراض الذبحة الصدرية عند الرجال والنساء، وما هي طرق علاجها؟    «الأوقاف» تفتتح 10 مساجد بعد تجديدها الجمعة المقبلة    19 صورة لاكتشاف نهر بجوار الهرم الأكبر.. كيف بنى المصريون القدماء حضارتهم    «الصحة» توجه نصائح هامة لمرضى الجيوب الأنفية للحماية من التقلبات الجوية    كوكا يقود تشكيل ألانيا أمام سامسون سبور في الدوري التركي    عاجل.. تقارير سعودية تكشف كواليس انتقال أحمد حجازي إلى الأهلي    بالخطوات.. طريقة الحصول على نتيجة الشهادة الابتدائية 2024    «لابيد» يأمل أن يغادر «جانتس» الحكومة الإسرائيلية.. والأخير يلقي كلمة مساء اليوم    برج الثور.. حظك اليوم السبت 18 مايو: عبر عن أفكارك    تاني تاني.. تغيير جلد ل غادة عبد الرازق وأحمد آدم    حصاد تريزيجيه مع طرابزون قبل مواجهة إسطنبول باشاك شهير فى الدوري التركي    وزير التعليم: لدينا 46 ألفًا و994 طفلًا من ذوي الهمم.. و159 ألفًا و825 بمدارس الدمج    مذكرة قواعد اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي 2024.. لا يخرج عنها الامتحان    العلاج على نفقة الدولة.. صحة دمياط تقدم الدعم الطبي ل 1797 مواطن    معلومات عن متحور كورونا الجديد FLiRT .. انتشر أواخر الربيع فما أعراضه؟    حبس المتهم بسرقة مبالغ مالية من داخل مسكن في الشيخ زايد    حزب الله يعلن استهداف تجمعا لجنود الاحتلال بثكنة راميم    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. علي جمعة يوضح    هل مواقيت الحج والعمرة ثابتة بالنص أم بالاجتهاد؟ فتوى البحوث الإسلامية تجيب    مصر تنافس على لقب بطولة CIB العالم للإسكواش ب3 لاعبين في المباراة النهائية    محافظة القاهرة تنظم رحلة ل120 من ذوي القدرات الخاصة والطلبة المتفوقين لزيارة المناطق السياحية    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحتل المرتبة الثالثة في شباك التذاكر    8 تعليمات مهمة من «النقل» لقائدي القطارات على خطوط السكة الحديد    جامعة مصر للمعلوماتية.. ريادة في تطوير التعليم الفني    «الصحة»: وضع خطط عادلة لتوزيع المُكلفين الجدد من الهيئات التمريضية    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    الفصائل الفلسطينية تعلن قتل 15 جنديا إسرائيليا فى حى التنور برفح جنوبى غزة    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفتاحُ الحياة..رواية..إبراهيم فرغلي
نشر في الأهالي يوم 30 - 10 - 2021


رواية
إبراهيم فرغلي
رأيتُ خلف الصورة
وجهكِ.. يا منصورة،
وجه لويس التاسع المأسور في يَدَي صبيح
أمل دنقل
"والصمتُ أيضًا سأصفه لي.. إذ إنّ أفضل كلمات الحبّ بين أيّ اثنَيْن هي تلك التي لا تُقال".
أوكتافيو باث
كريستين
جزيرة الورد
عَدَدْتُ غيابها عن حياتي الضربة الثانية لي بعد موت عماد المبكّر، والصادم، الذي كان حَدَثًا مفصليًّا في حياتي وحياة كلّ شلّتنا (الأصدقاء المُقرّبون) تقريبًا. وبالرغم من أنني تمنّيتُ لها السعادة من أعماق قلبي، لكنّي، لن أسامحها أبدًا على زواجها المبكّر، ورحيلها إلى أمريكا مع زوجها. وسوف يلاحقني الشعور بالتعاسة لغيابها دائمًا. بينما سيظلّ عزائي أنها كانت سعيدة بقرارها بالزواج والهجرة.
جاكلين صديقة بالمعنى الذي أفهمه لفكرة الصداقة، ومعها أتحدّث عن أيّ شيء يخطر ببالي، فتبتسم وتهزّ رأسها بتفهّم وهدوء كعادتها.
بين أسباب ارتباطي الروحي بها؛ إحساسي بأنها أكبر من عمرها، فقد كانت أكثر نُضجًا منّي بكثير. عاقلة، وهادئة، قارئة نهمة، وتحلم بالحياة في أوربا أو أمريكا. لم تشاركْني تعلُّقي بالشارع، والخروج مع عماد ورامي وشلّة الجيران في توريل. لكنها، لا تخفي شَغَفَهَا بحكاياتي عنهم. ووصفتْني بأنني أصبحتُ أُشبِهُ الأولادَ، بسبب شدّة ارتباطي بهم!

تاريخ مغادرتها للمنصورة أصبح تاريخًا مركزيًا، أُؤرّخ به الحكايات والأحداث. أحكي الحكاية، وأقول حَدَثَ ذلك بعد سَفَر جاكلين. وأحيانًا أبدأ قائلة: "لمّا جاكلين كانت هِنا، أو لمّا سافِرنا "رأس البرّ" مع جاكلين حصل كذا".
"بقَدْر جمال المنصورة بقَدْر ما أضاعتْ شباب الكثير من أبنائها". هكذا قالتْ يومًا، ومعها الحقّطبعًا، فلا يمكن مقارنة المنصورة، بكلّ ما فيها، بليلة في الإسكندرية، أو القاهرة.
اعتادتْ جاكي، كما نُدلّلها، في رحلاتها للقاهرة مع أمّها وأختها الأصغر، زيارة المسارح، والسينمات، والتّردّد على مطاعم أنيقة، ونوادٍ عديدة. أمّا هنا، فليس لدينا إلا ناديَيْن أو ثلاثة، وبعض المطاعم. السينما لا تليق بالعائلات. والحياة اليومية فيها مَبنية على الروابط الاجتماعية والزيارات العائلية في البيوت.
لكننا، مع ذلك، مثل كائنات البحر؛ لا يمكن أن نبتعد عن المنصورة إلا ونشعر لها بالحنين الجارف. وهو مرضٌ شائعٌ عند أهلِها جميعًا تقريبًا. فمَن الذي لا يحبُّ المنصورة؟ ولعلّ تعلُّقنا بالمنصورة له علاقة بمعرفتنا بتاريخ المدينة الجميل.
كان عمّي وديع، مثلًا، حين يأتي لزيارتنا قادمًا من بورسعيد، يحكي لنا عن منصورة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فتبدو لنا كأنّها بلدة أوربية بسبب الأبنية العتيقة، مخروطية الأسقف، التي تخصّ الرعايا الأجانب. يُخرِج لنا ألبوم الصور الجِلْدي العتيق، الذي يحتفظ به معه في حقيبة صغيرة، أينما ذهب. نتأمّل الصور التي تبدو لنا كأنها رحلة في زمنٍ آخر. صُورٌ بالأبيض والأسود، مصقولة، وفي حالة جيّدة كأنها كروت بوستال. صور من زمن آخر، لا علاقة له بزمن بالمدينة التي نعرفها.

لم نكن نملّ من تكرار الفُرجة على الصور، وبينها صورته وهو يقف بجوار مبنى القنصلية الإسبانية بتصميمه الأوروبي الجميل، أو أمام مدرسة "الفورير" التي درس فيها في صغره، وصور أخرى لشارع السِّكَّة الجديدة في الأربعينيات، مع صور جدّي فلتس وجدّتي اليونانية "تيته فيودورا". أخبرنا مرّة عن "حارة الخواجات"، التي عاش بها الكثير من الإيطاليّيْن واليونانيّيْن.
من بين الصور التي كنتُأتمنّى أن أحتفظ بها، صورة لعمّي وديع أمام المدرسة اليوناني، التي عملتْ فيها جدّتي "تيته فيودورا" أو "فوفا" كما يُدلّلها أفراد العائلة.
وكنّا منبهرين من مساحة الحدائق والأشجار حول مبنى المدرسة الذي يُشبه قصرًا فخمًا بسلالم عديدة. وكان واضحًا عُلو أسقف القصر الذي تحوّل للمدرسة اليونانية. وكان جدّو فلتس يقول إن المنطقةكلّها كانت تابعة للجالية اليونانية، حتّى الخمسينيات.
ولم نرَ صورًا لأبي في تلك المرحلة، إلا في صورة وحيدة، بدا فيها طفلًا، تحمله جدّتي بين يَدَيْها، وبجوارهما يقف عمّي وديع الذي كان يكبر بابا بأكثر من عشر سنوات.
وحتّىأمّيحَكَتْ لي أنها وزميلاتها خلال فترة الدراسة، كنّ يذهبنَ إلى السينما في الحفلات الصباحية. وبضحكةٍ خجولة؛ تُلَمِّح لي أن تلك السينما ملتقى المواعيد الغرامية بين البنات والشباب، حتّى لو اقتصر الأمر على تبادُل الابتسامات من بعيد، والغزل العفيف. ولمّا سألتُها إذا ما حدث مرّة والتقتْ بابا في موعد غرامي في السينما، فابتسَمَتْ في خجل، وطلبتْ منّي السكوت. وفهمتُطبعًا أنها ربّما كانت تلتقي شخصا آخر قبل أن تتعرّف إلى أبي، الذي تزوّجتْه زواجًا تقليديًّا.
حكى لي بابا أيضًا عن "مدرسة الليسيه"، التي تقع في أوّل شارع طلعت حرب في توريل، قبل أن تتحوّل لمدرسة حكومية. وعن جمال أيّام المنصورة زمان. وعن الطبقات الأرستقراطية التي وجدت متنزّهًا لها في "نادي التجديف" و"كازينو النيل"، بالإضافة للحفلات الموسيقية التي كانوا يُقيمونها لأمّكُلْثُوم وعبد الوهاب وكبار الفنّانين في قصورهم، خصوصًا قصور عائلة الشّنّاوي.
وحين نسأله عن تفاصيل بعض ما أخبرنا به "عمّي وديع" يقول لنا مبتسمًا إن وديع لا يعرف شيئًا عن المنصورة منذ الخمسينيات، بسبب انتقاله إلى بورسعيد للعمل هناك، وبقي بها، وتزوّج، وصارت معرفته بها أكبر من المنصورة.

كلّنا نعشق المنصورة بجنون، ولكننا أيضًا نعرف أنها أصغر من طموحاتنا، ولذلك كان من الطبيعي، بين آن وآخر، أن نسمع عن هجرة أو سَفَر أصدقاء لمَنْ هم أكبر منّا عُمرًا.
ولكننا كنّا نستقبل الأمر بشكلٍ طبيعيّ، بسبب سُمعة المشاهير الذين انطلقوا من المنصورة، وأصبحوا نجومًا في المجالاتكافّة. وهو ما يجعلنا نشعر بالزهو، ولا نبالي بسخافات الذين يسخرون من انتشار زُرقة عيون الفتيات، بالإشارة السخيفة إلى تزاوُج الفرنسيّيْن بأهل المدينة إبّان حملة لويس التاسع وهزيمته وأَسْره في المدينة.
في النهاية، ارتبط قَدَرُ المنصورة بطريقة بنائها كمدينة عسكرية محدودة المساحة، ولم تكن له أيّ حلول. وأسهم الريف والقرى القريبة منها في تضييق الخناق حولها بما لا يتيح أيّ مجال لتوسّعها.
مع ذلك، كانت المنصورة، وستظلّ، بالنسبة لنا، العالمكلّه.
عندما حلمتُ ببيت الرّبّ
لم أفهمْ إصرار رامي على انتقاد جاكلين بمناسبة وبلا مناسبة، رغم أنّها موضع إعجاب الجميع. جميلة، مهذّبة، عصرية، رشيقة. لا يمكن لأيّ شخص أن يراها بغير عين المحبّة.
السبب الأكثر منطقية بالنسبة لي أنه مُعجبٌ بها، وليس انتقاده المستمرّ لها إلا وسيلة للتعبير عن اهتمامه. وبصراحة مَنْ الذي لا يمكنه أن يُعجَب بجاكلين؟ جمالها لافت بشَعْرها الأسود الطويل الناعم، ووجهها ذي القسمات الرقيقة، ورشاقتها التي تجعلهاتبدو كالأجنبيات. حتّى أختها؛ "ريموندا"، أو "ريمو" كما نُسمّيها، كان جسدها بضًّا، متثنّيًا، تحرص على إبراز مفاتنه بارتداء فساتين ضيّقة. بينما جاكلين لا ترتدي إلا أزياء بسيطة جدًّا، بنطلون جينز و"تي شيرت"، كأنهما لا ينتميان لبيت واحد. وحتّى أنا رغم تناسق جسدي أعدّ نفسي بضّة، وقابلة للامتلاء، إذا أُتيحت لي الفرصة.
جمالنا أنا وجاكلين جعل شارع بيتنا "مرتعًا" لسيّارات شباب "توريل"، ولجولات المتخايلين بأنفسهم، ولاستعراضات العُشّاق الغادين والرائحين كلّها، ليلًا ونهارًا.
في "نادي الشُّرطة"، في توريل، كنّا نختلس الفرص للقاء أصدقائنا الشباب أنا وبعض زميلات المدرسة بعد الدروس، قبل أن يتحوّل النادي لمستعمرة ذُكُورية غير مقبول وجود الفتيات فيها!
رامي يقول لي دائمًا إنه وَقَعَ في غرام أجمل بنات المنصورة، يقصدني طبعًا، ولكن موضوع محاولته إظهار سخريّته غير المبرّرة من جاكلين، لم يكن مريحًا، كأنه يقاوم إعجابه المستتر بها.
بعد فترة بدأتُ أشعر بالانزعاج. أوّلًا لأنني أحبّ جاكلين مثل توأم. ولا أطيق انتقادها من أيِّ كان. وثانيًا لأن مبالغة رامي في انتقادها لم تعد فقط مستفزّة، بل ومريبة.
أَخرجَني عن شعوري أكثر من مرّة حتّى قلتُ له مرّة وبحدّة شديدة: لا تتحدّث عنها أمامي بكلمة. بُهِتَ رامي، ولم يردّ لوهلة، وقبل أن يستعيد تماسُكه ويردّ، تركتُهُ ومشيتُ، لكي لا أمنحه فرصة للدفاع عن نفسه.
حين هاجرتْ مع زوجها لأمريكا، لم تكن قد انتهتْ من الثانوية العامّة، بينما كنتُ لا أزال في الصّفّالأوّل. فرضتْ ظروف زوجها الزواج في هذا الوقت، لأنه لن يكون قادرًا على العودة إلى مصر قبل عدّة سنوات كما أخبرهم. وتمكّن من إقناع أهلها باستكمالدراستها في أمريكا.
شعرتُ أن جزءًا من روحي سُرِق منّي للأبد. ولم تُعوِّضني الرسائل التي تبادلناها خلال العام الأوّل عن إحساس الضياع بدونها. ثمّ سَرَقَتْها المشاغل والدراسة والإنجاب لاحقًامنّي، ومن ماضيهاكلّها مع المنصورة تقريبًا. واليوم لا أعرف عنها إلا ما تنقلُه لي ريموندا.
حافظتُ على علاقتي بشقيقتها وب "طنط إيزيس"، وكانت كلّ زيارة لهما كأنها محاولة لاستعادة طيف الروح المفقودة لجاكلين.
حتّى في زياراتي للكنيسة بعد سفرها، كنتُ كاليتيمة. لم أعتد الذهاب بدونها، تقريبًا ولا مرّة. أمّا مشوار المدرسة اليومي من توريل إلى المختلط، فكان اختبارًا حقيقيًا لمعنى الوحدة. رغم أن "جولي" بدأتْ ترافقني بعد عدّةأيّام، عندما عرفتْ أنني أذهب إلى المدرسة وحدي.
هل مهَّدَ ذلك لقبولي فكرة الرهبنة، قبل أن يأتي موت عماد، ليجعل الأمرَ قابلًا للاختبار على الأقلّ؟
أحيانًا يساورني خاطرٌ غريبٌ. أن اختفاءها من حياتي عقابٌ ربّانيّ على خطيئة ما. خفتُ أن تكون مشاعري تجاه رامي سببًا في هذا الهاجس. ارتبكتْ حياتي، وقرّرتُ زيارة أبونا، كاهن الاعتراف، لكي أرجو قبولي كراهبة لخدمة الرّبّ. لكنه لم يُبدِ الحماس لرغبتي في الرهبنة. قال إنني لازلتُ صغيرة ولا أفهم معنى الحياة داخل دَيْر للأبد.
تأمّلني في شفقةٍ، وأوضح لي أنني يجب أن أعيش حياة طبيعية، وأستكمل تعليمي، وأخوض خبرات كثيرة في الحياة، حتّى لا أعود لاشتهائها بعد الرهبنة. قال إن الرهبنة في سنٍّ مبكّرة كهذه، ليس أمرًا سهلًا، ولا يقبله الكَهَنَة بسهولة.
الرهبنة ليستْ سجنًا، قال، ولا ينبغي اتّخاذ قرار الرهبنة حين نشعر بالتعاسة في حياتنا. وهززتُ له رأسي باكية، ومتفهّمة، لكن روحي بلغتْ أوج عنادها. سأفعل أيّ شيء لأُكرِّس حياتي في خدمة الرّبّ.
لكنْ، لا الراهبات اقتنعنَ بوجودي بينهنّ، ولا القساوسة. واتّفقوا بالإجماع على صغر سنّي، وعلى أنني لم أختبر الحياة بعد، وقالوا لي إنني إذا لم أكن قد عرفتُ الحياة قبل قرار الرهبنة، فمن الممكن جدًّا أن أشتاق للحياة العلمانية في الدَّيْر حين يكون الرجوع عن الرهبنة صعبًا.
قلتُ لهم إنني أصوم باستمرار، وأقرأ في الكتاب المقدّس، وأحفظ عظات "البابا شنودة" عن ظهر قلب.
لم يصغوا أو يهتّموا بكلّ ما قلتُ عن رغبتي المخلصة لخدمة الرّبّ، واستعدادي التّامّ لقضاء حياتي في الدَّيْر. وكشفتْ لي كبيرة الراهبات الرفاهية التي أعيشها مقارنة بالحياة في الدَّيْر، التي تحتاج إلى التّدرّب على التّقشّف. قالتْ: الراهبات يأخذنَ أنفسهنّ بصرامة، وحتّى صيامهنّ يكون شاقًا يمتنعنَ فيه عن الطعام يوميًا لما يقترب من يوم كامل، وليس كصيام العلمانيّيْن.
عدتُ للبيت حزينة، وفي الليل، أخذتُ أدعو الرّبّ أن يحنّن قلوبهم، ليوافقوا على رغبتي الصادقة في تكريس حياتي لخدمة الرّبّ.
قرّرتُ زيارة "القدّيسة دميانة". لم يكن إقناع أمّي بالسفر إلى بلدة "بِلْقَاس" القريبة من المنصورة، صعبًا، فهي لا تبعد عنّا أكثر من عدّة كيلومترات. لم أُخبر أمّي شيئًا عن رغبتي في زيارة الدَّيْر، وبيت الخلوة، والحديث مع راهبات الدَّيْر، فربّما أجد مَنْ يمنحني الأمل في قبولي كراهبة.
توريل القديمة
يقولون إن حيّ توريل من أكثر أحياء المنصورة هدوءًا، ولم أشعرْ بذلك في أغلب الوقت. في الطابق الأوّل، يمكن لنا سماع همسات المارّة في الشارع، فما بالكَ بمناداة الباعة، الذين يتوالون على الحيّ من الصباح المبكّر وحتّى العصر. وضجيج شباب الحيّ وهم يلعبون الكرة في "ميدان فريد المصري"، كلّ يوم تقريبًا؟!

لازلتُ أذكر حتّى تلك الأيّام، حين كانوا يلعبون الكُرة الشراب، قبل أن تنتشر الكرة الجِلْدية الحديثة. ونداءات الشباب على بعضهم البعض من أسفل النوافذ. وإزعاج نفير سيّاراتهم الصاخبة. ففي توريل لا أحد يصعد ليدقّ جرس الباب، بل يتنادون من أسفل المنازل، أو يقرعون نفير السّيّارات.
ربّما ورثْنا فكرة هدوء "توريل" من الأجيال السابقة، لكني لم أعرف هذا الهدوء. فكلّ صوت يصل إلينا في البيت، من طَرقات أقدام الخيل ورنّات أجراس الحناطير، قبل اختفاء "الحناطير" مثل أشياء أخرى كثيرة، أو مرور بائع العرقسوس وهو يُصلصل بطبقَي النحاس، مُعلنًا عن مشروب العرق السوس. ونداء الباعة المختلفة، من الخضراوات للفواكه إلى البقول، ومن بائع اللبن إلى الروبابيكيا، وغيرهم.
فابتداء من وقت العصرية يأتي "عم عَنْتر" بعربة الذّرَة المَشوي، وإن كان من أكثر الباعة هدوءًا، لكن زبائنه ليسوا كذلك. ومن بعده، يتوافد باعة التين الشوكي، وغيرهم، وغيرهم.
أحيانًا أستيقظ في الفجر، لأستمتع بتوريل الهادئة. أُمتِّع بصري بالشارع الهادئ وهو مُغبّش بشبح النهار الذي لم يأتِ بعد، من النافذة، ولا أسمع إلا وشيشًا بعيدًا لموقد مطعم الفول والطّعْميّة، القريب، الذي يبدأ استعداداته مبكّرًا.
في الصيف أيضًا، وقت الظهيرة والعصر، يُصبح الحيّ صامتًا أغلب الأحيان. وكثيرًا ما طاب لأمّي في تلك الأيّام الهادئة أن تجمع "لبّ البطّيخ والشمّام"، لعدّة أيّام، ثمّ تغسله جيّدًا، ثمّ تفصل لبّ البطّيخ الأسود عن لبّ الشمّام الأبيض، وتتركه ليجفّ، ثمّ تُحمِّصه في الصينية مع الملح.
وبهذا يكتمل بالنسبة لها طقس العصاري في الصيف. حين تبدأ الدكاكين والمحلاتكافّة في رَشّ المنطقة المواجهة لها من الشارع بالمياه لترطيب المكان. وتجلس ل "تقزقز اللّبّ" مع الشاي والبطّيخ، في البلكون، وتطلب منّي أن أجلس معها لنتسامر، إذا لم تأتِجدّتي، أو إحدى خالاتي أو صديقات أمّي لزيارتنا.
في مثل هذه الأوقات، ومع الهدوء الذي لا تقطعه إلا أصوات بعض السّيّارات العابرة بين آنٍ وآخر، اعتدتُ إقناع نفسي أن الحياة في توريل مثالية وجميلة.
لكن جاكلين التي تعبد الهدوء والتّأمّل، رأتْ في الحيّ الهادئ موضعًامُستمرًّا للإزعاج؛ خصوصًا لسكّان الطوابق المنخفضة، بل إن الإزعاج كثيرًا ما تحوّل إلى جحيم عندما تنشب المُشادّات المروِّعة بين شباب الحيّ في "توريل" ومجموعات الشباب من الضواحي الأخرى القريبة، خصوصًا أبناء حيّ "كفر البدماص"، حيث يتحوّل "ميدان فريد المصري" لساحة معركة.
أحيانًا أتصوّر أن جاكلين خطّطتْ للهجرة مبكّرًا، هروبًا من الضوضاء. لكني أعود وأسخر من سذاجة هذه الفكرة؛ لأن "جاكي" قد تكون الوحيدة التي فعلت الأمر الصحيح،وقرّرت الهجرة من بلدٍ، تحمل هويّته، ولا يعاملها إلا كمواطنة درجة ثانية، لتذهبَ إلى بلدٍ، لا تحمل هوّيته، لكنه يعاملها كمواطنة، تتساوى حقوقها مع أيّ شخص آخر يعيش في المكان.
لم أمتلكْ هذا الحسّ بالمغامرة، خصوصًا أن تذهب واحدة مثلي لآخر العالم بحثًا عن المساواة، كما أرادتْ وفعلتْ جاكي.
أمّا "ريمو"، شقيقتها، فتُشبهني في طبيعة علاقتها وإحساسها بالمنصورة. تحبّ المدينة رغم كلّ شيء. تشعر أنها مثل سمكة خرجتْ من المياه، إذا سافرتْ مع والدتها للقاهرة، ولو حتّى ليومٍ واحد. لا تستعيد قدرتها على التّنفّس بشكل طبيعي إلا حين تعبر كوبري المنصورة من جهة سندوب، الذي تبدأ بعده مباشرة أولى ملامح المدينة، بالطريق الطويل الذي تصطفّ على جانبَيْه الشجيرات الكثيفة التي جسّدتْ طابعًا مميّزًا لمدخل المنصورة.
لا شكّ في وجود ندّاهة جميلة، يؤويها النهر، تُنادي علينا إذا ما ابتعدْنا عنها. تذكّرتُ "الندّاهة"، التي اعتادتْأمّي إرهابَنا بها أنا وبنات خالاتي، في الطفولة، حتّى لا نبتعد عن البيت. عماد قال لي إنه سمع صوتها بالفعل مرّة، ولكن رامي سبح في النيل، لكي يؤكّد لهم أنهم واهمون!

لكن، لكلّ أمّ من الأمّهات، أبناء يحملون جينات العقوق والعصيان، ككلّ الذين هربوا منها، وهجروها مع أوّل فرصة، مثل جاكلين، التي عرفنا أمثالها كثيرين باستمرار. عشرات من أصحاب الطموحات، بينهم أولئك الذين أحبّوا أن يكونوا نجوم غناء، ووقفتْ حدود المنصورة الخانقة عائقًا لطموحهم. الفِرَق الموسيقيةكلّها التي أحببْنا أُغنيّاتها، أو بالأصحّ؛ الأُغنيّات الغربية الشهيرة التي كانوا يُقلِّدونها بإتقان، والذين كنّا نستمع لأُغنيّاتها في حفلات راقصة في رأس البرّ، فريق ال"إيجلز" Eagles، أواخر السبعينيات، سنوات المراهقة، وفريق ال"ديفلز" Devils. كان كلّ من الفريقَيْن يضمّان شبابًا، نرى في كلّ شخص منهم نموذجًا من نماذج فرسان خيالنا. نتابع عروضهم الموسيقية والغنائية في الحفلات الجامعية، وفي بعض حفلات الزفاف، أو في إجازات الصيف في "رأس البرّ". بعد سنوات، عرفنا أن أغلبهم هاجروا خارج مصر.

قائمة المهاجرين من المنصورة ضمّت الكثير من الفئات الأخرى، بينهم بعض الطامحين في الزواج من أجنبيات، بلا مبرّر ربّما غير عُقد النقص. أو لأسباب وجدت في الزواج منهنّ فرصة للهجرة. طبعًا هناك عائلات مسيحية كثيرة فكّرتْ في الهجرة بعد خروج الإخوان المسلمين من السجون في عصر السادات، وكذلك بعد اغتياله.
بالنسبة لي الأمر مختلف تمامًا. أنا أعشق المنصورة حرفيًا. وأعشق فيها أشياء بسيطة. مثلًا حين كنتُ أزور "منال"، صديقة طفولتي أيضًا، بعد أن ترقّى والدها، ليصبح مديرًا لتفتيش الرّيّ، انتقلتْ عائلتها للفيلا الجميلة الموجودة في نهاية الشارع الرئيس في حيّ المختلط، قبل مزلقان القطار مباشرة. والتي لا يظهر شيء منها في الغالب، بسبب عُلو سورها وصِغَر بابها الخشبي.
أذهب لزيارتها سعيدة جدًّا. أمشي الطريق من توريل للمختلط، إذا لم يُوصِلْني بابا، ووجهي في الأرض، لا ألتفتُ يمينًا أو يسارًا حتّى أصل لباب الفيلا. ورغم أننا نسكن بجوار فيلا، عُلّقتْ على بابها الرئيس لافتة مكتوب عليها "فيلا حسن الإمام"، لكنها ظلّت خاوية باستمرار. "فيلّا" بلا سُكّان، لكن الأشجار التي تظهر من خلف السور تبدو خضراء ونضرة. وما يدور داخلها يظلّ سرًّا، لا يعرفه أحد، أو يبقى مخترعًا في تهيّؤات أصحاب الخيال الواسع عن حياة أسرة المخرج الشهير في الداخل، رغم أنني لم أصادف رؤية أيّ منهم أبدًا.
تمنّيتُ ظهور أيّ من أفراد عائلة المُخرج السينمائي الشهير يومًا، لكنْ، لم يحدث ذلك أبدًا.
أمّا الفيلا الثانية، فهي تخصّ سكرتير عامّ محافظة الدقهلية، على بُعْد خطوات من ميدان فريد المصري، في الشارع الذي تقع فيه بقّالة "دعدور"، ولا نرى من سورها الأبيض العالي سوى الأشجار، وأحيانًا نرى سيّارة سكرتير المحافظ السوداء تقف أمام الباب.

في الفيلا التي سكنتْ بها منال، في حيّ "المختلط" القريب من توريل، كنتُ أشعر أنني أنتقل إلى فيلم بالأبيض والأسود. الممرّ الطويل الذي يأخذ شكل حرف L، تحيط به حديقة تمتلئ بأشجار المانجو التي كنّا نُوقِع ثمارها، لأننا نحبّها خضراء ولاذعة، والجوافة، والكثير من أنواع الورد المختلفة، وخصوصًا الورد البلدي، وشجيرات الياسمين الكثيفة التي تتبرقش فروعها الخضراء بزهور الياسمين البيضاء، والتي تمنح للحديقة عبقًا جميلًا. بينما يُظلّل جانبًا من الممشى المؤدّي للفيلا "تكعيبة" عنب خشبية، تتدلّى منها القطوف الخضراء.
أمّا البيت السَّكَني، فنصعد له بدرجات عديدة. وعندما أتأمّل جمال الشجر والورد أقول لنفسي إن هذه الحديقة هي ما تصفه الكُتُب ب"البستان".
بيتنا لم يكن صغيرًا، مثل أغلب البيوت القديمة التي بُنيت في الخمسينيات والسّتّينيّات، لكنْ، لا يمكن مقارنته ببيت منال أبدًا. كان السقف عاليًا بشكلٍ مدهش. والممرّات بين الغرف طويلة. أمّا غرفة منال، فواسعة وأنيقة بالنسبة لغرف نومنا العادية الصغيرة. ربّما لم يكن البيت من الداخل حديثًا مقارنةً حتّى ببيتنا، لكنه كان عتيقًا وأنيقًا. كنتُ أشمّ فيه رائحة الخشب العتيق الداكن الذي يتمثّل في أرضية البيت المغطّاة بالسجاجيد.
أحببْنا اللعب في الحديقة، والثرثرة وتبادل النمائم ونحن نتمشّى بين الأشجار والورود. وحين يصادفنا سامح؛ شقيق منال، وأُوجِّه له أيّ كلمة، يحمرّ وجهه حتّى يُصبح مثل التّفّاحة، رغم سُمرة وجهه الممتلئ. يُذكِّرُني بشكل "تَخْتَخْ" بطل مغامرات "المغامرون الخمسة" الشهيرة.
أقول ذلك لمنال، فتضحك، فأضيف:
* وأنتِ تُذكّريني ب "نوسة" أخت "محبّ" في المغامرات.
فتنهرني، وتقول إنها أحلى كثيرًا من "نوسة"،فأوافقها بسرعة، مؤكّدة أنني أمزح معها.

مرّة قابلتُ نادية؛ توأم رامي، عند منال. تعاملتْ معي بتحفّظ، ولم أفهم لماذا. هل لأنها تعدّني بنت شوارع، تلعب مع أولاد الجيران؟ أم لأنني مسيحية؟ هل تختلف عن شقيقها رامي لهذه الدرجة؟
لم تكن عدائية، ولم تتجاهلْني أبدًا عندما أُوجّه لها أيّ سؤال. بالعكس، كانت دمثة جدًّا ولطيفة، لكنْ، لا أعرف لماذا تعطيني الإحساس بالتّحفّظ. وبالفعل بعد فترة بسيطة من وجودي، استأذنتْ، وانصرفتْ.
منال ووالدتها طنط ليلى، لم تكن لديهما حساسية بتاتًا في التعامل معي. طنط ليلى خرّيجة مدرسة "سانت فامي" هي، أيضًا، وكثيرًا ما تحكي لي ذكرياتها في المدرسة.
كنتُ سعيدة أنني درستُ في مدرسة عريقة، خرّجتْ أجيالًا مثل جيل طنط ليلى.
في إحدى زياراتي لهم، طلبتْ منّا طنط ليلى أن نخرج معها إلى حيّ "ميت حَدَر" الشعبي، الذي يضمّ سوقًا شعبية. قالتْ لنا إنها تريد أن تشتري "حلوى المولد"، من أحد مصانع الحلوى، الواقع في حارة متفرّعة من "شارع بنك مصر". ولأوّل مرّة، أدخل مصنعًا للحلوى الشعبية.
شاهدنا أنا ومنال، بانبهار، كيف تُصَبُّ الحلوى البيضاء المصهورة في براميل خشبية ضخمة، ومنها إلى قوالب خشبية صغيرة، تأخذ شكل عروس المولد أو الحصان، ثمّ كيف يقوم العُمّال، بعد أن تبرد الحلوى وتتجمّد، بفَصْل القالب الخشبي إلى نصفَيْن؛ فنرى قوالب الحلوى التي تتّخذ إمّا شكل الحصان الشهير وعليه الفارس، وإمّا "عروس المولد" باللون الأبيض، قبل أن يُضاف إليها اللون الوردي الشهير. لازلتُ أذكر رائحة المكان الحارّ، بسبب الأفران، هذا العبق المزيج من روائح العسل الساخن والسُّكَّر وماء الورد. ولم يكن ممكنًا أن أعود للبيت في يوم كهذا بدون علبة "حلاوة المولد"، المُهداة لي من طنط ليلى، والممتلئة بالحُمّصيّة والسِّمْسِميّة والفُولِيّة والمَلْبَن. وكانت أمّي تسعد كثيرًا بهذه اللفتة، وتنتظر أيّ عيد من أعيادنا، لكي تُرسل إليهم معي علبة كحك من صُنع يَدَيْها.
طنط ليلى مختلفة في الطريقة التي تتعامل بها مع منال، وتعدّها كصديقة، وليس ابنة فقط. منال أيضًا ناضجة، وغالبًا لا تسلك سلوكًا يسيء لأمّها.
أجلس لمدّة ساعة، لأحكي لها حكاية تضايقني عن ماما أو عن معلّمة من المعلّمات، وتُنصِتُ لي، ولا تُظهِر ضيقها أو استخفافها بما أقول.
أتمنّى أن تصبح أمّي صديقة لطنط ليلى يومًا.

حديث الذكريات
زارتْنا "طنط نِسْمة" وابنتها علياء، فانشرح قلبي بمُجرّد رؤيتهما على الباب. فهذه الزيارة من أَحَبِّ الزيارات إلى قلبي. أوّلًا لأنّني أحبّ "طنط نسمة" مثل أمّي. أُحبّ الحكايات التي تتبادلها مع ماما، وهما تستدعيان أيّام طفولتهما ودراستهما في المدرسة.
انتقلتْ طنط نسمة بعد زواجها مباشرة للقاهرة، لكن علاقتها بأمّي استمرّت حتّى اليوم.
كانتا تحرصان على التّحدّث في الهاتف مرّة كلّ أسبوع على الأقلّ، وحينما تأتي "طنط نسمة" إلى المنصورة، لكي تزور أمّها المريضة وأخواتها في المنصورة كلّعدّة شهور، فلا بدّ أن تمرّ علينا لزيارتنا.
هناك علاقة ودّ حميمية جدًّا تجمعني بعلياء، لكننا مختلفَتَاْن. فهي شخصية هادئة ورزينة. لكنّي دائمًا أرى في ملامحها شيئًا فاتنًا. هدوؤها الواضح يخفي غموضًا لفتاة، لديها تجارب في الحياة.
بعد وفاة والدتها، لم تعد "طنط نسمة" تشعر بالراحة في بيت العائلة القديم في "سوق الخواجات" المتفرّع من أحد شوارع "السِّكَّة الجديدة"، ولذلك أصبحت تُفضِّل الحضور إلينا للبيات عندنا. كنّا ننام أنا وعلياء على الأرض، ونترك لها سريري خاليًا، بعد انتهاء سهرتها مع أمّي.
وحين يدخل بابا، الخجول جدًّا، للبيت بعد انتهاء موعد الصيدلية، التي عمل بها بعد سنوات من الوظيفة الحكومية في التأمين الصّحّيّ. يُحيّيها بمودّة، ويسلّم عليها بأدب، ويجلس معهما لعدّة دقائق، يتحدّث خلالها مع طنط نسمة بتكلُّف عجيب، ثمّ يدخل لغرفة النوم فورًا.
وحضرتْ طنط كارمن، التي تسكن قريبًا منّا في توريل، بمُجرّد معرفتها بوجود طنط نسمة عندنا، ثالثتهما في صداقة الطفولة والدراسة.
كلّما رأيتُ "طنط كارمن" أتذكّر ابنها "باسم" فورًا. كنتُ أراه وسيمًا؛ بشَعْره الأسود الناعم الكثيف. أعجبتُ به من أوّل نظرة، لكنه كان خجولًاجدًّا، ولم يُبدِ اهتمامه بي، لا في الكنيسة، أو في أيّ مناسبة اجتماعية، جمعتْ بيننا، أرى في عينَي "باسم"، ببراءتهما، وملامحه المتناسقة، صورة الفتى الذي يعزل نفسه عن البشر، ليعيشَ في عالم، يخصّه وحده. يشبه شخصيات الكارتون الذكية، الذي يعيش طفولته وحيدًا، ويتفوّق في دراسته. واحد من أولئك الشباب الذين يمكن الرهان بسهولة أن الأمر سينتهي به طبيبًا مرموقًا في أمريكا أو أوروبا.
اصطحبت طنط كارمن، بالإضافة إلى ابنتها كاترين، نادين؛ ابنة أخيها الذي أسلم، لكي يتزوّج من زوجته المسلمة.
مثلّت العلاقة المختلطة في عائلة طنط كارمن، سببًامستمرًّا لدهشتي وفضولي. فنادين مسلمة، وكاترين ابنة عمّتها مسيحية. أمرٌ مدهش ولافت. وكان الفضول سيقتلني لأعرف كيف تتعامل العائلة مع الاختلافات التي تفرضها زوجة عمّهم أو خالهم المسلمة؟ وأحيانًا كنتُأفكّر هل يمكن أن تتزوّج نادية من ابن عمتّها "باسم" لو وقعتْ في غرامه؟
كنتُ ألتقي بكاترين في الكنيسة أيّام الأحد، ولأنها أكبر منّي عمرًا، عادة ما نكتفي بالتحية العابرة.
جلسنا مع ماما وطنط كارمن وطنط نسمة، نحن الفتيات الأربع، وضحكنا على قفشاتهنّ؛ التي كان بعضها فاحشًا، وبينما نحاول كَتْم ضحكاتنا التي تنفلت منّا، تفضح حُمرة وجوهنا إثارتنا.
صديقات ماما ينطقنَ اسمها بشكل سليم، "جورجيت"؛ بالجيم المعطّشة، بعكس الكثير من أهلنا حين ينادونها "مدام جورجيت" بالجيم المصرية الخفيفة، أمّا السّيّدات البسيطات اللاتي يأتينَ لمساعدتها في تنظيف البيت أو تسييح السمنة، فينادينَها ب"السّتّ أمّ كريسيتن"، ويبدو أننا اعتدْنا ذلك؛ لأني فُوجئتُ واندهشتُ عندما لاحظتُ أن طنط نسمة تنطق اسمها، كما ينبغي أن يُنطَق، بالجيم المعطّشة.
انسحبْنا إلى غرفتي، لنتبادل الحكايات عن المنصورة والقاهرة، وعن صديقاتنا ومعلّماتنا في المدارس، مع موضوعنا المفضَّل طبعًا: قصص الغرام والحبّ. وكانت علياء، رغم تحفُّظها، وصمتها أغلب الوقت المصحوب بابتسامة جميلة، تتدخّل في الحديث تعقيبًا على حكايات كاترين بنكتة، فأضحك، ليس لأن النكتة مُضحِكَة، بقَدر ما يعود للطريقة التي تُلقيها بها علياء، وبالمفاجأة التي يُحدِثها تحوُّلها من الصمت إلى المرح الساخر فجأة.

اقترحَتْ "كاترين" أو "كاتي" كما نُدلّلها، أن نذهب إلى النادي الاجتماعي الموجود داخل أسوار المجمع المعروف باسم "استاد المنصورة"، الذي كان يمثّل مقرّ "نادي المنصورة"، علمًا بأن رامي أخبرني أن نادي المنصورة الأساسي الذي يتدرّب فيه الفريق هو "نادي الشعب" في شارع بورسعيد.

بصراحة لم أحبّ أجواء النادي الاجتماعي أبدًا، فالفتيات اللائي أصادفهنّ هناك متأنقّات أكثر ممّا ينبغي، وأغلبهنّ يرتدينَ أزياء تُناسب سهرات "سواريه"، وليس مُجرّد خروجة عائلية في نادٍ، يتجمع فيه الأصدقاء أو الصديقات أو حتّى العائلات. ولم أفهم هل يقمنَ بالتّأنق المبالغ فيه لِلَفْتْ انتباه شباب العائلات الثرية في المنصورة ممّنْ كانوا يتردّدون على المكان للسبب نفسه؟ أم أنهنّ يتبارينَ في الاستعراض على بعضهنّ البعض. وفي الأحوالكلّها، لم تكن هذه الأجواء المُفتَعَلَة تناسبني.
ابتسمتْ نادين، وقالتْ، بسخرية، إن النادي الاجتماعي في المنصورة فعلًا يثير غثيانها، لأنه مكان مُتكلّف. قالتْ إنها من روّاد "نادي الجزيرة" في القاهرة، حيث تسكن في حيّ الزمالك، منذ عودتها من الكويت مع أهلها وهي في العاشرة من عمرها.
أمّا كاترين، فعلّقت ضاحكة:
* "يا ستّي، انتوا بلدكم كبيرة، إحنا حتّى النادي بتاعنا مالقوش مكان يحطّوا فيه السجن إلا قُدّامه تمامًا"!
وأبدتْ نادين دهشتها ونحن نضحك، فأخبرتْها كاترين بأن "سجن المنصورة" بالفعل موجود مباشرة أمام الاستاد.

أستدعي ضحكات أمّي مع طنط كاترين وطنط نسمة، وأتخيّل كيف كانت مصر زمان مجتمعًا متسامحًا حقيقيًا، لم يكن فيه أحد مشغولًا بدِين الآخرين، ولا مشغولًا بالسخافات التي يتبادلها الطرفان الآن، وكأننا أصبحنا شعبَيْن، نعيش في بلدٍ واحد، ولسنا جميعًا مصريّيْن.
ما يُبهرني في فكرة الرهبنة ما استمعتُ له من كلام بعض الراهبات، اللائي تعرّفتُإليهنّ، عن التسامح مع الأديانكلّها. المتديّن فعلًا يكون محبًّا للناس كلّها. أيضًا كنتُ سمعتُ أن كثيرًا من الأديرة تضمّ راهبات، أتينَ من بلاد أخرى في أوروبا وإفريقيا، وبدت بالنسبة لي معلومة مدهشة وغريبة، تُزيد من رغبتي في تحقيق حلمي المقموع بالرهبنة.
مملكة التناقضات
لم أكتبْ شيئًا هنا منذ فترة طويلة. لم يعد لديّ وقت. وأحيانًا لا أجد معنى لكتابة شيء هنا. كنتُ خطّطتُ لكتابة يومياتي وخواطري، لأفهم نفسي، لكنّي كلّ يوم أشعر بأنني أبعد ما أكون عن ذلك. كريستين جورج فَلْتَس، من تكون؟ وماذا تريد؟ بصراحة لم أعد أعرف.
مرّ وقتٌ طويل كما تبيّنتُ الآن منذ كتبتُ آخر مرّة. "زهقانة" من كلّ شيء. تسيطر عليَّ حالة مَلَل رهيبة. أذهب كلّ يوم أحد إلى "كنيسة السّيّدة العذراء" في توريل، من أجل "دروس الأحد" و"صلاة القُدّاس"، وبعد انتهاء هذا كلّه، أصبح هدفًا مكشوفًا للشباب الذين يتردّد الكثير منهم على الكنيسة للبحث عن عروس.
وبعد القُدّاس، حيث نخرج لفناء الكنيسة، أجدهم يقتربون، ويتسلّلون إلى مجموعتنا، كأنهم توقّفوا بجوارنا بالصدفة، وسرعان ما أجد من بينهم شبابًا، يقفزون أمامي بلا سابق إنذار، بسؤالٍ ساذج أو سخيف، حسب الشخص.
وبصراحة كنتُ ألاحظ تفاهة الكثير منهم، باستثناء "باسم" طبعًا، الذي، وعلى عكس الآخرين، لم يقترب منّي أبدًا، مع الأسف الشديد. ولذلك لم أتحمّس للرحلات التي تُوفّرها الكنيسة، لكنّي فقط كنتُ أتطوّع للأعمال الخيرية.
لم أفكّر في الزواج بهذه الطريقة، رغم كلّ ما يُقال عن الفرص المتاحة والأكثر أمنًا للتّعرّف على شباب في لقاءات الكنيسة.
هناك فترة فكرّتُ فيها أن أُحرّر نفسي من قوانيني الشخصية، وأمنح الفرصة لأيّ شخص يتودّد لي، خصوصًا بعد معرفتي ب "سالي"، حين اشتركْنا معًا في أحد الأعمال الخيرية التابعة للكنيسة.
أخبرتْني في رغبتها بالرهبنة. لكن الكاهن أكّد عليها ألا تفكّر في الأمر قبل أن يتقدّم لها عريس على الأقلّ، لأن الرهبنة ليستْ هروبًا من الحياة، ولكي يتأكّدوا من أنها مرّت بتجارب الحياة الطبيعيةكلّها، واختبرتْها، لكي تتأكّد من رغبتها في زهد ذلككلّه.
وكلّما فكّرتُ في الأمر بهذا الشكل، أقول لنفسي:
– "طيّب"، لنرى.
أتأمّل الشباب، لعلّني أجد من بينهم مَنْ يصلح حتّى لمشروع نصف إكليل فاشل. ثمّ بمُجرّد إحساسي بجدّيّتي في تنفيذ الفكرة، أنفر منها بسرعة.
فكرة "الجيتو" الدِّيني، مهما كنتُ متديّنة، مزعجة جدًّا بالنسبة لي. والكارثة إني لاحظتُ قبول الجيل الجديد الأصغر عمرًا، لفكرة "الجيتو" ربّما أكثر بكثير من جيلنا نحن. غالبيّتهم اليوم لا يصادقون إلا مسيحيّيْن. وخصوصًا مَنْ كانوا في مدارس الرهبان والراهبات.

في مدرستي "العائلة المقدّسة" لم نكن نشعر بالفرق أو الاختلاف بيننا وبين المسلمات أبدًا. حتّى الراهبات لم يكن يُفرّقنَ بيننا. واليوم حتّى الجيل الجديد من المسلمين أصبحوا، هم كذلك، لا يقبلون بوجود مسيحيّيْن بينهم، كما يقول لي رامي.
أخبرني عماد أنه كان يشعر بعكس ذلك في "مدرسة العناية الإلهية"؛ المدرسة الابتدائية التي التحق بها في "حيّ المختلط"، فقد كان يشعر بالتمييز بين الأطفال المسلمين القليلين الذين كانوا يدرسون في المدرسة، بالمقارنة مع أقرانهم المسيحيّيْن. سألتُهُ عن الوقائع، فأوضح لي نقله المقولة عن زميله "أحمد"؛ لأنه كان يضطرّ للنداء على الكاهن باسم "أبونا" كما نفعل. ولكني قلتُ له إنني لستُ مقتنعة بما يقول.
قلتُ له: "أحمد صاحبك ده شكله بيبالغ".
فهزّ رأسه بلا اكتراث. كان عماد مثاليًا، لدرجة لا يمكنه معها التّورّط في الكلام عن أيّ شخص في غير حضوره بالخير أو الشّرّ.

وربّما بسبب نفوري من ال "جيتوهات"، أشعر بالارتياح الشديد مع "جولي". فبرغم كونها مسلمة وفق ديانة والدها، لكنها شخصية غريبة، لا تهتمّ بفكرة الدِّين نهائيًا. وتستبدل بهفكرة الضمير. رُبّما بسبب نشأتها بين أبٍ مُسلم وأم مسيحية. تعرف عن الديانَتَيْن قَدْرًا لا بأس به، وتقول إنها أخذت منهما المشتركات: احترام الآخر، والالتزام بقِيَم الخير والحقّ.

أوضحتْ لي أنها ترتاح لي أيضًا، وراحتْ تحكي لي قصصها العاطفية بلا تحفُّظ. حَكَتْ لي قليلًا عن جلال، جارهم الأسمر اللطيف، وعن إعجابها بشخصيّته، لكنها استدركتْ موضّحة أنّها لا تأخذ هذه الأمور بجدّيّة. فهي تعرف أنّها عاجلًا أو آجلًا ستسافر لألمانيا، وتعيش بها. وعندما أبتسم لها بخبث، تقول:
– لن أنتظرَحتّى أذهب لألمانيا، لأعرف ما هو الحبّ، يا كريستين.
– عمومًا هذا أفضل ل "بَسَنْت".
ضحكتْ جولي، لأنها كانت تعرف بغرام "بسنت" الفاضح بجلال، وأنها لا تطيق جولي لهذا السبب.
جولي أيضًا من القليلات اللائي امتلكنَ درّاجة "سبورت" حديثة الطراز، وكانت تنزل إلى الشارع، لتقودها، بين راكبي الدرّاجات الشباب.
كانت تلك الفترة تبدو لنا الآن بعيدة، حين كنّا شلّة جيران، أعمارنا بين العاشرة وحتّى الثالثة عشر تقريبًا. رامي وجلال وجولي وعماد وعلي وبَسَنْت، وأنا معهم، وآخرون. حين كنّا نلعب ألعاب الشارع: "المنديل"، و"الأفلام"، و"صيّاد الحمام"، وأحيانًا نلعب في "حوش" البناية ألعابًا بالكرة.
ولم يكن خافيًا علينا نحن الفتيات لعب بعض الفتيان أو الشباب معنا فقط لمحاولة التّحرّش بالبنات. لكن البعض منهم كانوا محترمين، مثل رامي وعماد. وكنّا نتجمّع في حوش عمارتنا، لنثرثر ونضحك، أو لنلعب الورق أو "بنك الحظّ".
انتهى هذا كلّه الآن.. وكبرنا.
هل نطقتُ بكلمة "كبرنا" بطريقة تمثيلية؟
جولي انفرطتْ في الضحك وهي تقول لي: نعم، وصلنا الخمسين!
ضحكتُ بإحراج أوّلًا، ثمّ صعقتْني حالة ضحك هيستيري عندما بدأتْ جولي في تقليد الطريقة التي أتحدّث بها.
تعجبني شخصية جولي القوية، فعندما أحسّتْ أن علاقتها بجلال مُجرّد عَبَث طفولي، أنهت العلاقة فورًا وبحسمٍ شديد. أوضحتْ له أنهما في مرحلة جديدة من حياتهما، ولا بدّ لما بدأ في الطفولة أن ينتهي في الوقت المناسب.
لكنّي، على العكس، لم أتمكّن أبدًا من تحديد ما أريده بدقّة. حين صرّح لي رامي بمشاعره، رفضتُ في البداية. قلتُ له ما معنى علاقة لن يُكتَب لها الاستمرار، وسوف تكون مثار غضب أهالينا. لكنه قال لي كلامًا عجيبًا عن الحبّ الذي لا دِين له، والمشاعر التي لا تعترف بالاختلافات. وفي عروقنا يجري دم بلا دِين.
– طيّب، طيّب. قلتُ له.
وأضفتُ:
– وأنا شخصيًّا أعرف هذاكلّه، لكنْ، هل يعرفه أبي وخالي موريس الذي لا حديث له إلا عن خطف البنات المسيحيات في القرى، والكلام عن المشاكل التي يُسبّبها المسلمون لجيرانهم المسيحيّيْن؟ طيّب. حتّى لو افترضنا أن خالي موريس متطرّف، فهل تعرف هذا الكلام العظيم عن التسامح نصف عائلتكَ، يا رامي؟ أخبرني فقط عن ردود فعل خالتكَ "طنط دُرّيّة" مثلًا، أو خالكَ "عمّو محسن"؟

لكنه لم ييأسْ. قال إنه يُحبّني، ولا يتصوّر الحياة من دوني. ولا يُصدِّق في الاختلافات بين البشر، بسبب الدِّين أو العقائد. قال إنه ليس مستعدًّا لخسارة حبّ حياته، بسبب أوهام المتخلّفين، وصدّقتُهُ. فقد رأيتُ ما يقوله في بريق عينَيْه، وسمعتُ صوته متحمّسًا وصادقًا.

رامي أيضًا صاحب شخصية قوية جدًّا، ومغامر، وصارم، ويبدو قاسيًا، لا يجيد التعبير عن مشاعره، ولكن طريقته العاطفية في الكلام معي جعلتْ شيئًا في قلبي يرقص لكلماته.

وحين يرقص قلبي من شدّة الغرام، أفكّر في صديقاتي. في قصص حبّهنّ التي أعرف جيّدًا. ولم تُحيّرني إلا جاكلين في مشاعرها العاطفية. فهي تعرف جيّدًا ما تريد، رغم رقّتها الشديدة وطريقتها الناعمة، مثلها في ذلك مثل جولي. لا تسمح لسيطرة مشاعرها على أفكارها.
تقول: قلوبنا خُلقتْ، لكي تلعب بنا. لكنْ، لو استخدمنا عقولنا، فسوف نلعب نحن في النهاية اللعبة الحلوة.
بصراحة، هناك عشرات من الشباب الذين عرفتُهُم في الكنيسة، لم أشعر تجاههم بأيّ مشاعر، بعضهم مثل إخوتي. وكانوا يعرضون مساعداتهم لنا أنا وأمّي، بإيعاز من أمّهاتهم اللائي كنّ يطلبنَ منهم المرور علينا، لسؤال أمّي إذا كانت تحتاج إلى شيء من البقالة؟ أو خبز من الفرن؟ وبعضهم يصحبونني للدروس.
لكنهم جميعًا لم يصلوا لقلبي، بعكس رامي، الذي حرَّكَ مشاعري، بشكل غريب.
أسمع قلبي في الليل، لأني أُصدِّقه وهو يقول لي إن الحبّ لا يعرفه الإنسان في حياته إلا بالصدفة، وبالحظّ، وقد يمرّ عليه، ولا يعرف بوجوده، فيفقده للأبد.

كلّما جاءت سيرة الحبّأتذكّر جاكلين. هل ستكون سعيدة حقًا، لأنها تزوّجت مبكّرًا، قبل الانتهاء من دراستها الجامعية، لكي تعيش في أمريكا؟
ربّما ستُعوِّضها أمريكا عن الحبّ، وعن تعب الأمومة وتضحياتها، وسوف يحصل أولادها على الجنسية الأمريكية بالتأكيد، كما ستصبح هي أيضًا أمريكية بالضرورة، وبكلّ ما يعنيه ذلك من ضمانات لها ومستقبل أولادها. لكنْ، هل ستُعوِّضني المنصورة شيئًا؟
دائمًا أتمزّق بين أشياء بعيدة عن بعضها البعض. أتوق للرهبنة، والآن أترك نفسي لأقع في غرام مسلم. أحبّ جاكلين جدًّا، وأعدّها صديقة عمري، بينما أنتقد سلوكها العملي المبالغ فيه.
أحبّ أبي جدًّا، وأشعر به كصديق. يحاول دائمًا تعويضي عن الإحساس بالوحدة، من دون إخوة أو أخوات. لم أشعر أنه متسلّط، كما أعرف عن الكثير من صديقاتي اللائي يعانينَ في علاقاتهنّ بآبائهنّ. كان دمثًا ولطيفًا جدًّا، على عكس أمّي التي تبدو أكثر صرامة، ومع ذلك أُناكفُها وأُناوشُها باستمرار. وبالرغم من ذلك، أشعر أنه بعيد جدًّاعنّي، ولا يمكنه أن يفهمني.
أحيانًا أرى نفسي كنصف شيطانة ونصف ملاك. لا أعرف مَنْ أنا، وماذا أريد. أقول إنني أبحث عن الحقيقة، فأقرأ "الكتاب المقدّس"، وسيرة الرُّسُل والقدّيسين، وأحصل على العِبَر. لكن شيئًا في قلبي يُحدِّثني بأن الحقيقة ليستْكلّها هنا. ولا في مكان آخر.
رامي يقول لي إني يجب أن أقرأ كُتُبًا علمانية: روايات، وكُتُبًا علمية وفكرية. يقول: قراءة الأديان وحدها لا تجعلنا نفكّر بشكل منطقي وعقلاني. وأنا أُصدِّقه. أحتاج فقط إلى وضع خطط للقراءة.
ليالي رأس البرّ
لن أبالغ إذا قلتُ إن رامي أخبرني أكثر من ألف مرّة إني أعيش في صوبة مَحميّة آمنة، ولا أعرف شيئًا عن العالم الحقيقي، ولا أعرف عن المنصورة نفسها، التي عشتُ بها حياتيكلّها حتّى الآن، شيئًا.
ربّما معه حقّ. ولم يكن الأمر بيدي. فتيات الطبقة الوسطى في المنصورة كلهنّ تقريبًا يعشنَ المأساةنفسها. فالمجتمع الذُّكُوري من حولنا يمنعنا من الذهاب إلى السينما مثلًا، كما لم يكن ممكنًا أن نتمشّى وحدنا في أماكن كثيرة.
يُعدّد رامي ساخرًا حدود حركتي في المنصورة، التي لا تزيد عن دائرة توريل، حيث نسكن، أو عبورًا للجهة الأخرى من "مبنى المحافظة"، إلى حيّ "المُختَلَط"، حيث تقع مدرستي، أو بيوت بعض العائلات من أصدقاء ماما الذين نزورهم. وحتّىحيّ "الحسينية"، على جانبَي "شارع حسين بك"، الذي تنتشر ورش الحِرَفِيّيْن على جانبَيْه، حيث يسكن خالي موريس، لم نكن نذهب إليه إلا نادرًا، وأقصى ما يمكن أن نذهب إليه لا يتجاوز زيارة الدَّيْر وكنيسة "مار جرجس" في شارع بورسعيد، أو شارع "السِّكَّة الجديدة" لشراء حذاء جديد أو فستان لي أو لماما.
وكنتُ أقول له إنني لا أهتمّ بالمناطق الشعبية التي يتردّد عليها. أقول له: وماذا سأستفيد إذا عرفتُ "عزبة الشال"، أو "شارع السلخانة" أو "سوق الجُملة" و"المَجزَر الآلي"، حتّى "شارع محمّد فتحي"؟ أو "شارع المديرية"؟ ماذا سيتغيّر في حياتي إذا تعرّفتُ على خرابة من الخرابات التي تتعاطون فيها الحشيش، يا رامي؟ ما هو الشيء العظيم الذي سيفوتني رؤيته في "قولونجيل" مثلًا؟ ماذا سيفوتني إذا ما عشتُ حياتي كلّها من دون أن أرى "شارع صيام"؟ يعني في النهاية ليس شارع "الشانزليزيه". ويأخذ في الضحك، ويقول:
– لا،طبعًا، فاتِكْ كتير، يا بنتي ده أجمل عوالم وراقصات المنصورة كانوا عايشين في الشارع ده.
أُكوِّر قبضة يدي كأنني سألكمه، فيبتعد ضاحكًا.
وأُذكّره بأن المقاهيكلّها التي يتردّد عليها لا تجلس إليها البنات. المقاهيكلّها لا تضمّ إلا الشباب، والكهول، عالم الرجال. فأين نذهب نحن؟
مع ذلك، كنّا نتردّد على المَشّاية العُلوية ل"هابي لاند" الذي كان منتزهًا عائليًا، نذهب إليه أحيانًا مع ماما وصديقاتها. ومن "المَشّاية" العُلوية نهبط، لنصل إلى كوبري القطار إلى حيّ "طلخا"، في الجهة الأخرى من النهر، الأكثر هدوءًا، خصوصًا منطقة الحيّ السَّكَني الذي يضمّ بيوت الموظّفين والعاملين في "مصنع السماد"، الذي يمتلئ بالعمارات الأنيقة والأشجار.
وأحيانًا، واغتنامًا لفرصة وجود "عماد" معنا، نتمشّى بمحاذاة النيل من مبنى المحافظة وحتّى "كازينو النيل"، الذي يبعد عن كوبري طلخا المخصّص للسّيّارات عدّة خطوات، ونعود مشيًا. بل إننا ذهبنا في شلّة كبيرة ومعنا نادية مرّة إلى مطعم "وِمْبي" حين افتُتح لأوّلمرّة أمام الجامعة.
حياتنا في المنصورة، أغلبها تقوم على الزيارات المنزلية. فقُرب البيوت من بعضها يجعل الزيارات العائلية اليومية أمرًا طبيعيًا. وكذلك زيارات البنات لبعضهنّ البعض. أغلب أفراد عائلة ماما يعشنَ في توريل والمختلط، أو السِّكَّة الجديدة.
وأحيانًا تقرّر الأمّهات الذهاب ل "نادي التجديف" المُطلّ على النيل مباشرة، في طلخا، وعادة ما كنّا نكتشف أن تلك اللقاءات غالبًا ما تكون خطّة من الأمّهات ل"لقاء صدفة" بين واحدة من البنات مع شابّ، يعرف الجميع أنه مشروع عريس، بحيث يتعرّف الفتى والفتاة على بعضهما بشكل ما.
أمّا الحُرّيّة الحقيقية بالنسبة لي، فتتمثّل في "رأس البرّ"، المَصيف المعتمد لأغلب أهل المنصورة، رغم قُربها من دمياط، وبالذات لمَنْ كانوا لا يحبّون أو يُفضِّلون مصيف "جمصة" مثل عائلة بابا وماما.
لم يكن مسموحًا لنا السباحة في البحر إلا في الصباح الباكر، تقريبًا منذ وصلنا مرحلة البلوغ، بالأحرى منذ تشكّلتْ أجسادنا، وأصبحت في نظر أهالينا والمجتمع "مثيرة". في المقابل، هناك خروجات يومية للشاطئ، حيث نقضي طول النهار في مرح وتمشية ورياضة، واستمتاع بالهواء، والآيس كريم، وحتّى مغازلة الشباب لنا من بعيد لبعيد.
ومساء بإمكاننا الذهاب إلى "شارع النيل" لنتمشّى أو للجلوس على أحد الكازينوهات، وتناول الكُشَري في المطعم المزدحم باستمرار، أو الوصول حتّى إلى "منطقة اللسان" في نهاية شارع النيل، والاقتراب من الأمواج التي تضرب الصخر بقوّة، ومراقبة النقطة المائية العجيبة التي يلتقي فيها نهاية مصبّ نهر النيل مع البحر المتوسّط.
وأحيانًا نذهب إلى "السوق الكبير" لتناول الفطائر الدمياطية الشهيرة، ثمّ نتجمّع في مقهى من المقاهي، حيث يلعب الشباب النرد، ونحن نتابعهم، بينما نتناول الشاي بالحليب الشهير في مقاهي رأس البرّ، أو أيّ مشروبات أخرى، أو نستغرق أنا وكاترين ابنة خالتي في حكايات النميمة التي تشغلنا.
كان مسموحًا لنا في "رأس البرّ" الخروج، كبنات، بمفردنا، فأبناء وبنات خالاتي غالبًا ما يشاركوننا فترة المصيف كلّها تقريبًا، فنخرج معًا، ونتمشّى، ونمزح ونضحك، ونلعب، وأحيانًا لنسهر على شاطئ البحر حتّى الفجر.
كانت مدينة آمنة، وخفيفة، والجميع فيها غير متكلّفين. وهذه البساطة مثلّتْ لنا سرّ جاذبية رأس البرّ باستمرار، وغوايتها.
وعندما كبرنا وتجاوزنا مرحلة المراهقة، كنّا نذهب إلى "كازينو الدولفين"، الذي اعتدْنا الذهاب فيه لمشاهدة والاستماع إلى فرقة غنائية من المنصورة، يغنّون فقط أُغنيّات أجنبية راقصة ورومانسية. وكنّا نرقص على أُغنيّات ال"روك آندرول" وال"ديسكو"، حيث يحاول الشباب تقليد رقصات "جون ترافولتا"، ونحاول نحن تقليد "أوليفيا نيوتن جون"، بينما أعيننا لا تنزل من على مطرب الفرقة الوسيم، أو الجيتاريست، صاحب الشَّعْر الأشقر، الشارد باستمرار، والذي لا يغنّي إلا أُغنيّة واحدة هي "I'm Leaving on a Jet plane"لجون دينيفر. وكنتُ أبكي كلّما سمعتُها!
رامي كان يحكي لي أنه حضر أيّامًا، مع خاله محسن قبل أن يتديّن، كان يتردّد فيها على ملهى، يقع على البحر مباشرة في "شارع 51″، اسمه "الفواييه".
كانت ليالي رأس البرّ تعني لنا الحُرّيّة، وصوت الموج، ونسيم البحر البارد ليلًا في عزّ يوليو وأغسطس، وأكل الفطاير الدمياطية و"المحلب"، والآيس كريم، والبساطة والضحك من القلب، وراحة البال، وتجمّع العائلة من الأجيالكلّهم، وموسم انتظار شباك صيّادي طيور "السّمّان" في سبتمبر التي تُوضَع قريبًا من الشواطئ لاصطياد الطيور الهالكة من إرهاق رحلة هجرتها الطويلة، وحكايات الغرام الصيفية، ولذلك كنّا نتذكّرها طول السنة، وننتظرها أيضًا بترقّب بمُجرّد انتهاء فترة الامتحانات.
في رأس البرّ، لم تكن هناك محظورات.
ملاكي الحارس!
مرّ أكثر من شهرَيْن وأنا أحاول استيعاب موت عماد. حتّىطَوَال فترة مرضه، كنتُ أُردّد أنها محنة، وسوف تمرّ، واثقة من يقيني في حنان الرّبّ."حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّبُّ".(سِفْر المزامير 111: 4).
يقيني في رحمة الرّبّ كان يجعلني على ثقة بابتعاد روح عماد عن ملاك الموت. لكني عدتُ أقول، باليقين نفسه، ربّما يكون في موته رحمة له. عماد الذي كلّما رأيتُهُ يراودني الشعور بنسمة هواء خفيفة تمرّ على المكان. لم أعرف شخصًا في أخلاقه الرفيعة، وطيبة قلبه وتواضعه. قلتُلعلّه من الأبرار الذين سينعمون بالحياة الأبدية، فبعد عودة جسده للتراب، ستذهب روحه إلى السماء.

لكنْ، عندما سمعتُ خبر موته، أخذتُ أصرخ كالمجنونة من شدّة المفاجأة، ناسية الأفكاركلّها التي أُعزّي بها نفسي. مات، وتركنا جميعًا في هذه الحيرة والألم. ألم فقدانه، وألم التفكير في الحياة وما بعد الحياة. تركنا لمشاعر غريبة. مزيج من الخوف، والدهشة والألم والرعب.
نظنّ الموت بعيدًا عنّا. ونعدّ أنفسنا شبابًا، لم نعش الحياة، ولم نعرفها بعد، ونَعِد أنفسنا بحياة ممتلئة بالأمل والأحلام. لكننا رأينا الموت قريبًا جدًّا، أقرب ممّا نتخيّل، وشبحه مختبئ حولنا، حيث لا نتوقّع، يمكنه اختطاف مَنْ لا نتخيّل في لحظة.

استعدتُ أوقاتنا الجميلةكلّها معًا، وبالذات، الشهور الأخيرة، التي سبقتْ مرضه الغامض، الذي التهمه ونحن لا نملك شيئًا لنفعله. آه، يا قلبي. يا حبيبي، يا عماد، لا أستطيع محو لحظات غياب جسده في التابوت ودفنه من خيالي. هذا المشهد يحطّم قلبي.
ظلّت الأسئلة عن مآل روحه، وإذا ما كان يشعر بنا أو يرانا تجعلني أجنّ، خصوصًاكلّما تذكّرتُ محاولات طنط رجاء، أمّ عماد، السيطرة على بكائها، ومنظر عمّي رؤوف، وهو يبدو كأنما كبر في العمر عشرين عامًا في تلك اللحظات. وكنّا جميعًا، شبابًا وبنات "شلّة توريل" نقف أمام المقبرة والحزن الذي لم أعرف ملامحه على هذه الوجوه ينحفر عليها جميعًا بقوّة.
جولي وضعتْ نظّارة سوداء، ووقفتْ تنشج في صمت، لكنها، بعد لحظات، خلعت النظّارة، ورأيتُ عينَيْها الحمراوَيْن، ثمّ بدأتْ تقول بصوت مرتجف "مش قادرة أصدِّق.. مش قادرة.. يا حبيبي، يا عماد"، ثمّ أجهشتْ، وأخذتُها في حضني، وكأنني وجدتُ فرصتي لكي أبكي البكاء المُرّ الذي لم أبكِ أحدًا به من قبل.
كان عماد هو الذي يعرف تفاصيل علاقتنا أنا ورامي. ولهذا كنّا نفضِّل أن نتمشّى ونخرج معًا في الفترة الأخيرة. خصوصًا بعد الدروس الخصوصية، فقد كان عماد وجولي لهما تأثير السِّحْر على بابا وماما، بالإضافة إلى أن عمّي رؤوف وطنط رجاء كانا يعرفان ماما وبابا من الكنيسة.
فإذا مرّ أيّ منهما عليّ لاصطحابي للدروس لا يمانعان. كانا يثقان فيهما ثقة عمياء، خصوصًا وأن أبي مشغول في الصيدلية باستمرار، وأمّي لا تريد إحراجي بأن توصلني بنفسها للدرس.
اعترف عماد لي مرّة بحبّه لنادية؛ توأم رامي. ولم أعرف ماذا أقول له. كانت نادية بعيدة عنّا بشكل ما. ومشغولة بدراستها بشكل يقترب من المرض. وطبعًا حتّى الفكرة لا يمكن أن تخطر على بالها.
فمن معرفتي بها من خلال ما يحكيه رامي، إنها حتّى لو أُعجبتْ به، فلن يمكنها التساهل مع مشاعرها. فكرة الدِّين بالنسبة لها، كانت خطًّا أحمر، لا يمكن تجاوزه حتّى لو بمغامرة عاطفية. لم أشعر أنها مثل رامي الذي كان منخرطًا في حياتنا، والذي كثيرًا ما حدّثني برغبته في زيارة القُدّاس معنا، حريصًا على مشاركتنا ليالي الأعياد، خصوصًا في "أحد السعف"، بعد الخروج من الكنيسة.
ولا يتردّد في الذهاب معي للكنيسة، لنُشعل شموعًا من أجل عماد، كما فعل عندما رافقني مرّة بعدما انتشر خبر تجلّي ستّنا "العدرا" في إحدى الكنائس.
تذكّرتُ هذه اللحظات التي كان عماد يتحدّث فيها إليَّ كاشفًا السّرّ الذي يدفنه في صدره؛ عن حبّه لنادية أكثر من مرّة. وشعرتُ بالألم يكاد يمزّق قلبي، وتَتَرَقْرَق الدموع في عينَي. تذكّرتُ صورة بكاء خالته "طنط تيريزا" على شبابه الضائع. كانت تبكي بحرقة، جعلت الكثيرين يظنّون أنها هي أمّه.
لم أقعْ في غرام عماد لإحساسي به كأخ منذ صغرنا. لم يمرّ علينا عيد إلا وهو معي. الذهاب للدروس، والعودة منها. كان ملاكي الحارس الحقيقي.
حتّى المرّة التي تَشجّع فيها، وباح لي، ونحن أصغر عمرًا، بحبّه، واقترب منّي في بيت الطيور في "حديقة الحيوان"، تردّدتُ أوّلًا، ثمّ اقتربتُ منه، وقبّلتُهُ في شَفَتَيْه، لكني لم أشعر بالحرارة التي كنتُ أسمع عنها. ربّما تأثّرتُ بشَفَتَيْه الرطبَتَيْن ومَلمَسهما على شَفَتَيّ، وبحُمرة وجهه في تلك اللحظة، وفي إحساسي بأننا نفعل شيئًا سرِّيًّا. لكنْ، بعد أيّام قليلة أخبرتُهُ أنني أحبّه فعلًا، ولكنْ، كأخ وكصديق مقرّب جدًّا، إن لم يكن الأقرب على الإطلاق.

أمّا الآن، فماذا سأفعل؟ ما معنى أن أعيش علاقة حبّ أساسًا؛ مع رامي أو أيّ شخص آخر، وعماد في عالم آخر؟ هل هناك جدوى من الإحساس بالسعادة وشخص مثل الملاك مثله قد اختفى من حياتي للأبد؟ ما معنى الحياة كلّها؟
سأذهب إلى الدَّيْر هذه المرّة، ولن تمنعني أيّقوّة عن ذلك. سأكون متدرّبة لأربع سنوات، ألا تكفيهم أربع سنوات حتّى يُصدِّقوا أنني مُؤهّلة لحياة الرهبنة؟
لا بدّ من التّسلّح بالعناد اللازم للأمر هذه المرّة، فربّما وجدتُ في الدَّيْر الإجابات عن أسئلتي التي لا إجابة لها.

زمنُ الحبّ
هل هذا هو الحبّأخيرًا؟ زرتُ رامي اليوم في بيتهم. رأيتُهُ، فخفق قلبي. سنتان تقريبًا، لم أره خلالهما. بدأتْ تلك الحقبة الدرامية بالاكتئاب الشديد المستمرّ لأكثر من ستّة شهور بعد موت عماد، ثمّ في فترة التفكير الجدّيّ في الرهبنة، قبل ذهابي إلى الدَّيْر بالفعل، والذي خرجتُ منه، للأسف، بعد تجربةٍ مؤلمة، لا يمكن أن أُصدِّق حدوثها لي أو لغيري.

أمّي وأبي استقبلا الخبر بمرارةٍ، ولكنْ، بفرحٍ مكتوم أيضًا. لم تكن لأمّي القدرة على تخيُّل حياتها وحيدة للأبد من دوني، وحين تركتُ البيت للذهاب إلى الدَّيْر، بعد اتّخاذ القرار، لم أخبرهما كما هو مُتّبع، اعتمادًا على سبق معرفتهم برغبتي هذه. لم يكن لديّ شكّ في أنها ستنهار حين تعرف بالأمر، ولكني كنتُ أدعو البتول أن تعينها على افتقادي.
أخبروني أنني لا يمكن دخولي للدير حتّى كمتدرّبة، وأخبرتْني كبيرة الراهبات أنها تحدَّثتْ مع الكاهن ليقبلوني في خلوة، لا تزيد مدّتها عن شهر. قالت لي أن تلك الفترة رغم قصرها قد لا تكون نفس الدير الذي تقدمت بالطلب للرهبنة فيه، قالت:قد يختار لك دير بعيد تماما، في صحراء الإسكندرية أو حتى في سانت كاترين، ثمّ ابتسمتْ قائلة:

* "استحملي انتي بَسْ الشهر ده، يا بنتي".

نعم، حدست الراهبة ما سيكون عليه مستقبلي في الدَّيْر الذي اختير لي. ولم أتحمّل بالفعل كما تكهّنتْ هي، لكن السبب كان مختلفًا تمامًاعمّا قدّرتْهُ هي.
حين رأتْني أمّي أمامها في البيت، أخيرًا، كاد أن يُغشَى عليها. رأيتُ على ملامح وجهها تعبيرًا غريبًا. كَمَنْ يرى ابنه بعد غياب الموت! لكنْ، في الوقت نفسه، حاولتْ التماسك، كي لا تكشف عن سعادتها بتخلّي ابنتها عن الرهبنة. فراحتْ تبكي مثل طفلة تتألّم. لم أُخبرها بأيّ تفاصيل، وقلتُ لها باقتضاب: "لم أتحمّل التجربة، اكتشفتُ ضعف قدراتي الروحية، لكي أستكمل حياتي كراهبة".
نادتْ على أبي بهلع وهي تقول له: بنتك رجعت، يا جورج. بنتك رجعتْ لنا.

خالي موريس طبعًا كان سيُصاب بالجنون، وحاول إقناعي بالعودة للدَّيْر بأيّ شكل. لم أردّ عليه، وتجنّبتُ الكلام معه في الموضوع بشكل حادّ وحاسم.
لكن أمّي التي ما صدّقتْ أنني عدتُ إليها أخيرًا، حسمتِ الموقف، وطالبتْهُ بعدم التّدخّل في شؤون حياتنا، فخرج من البيت غاضبًا.
وصرختْأمّي بسخرية وغضب:
* مساكين بناتك وأولادك، يا موريس، هَتْجَنّنهُم بالشياطين اللي ما حَدِّش شايفهُم غيرك!

أمّا أبي، فراح يُربّت على كتفي، ويمسح شَعْري بكفّه، كَمَنْ لا يُصدِّق أنه يراني أمامه أخيرًا. كعادته لم يُعبِّر عن مشاعره إلا بطريقته الهادئة، ووصلَني إحساسه بالسعادة بعودتي للحياة مرّة أخرى. كان عليّ العودة للتركيز في دراستي فقط، وليس في أيّ شيء آخر.

راجعتُ مسيرة حياتي وأفكاري خلال السّتّ شهور الماضية، وبعدها وجدتُ صورة رامي تُلحّ على ذهني بشكل مستمرّ. أحسستُ بافتقاده، وانتابني شعور قويّ بأن علاقتي به تمثّل الشيء الحقيقي الوحيد الباقي في حياتي. اكتشفتُ أن انفصالنا عن بعضنا قد مرّ عليه الآن أكثر من عام ونصف تقريبًا. وربّما عامَيْن. لم أعد أذكر بالضبط.
ابتعدْنا عن بعضنا البعض بسبب الاكتئاب الذي سيطر على حياتنا، والإحساس بالعَبَث واللاجدوى. تجنّب كلٌّمنّا الآخر لفترة حتّى لا نعاني من تذكُّر عماد. لكن الأيّام أخذتْنا، كان موت عماد قاسيًا، لدرجة أنه،تقريبًا، فَصَلَنَا عن أشياء كثيرة في الحياة.
مرّتْ أربعة شهور بعد وفاة عماد حتّى تمكّنتُ من دخول الدَّيْر، ثمّ توالت الأحداث.ولكني لم أشعر أنني مستعدّة لرؤيته بعد. كنتُ أشتاق إليه بشكل رهيب، لكني كنتُ أحتاج للمزيد من التّأنّي. عامان يمكن أن يمرّ فيهما الإنسان بخبرات، قد تغيِّر حياته كلّها، ولا شكّ في أنه ليس الشخصنفسه. أنا أيضًا أشعر بأنني لستُ الإنسانةنفسها التي كنتُ عليها قبل الذهاب إلى الدَّيْر.
احتجتُ إلى شهرَيْن آخرَيْن حتّى استطعتُ استعادة إيقاع الحياة بعيدًا عن الدَّيْر. وظلّ إحساسي بالاشتياق لرامي كبيرًا.
من خلال بعض الصديقات القدامى عرفتُ أنه تديّن، وأطلق لحيته لفترة. وأكّدتْ لي صديقة أنه كان قريبًا جدًّا من جماعة الإخوان المسلمين. وأنه اختفى عقب اغتيال الرئيس السادات. ثمّ بدأ يظهر تدريجيًا. ويبدو أنه ابتعد بعدها عن الجماعات. رأيتُ جولي، فقالتْ لي إنها لم تعد ترى أحدًا من الشّلّة منذ فترة، لكنها تتابع الأخبار من بعيد. وقالتْ لي إنها سمعتْ أن رامي وقع في غرام فتاة يونانية، ولكنها ليستْ متأكّدة من الأخبار. قالتْ لي إنها تستعدّ للسفر لألمانيا قريبًا.
اندهشتُجدًّا عندما سمعتُ الأخبار. لم أُصدِّق أن رامي يمكن أن ينضمّ لجماعة متشدّدة يومًا. دعتْني تلك الأخبار للتّريّث. لا أريد أن أبدو مندفعة، وأخشى أن تكون مثل تلك الظروف دافعًا له، لكي يتجنّبني حتّى في المستقبل.
عندما أحسستُ بأنني مستعدّة لرؤيته أخيرًا، لم أفكّر في الاتّصال به، بل ذهبتُ لزيارتهم في البيت. وضعتُ يدي على جرس الباب الذي أخذ يُطلق رنينًا متواليًا، يشبه صوت الكروان، وبعد قليل، فُتح الباب، وأطلّ وجه نادية. اقتربتْ منّي بلهفة، واحتضنتْني بشوقٍ ومحبّة. دعتْني للصالون المواجه لباب شقّتهم، ومررتُ بارتباك في ممرّ صغير مفصول عن الشّقّة ب"بارافان" خشبيّ فارسيّ النقوش والرسوم.
انتظرتُ قليلًا وأنا أشعر بارتباكٍ شديد، حتّى سمعتُ صوت رامي يرحّب بي، فالتفتُّ إلى باب الصالون، ورأيتُهُ، بمظهره الرجولي الذي أحبّ، ووسامته التي زادتْها في نظري لحية خفيفة، أطلقها بلا مبالغة، وشذّبها جيّدًا.
نهضتُ أُسلّم عليه بابتسامة خافتة، وخامرني شعور بسعادة غامرة لرؤيته، وددتُ الارتماء في حضنه. لكني تماسكتُ، بسبب وجود نادية. أمسك يدي، واقترب منّي، وقبّلني. تركتُ له خدّي، بفتور وتحفُّظ، بسبب نادية طبعًا. أحسستُ بكفّه تمسك يدي بقوّة.
أحضرَتْ نادية عصيرًا وفاكهة وشايًا، ثمّ تركتْنا بعدها، وهي تقول بارتباك إنها ستنتهي من بعض المهامّ الخاصّة بدراستها، وتعود لنا. كان ينظر لي بابتسامة جميلة، ولاحظتُ شَعْره الطويل الذي انسدل على رقبته، وصفّف مقدّمته في شوشة كبيرة غريبة.
لم أرغبْ في الإجابة عن أسئلته عن موضوع الرهبنة والحياة في الدَّيْر وأسباب خروجي منه. رفضتُ التعليق، وأكّدتُ عدم رغبتي في الحديث في الموضوع. سألني إذا كانت لديّ رغبة أن أعرف شيئًا عن تجربته التي مرّ بها حين تديّن وانضمّ للجماعة الإسلامية. لكني أيضًا رفضتُ.
قلتُ له إنني لا أريد سماع أيّ شيء عن الأديان. وبُهِتَ وهو يتأمّلني بقلق، وكأنه يحاول تخيُّل ما حدث لي، وجعلني أصل إلى هذه الفكرة، وبهذا العناد. لكني هربتُ بعينَيّ إلى الأرض.
بمرور الوقت، ومع إصراره على الحكي عن أحوال بعض أصدقائنا المشتركين، كان هناك إحساس جميل يتسلّل لروحي. نوع من الدفء والاطمئنان، وابتسمتُ لبعض قفشاته.

عندما استعدْنا سيرة عماد، انخلع قلبي حين سألني إذا ما كان ذلك يسري أيضًا على زياراتنا المشتركة للدَّيْر لإشعال الشموع لعماد؟ ونزلتْ دموعي وأنا أهزّ رأسي بتصميم وأسى وعناد وقهر. وانهرتُ في البكاء، فأخذني في حضنه، ووجدتُ نفسي أهمس في قلبي. "أنا أحبّ هذا الفتى الطّيّب الحنون". ويبدو أن بكائي لَفَتَ انتباه "عمّي حسين" و"طنط سلوى" أمّ رامي، فجاءا ليُسلّما عليّ بعد تأكّدهما من وجود نادية معنا أنا ورامي.

بكيتُ على عماد، لكني أيضًا استدعيتُ تجربتي المؤلمة. فما مررتُ به ليس إلا تجربة ممّا ندعو الرّبّدائمًا أن يجنّبنا، في الصلواتكلّها. لكنها كانت قاسية، ولا يمكن أن تُصدَّق.
أفكاري الرومانسيةكلّها تخذلني يومًا بعد آخر، وحتّى الآن وبعد تجربتي الدرامية في الدَّيْر، أصبح بإمكاني القول: ما كان من الممكن التّحمّس له بجنون دفاعًا عن عكسه في الماضي.
نعم، ومع الأسف، فحتّى بعض الكَهَنَة قد يصيبهم الضعف، حتّى في داخل الدَّيْر. لكنْ، حين يضع المرء حياته كلّها من أجل فكرة، وسرعان ما تتزعزع بسبب قليلي الإيمان، أو ضعاف النفوس، فيمكن أن تهتزّ ثقة الإنسان، ليس فقط في هذا الشخص أو ذاك، بل فيما هو أبعد من هذا كلّه، وصولًا للعقيدة. أنا الآن ناضجة، وأفهم أن فكرة الضعف الإنساني مقبولة، لكن اختبار تجربة في المكان الذي يثق فيه المرء أنه لا محلّ فيه للضعف البشري، يجعلها فعلًا لا تُصدَّق.
كنتُ صغيرة على مثل هذه التجربة. أخبروني أوّلًا باستحالة قبولي كراهبة قبل انتهائي من دراستي، بل وحتّى قبل ممارسة عمل، يُحقّق لي دخلًا. قلتُ لهم سأفعل المستحيل.
أخيرًا جاءت الراهبات لإقناعي. قلتُ لها جدي لي حلًا، يا أمّي المباركة، أيّ حلّ. وبعد تفكير عميق،قالتْ لي:
* الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها قبول دخولكِالدَّيْر هي الخلوة. سنمنحكِ فرصة للخلوة في الدَّيْرلمدّة شهر. ولم أكن أحتاج لأكثر من هذا. وقلتُ لنفسي إنها ستكون كلّها صلاة من أجل عماد.
طبعًا كانت التجربة أقسى بكثير ممّا توقّعتُ. ليس فقط بسبب الأعمال التي تبدأ من الصباح الباكر،وحتّى وقت الصمت في المساء. ولا للمساعدة في أعمال الطهي، بعد حضور القُدّاس الصباحي والصلوات، ولا لأن الطعام أغلبه عدس وبعض البقول. لكنْ، لأسباب أخرى، لم يكن ممكنًا أن تدور في خلدي، ولا في أسوأ الكوابيس.
كيف يمكنني الدعاء للرّبّ أن يُنجّيني من الشّرّير، إذا كان شرّيرٌ منهم قد تمكّن من الدخول إلى بيته!
كانت لديّ حساسية كبيرة من التفكير في جسدي وفي الجنس، منذ عمر المراهقة. فإذا بي أجد نفسي مشتهاة في المكان الذي لا يمكن تخيُّل شيء كهذا فيه. وفي أحوال كهذه، تنتهي الأزمة بمُجرّد تقديم شكوى للرهبان الكبار، ويتمّ إبعاد الكاهن المخطئ. ولكني كنتُ مُتطرّفة المشاعر. لا أقبل بالحلول الوسط.
لم يكن أمامي إلا قرار الخروج من الدَّيْر. لكن الخطأ الذي ارتكبتُهُ هو الكلمات، مُجرّد إعلاني أنني سأترك الدَّيْرحتّى لو اضطُررتُ لتغيير دِيني. لم أقصد الكلام حرفيًا بالطبع، لكني قلتُهُ من شدّة الغضب، فقامت القيامة، وانقلب الجميع ضدّي في لحظة، الكَهَنَة والراهبات. وإزاء هذا التّعسّف الذي وُوجِهتُ به، لبسني العناد أنا أيضًا. وكان عليهم نقلي لدَيْر العقاب. وقصّ شَعْر رأسي، هذه المرّة كعقاب، و.. و.. آآآخ. كأن أمنيّتي بالبقاء في الدَّيْر لم تتحقّق إلا بعد زهدي في التجربة! وأصبح وجودي في دَيْر العقاب هو الوسيلة التي لم أتمنّها طبعًا، لكي أصبح راهبة.
إذا كان الشيطان يمكن أن يتواجد في أيّ مكان، فلا داعي، إذنْ، لكي ألوذ بأماكن، أتصوّر غياب الشيطان عنها. والأهمّ أنني لا بدّ أن أتوقّف عن استدعاء هذه التجربة للأبد.
سأناجي "مريم البتول"، و"يسوع"، والملائكة، ولكني سأكتفي بعلاقتي المباشرة بهؤلاء جميعًا. أنا الآن علمانية، وللأبد.
ما حَدَا بِيْعَبِّي مَطْرَحَكْ في قَلْبِي!
انتظرنا هذه الرحلة طويلًا. كنتُ أحتاج لتغيير الأماكن. أحببتُ أن أمشي معه في الشوارع، بلا خوف، وفي العلانية، بدلًا من حالة الإحساس بأن حياتنا كلّها في المنصورة مسروقة ومُختَلَسَة.
حلمتُ بالسير بجواره على شاطئ الإسكندرية. وأخيرًا تحقّق الحُلم. كان قلبي من شدّة الوجل كأنه قلب مريض. أُحسُّ بخفقانه المستمرّ، أهو الحبّ؟ أم الخوف؟ أم الخوف من الحبّ؟
وبِغَضِّ النظر، فكلّ لحظة مرّتْ عليّ في هذه الرحلة كانت استثنائية جدًّا، وعاطفية جدًّا، ورومانسية.
"ما حَدَا بِيْعَبِّي مَطْرَحَكْ في قَلْبِي..
كيفْ لكْ قلبي تْجَافِي اللّي حَبّكْ هالمحَبّة؟!"..
أغنّي مع ماجدة الرومي، وأستعيد الأُغنيّة، فترتعش النقطة البيضاء في عمق روحي.
حكى لي رامي عن قصّةحبّ عاشها في غيابي مع شابّة يونانية، وأنه زارها في الإسكندرية. تجاهلتُ القصّة، ولم أُخبرْه بمعرفتي عن الأمر من قبل. وكنتُ وأنا أحتضنُهُ ليلة أمس،أتمنّى أن أزيح مشاعره تجاه تلك الفتاة، وأن أرسّخ صورتي في خياله بدلًا منها. على الرغم من أنه أكّد لي أكثر من مرّة أنها لم تعد تعني له شيئًا.
قبَّلتُهُ قبلَتَيْن سريعَتَيْن على خَدّه،ربّماللسبب نفسه. أتمنّى أن يستعيد الإحساس بهاتَيْن القبلَتَيْن كلّما شمّ هواء الإسكندرية معي أو وحده.
"خِدْني حَبيبي عَ الهَنَا .. انْسَى اللّي كانْ وابْتِدِي
خَلِّينِي إِخْلَق، يا أنا.. مِنَّكْ وليّ إهْتِدِي".
الآن لم يعد لي يقين في شيء إلا الحبّ، وأتمنّى ألا يخذلني، وإلا فستكون النهاية بالتأكيد، سأكفر بكلّ شيء، يا رامي. أرجوكَ، أَنقِذْني من الكفر، يا حبيبي.
لا أعرف ماذا يحدث لي، ولماذا يتغلغل موضوع الغرام في كياني بهذا الشكل؟
أجمل ما في موضوع الرحلات هو ذلك الإحساس بتواطؤ المجموع مع أيّ اثنَيْن يُظهِران مشاعرهما أمام الجميع.
حين يتّخذان كرسيَّيْن متجاورَيْن في الحافلة، تجد الآخرين يبتعدون عنهما بشكل غير مباشر. وفي أثناء الرحلة، حين يشعر البعض بأيّ ثنائي يريد الابتعاد عن المجموعة من دون الالتزام بخطّ سير الرحلة، يتواطؤون معهما، في صمت. المهمّ عودة الجميع للحافلة وفق المواعيد المتّفق عليها.

غادرْنا الحافلة، وقرَّرْنا الانسحاب والتّسلّلبعيدًا، لنتجوّل بمفردنا، لنقومَ نحن برحلتنا في الإسكندرية بعيدًا عن الجميع. ذهبْنا إلى "قلعة قايتباي"، وجلسْنا على الصخر، يلفح الهواء البارد جسدَيْنا، ويمسك كلّ منّا بيد الآخر. نتأمّل المدينة الجميلة التي يختلط بها لون البحر. ومن هناك، انتقلنا إلى "محطّة الرمل"، لنشرب كابتشينو في "البُنّ البرازيلي"، تمشّينا قليلًا على الشاطئ حتّى منطقة "ستانلي".
وقرّرْنا إنهاء جولتنا في "حديقة المُنْتَزَه"، حتّى نلتقي بقية المجموعة هناك في المحطّة قبل الأخيرة للرحلة. تمشّيْنا بين الأشجار البعيدة، والمسالك التي يقلّ فيها ظهور الناس. وكنتُ أستعيد أُغنيّة "فيروز" وأنا أردّد همسًا لنفسي "ما حَدَا عارف بمطرحنا.. غير السما وورق تشرين".

ألقيْنا بنفسَيْنا على العشب، وتخيّلْنا أحلام يقظة كثيرة، ستجمع بيننا في الإسكندرية وحدنا تمامًا في المستقبل. "ويقل لي بحبّك آنا بحبّك.. ويهرب فينا الغيم الحزين".
وجدنا فيها فرصة للتحايل على المساحات المخنوقة والمحدودة جدًّا التي نسير فيها في المنصورة. لم أكن أحبّتردّد رامي عليّ في مبنى "كُلّيّة الآداب"، في "شارع الثانوية".فالمبنى المنفصل تمامًا عن حَرَم جامعة المنصورة، كان صغيرا جدًّا، وأشعر فيه أننا في مدرسة.
كنتُ أفضّل الذهاب إلى حَرَم الجامعة الرئيس، لأقابله هناك؛ حيث يمكننا السير في ممرّات كثيرة بعيدة عن العيون، خلف كُلّيّة الزراعة أو كُلّيّة العلوم. وأحيانًا، وعلى سبيل الرومانسية، نمرّ في "شارع الحبّ" الذي لا يزيد عن كونه ممرًّا محاطًا بالأشجار، ويقع في المسافة الواسعة التي تقع بين كُلّيّتَي التجارة والهندسة.
كانت رحلة الإسكندرية بمثابة انفتاح على أُفق آخر، والإطلالة على شاطئ بعيد، لم نكن نُميّز تفاصيله، لكنه كان أمامنا على البُعْد.
بدأتْ رحلة الحبّ.
كروان المنصورة الحزين
هل ننضج في الحبّ؟
لماذا يجعلنا الحبّ شاردين وجادين أكثر من اللازم؟ لماذا يبدو لي موضوع علاقتي برامي جدّيًّا كأنه قضية تُشبه قضية فلسطين؟ لأنه مسلم وأنا مسيحية؟ ولإصرارنا على تحدّي المجتمع؟ أم لخوفي الباطني من كونه فقط يستمرّ في هذه العلاقة، لأنه سيفرّمنّي في اللحظة المناسبة حين يجد نفسه مضطرًّا لمواجهة مجتمع قاس كمجتمعنا؟

القصصكلّها التي أعرفها انتهتْ بهذه النهاية البائسة تقريبًا. هل يمكننا مواجهة هذا المجتمع السادّيّفعلًا؟ أم أنهم سيُمزِّقوننا ويُحطِّمون أحلامنا للأبد؟
استعدتُ الحكايات التي سمعتُها من صديقاتي وزميلات المدرسة والكنيسة أحيانًا عن مسلمات وقعنَ في غرام شباب مسيحيّيْن، وباءت أحلامهنّ بالفشل، رغم معرفتي بصديقة مسلمة نجحت في الزواج من حبيبها بعد أن غيَّر ديانته، لكي يتزوّجها. حتّى أخو طنط كارمن نفسه أسلم، لكي يتزوّج من أمّ نادين.
وتذكّرتُ قصصًا أخرى سمعتُها من جولي، أو من ريمو وجاكلين عن قصص حبّ رومانسية، فشلت كلّها، وماتت على مذبح اختلاف الدِّين.
في عقلي، رأيتُ أبطال الحكايات التي كنّا نسمعها من الكبار الذين عاصروا مجتمعًا مختلفًا، كان اليهود والمسلمون والمسيحيون معًا باستمرار. والمؤكّد أن قصص الحبّ جمعت بينهم جميعًا، بل لعلّ عشرات منهم عاشوا مع بعضهم البعض، واستكملوا حُلمهم في الحياة المشتركة.
قرأنا كثيرًا أنا ورامي في الشّقّة التي يسمّيها "الوَكْر"، وغالبًا ما كنّا نعود للقراءة منفردين. وأحيانًا أعود لقراءة "قصّة حبّ" لإيريك سيغال، التي يراها رامي مفرطة الرومانسية، ولكني أعشقها. ثمّ مالها الرومانسية، يا أخي؟ هل يمكن أن نتجاوز اختلافنا، كما يراه المجتمع بدون هذه الرومانسية؟
"أصدقائي، نحن هنا لنكون شهودًا على اتّحاد حياتَيْن بالزواج، فلنستمع إلى الكلمات التي أختار قراءتها في هذه المناسبة المقدّسة. ابتدأتْ زوجة المستقبل "باريت" أوّلًا، فقالتْ: حين تنتصب روحانا، مستقيمَتَيْن وقويَّتَيْن وجهًا لوجه، صامتَتَيْن، مفتوحَتَيْن، إحداهما للأخرى، وحين تلتهب أخيرًا تلك الأجنحة المبسوطة. مكانٌ نعيشُ فيه ونحبّطَوَال نهار، محاطًا بالظلمة وساعة الموت. أمّا "إريك"، فقال: إنني أمنحكِ يدي! أمنحكِ حبّي الذي هو أثمن من المال، أمنحكِ نفسي قبل كلّ إيمان أو قانون، فهل تمنحيني نفسكِ؟ هل تمشين الدرب معي؟ أترانا سنبقى معًا ما حيينا؟ وحين صمتّ، كان يسود القاعة صمت عجيب".
"فالحبّ هو ألا يكون لنا أن نقول أبدًا إننا آسفون".

سيُحبّ رامي أُغنيّات "محمّد منير"كلّها، لأن أغانيه فلسفية كما يقول، أمّا أنا، فأحبّ "ماجدة الرومي" لرومانسيّتها، وطبعًا "عبد الحليم" حبيب قلبي، ونجاة الصغيرة أحيانًا.
ومع ذلك، فهذا لا يمنعني أن أغنّي معه: "سرقتْ عُمري من أحزاني.. سرقتُهُ، لكنْ، ما جاني، ولا حَدْ شافْ فين مكاني وَرَا الشبابيك".
ووحدي سأستمع لأُغنيّات "كيني روجرز" الرومانسية، التي أتخيّل أن رامي هو الذي يغنّيها لي. ولأُغنيّات فرنسية كثيرة ل"خوليو إجلاسياس"، بينما روحي ترتجف من فرط الإحساس بالحبّ.
هل يأخذ الحبّ هذا الشكل الجَدِّي ربّما لأنه بات مرتبطًا بالليل؟ نلتقي في شقّة مُهنّد بين المساء وأوّل الليل. نتحدّث في الهاتف بعد التّأكّد من نوم ماما وبابا في الليل؟ وفي الليل فقط: نُنصتُ لأغاني الحبّ والسهاد. وأغنّي له أُغنيّات "ماجدة الرومي" همسًا. وأنتظر مروره تحت البيت، وهو يعرف أني أنظر إليه من شيش الشّبّاك، وأبتسم.

في الليل أيضًا نُنصتُ لصوت الكروان التائه الغريب. هذا الصوت المتقطّع الذي يبدو كنداء غامض. صوت شجيّ، لطائر لا يراه أحد، لأنه لا ينادي أو يشدو إلا ليلًا. من أيّ عشّ يأتي؟ وإلى أين يذهب؟ ولماذا يُصرّ أن يظهر بصوته فقط؟ لا أعرف لماذا لا يشدو الكروان في المنصورة إلا ليلًا؟ يقول البعض إنه يدعو الرّبّ، والبعض يقول إنه يوّحد الله كما أخبرني رامي عن التراث الشعبي الذي يقول إن صوت الكروان ليس إلا ترديدًا لكلمة توحيد يقول فيها: المُلك لكْ لكْ لكْ. أمّا أنا، ففي كلّمرّة أسمع صوته لا أفكّر إلا أنه مُحمَّل لي بالسلام من رامي. صوت حزين وشجيّ، لكنه جميل ورومانسي.
لو أن الرسائل الروحية قد نُقلت إلينا فقط على لسان الطير، لربّما كان حظّنا جميعًا أفضل، ولكان الجميع أكثر إيمانًا.
ربّما سأعدّ الكروان، طائر الليل الحزين، الكائن الوحيد الذي أتمنّى الاعتراف له وحده بما لا يمكنني قوله لأحد. توقّفتُ عن الذهاب إلى كاهن الاعتراف. تكفيني معرفتي بالشّرّ والخير.
كاهن الاعتراف لن يقبل اعترافي بقصّة حبّي مع حبيبي المسلم. وهذه الخطيئة لن يمكنني التوبة عنها.
في الليل، نُنصت لصفير القطار، ونخاف. لا أعرف لماذا يرهبني هذا الصوت الذي كان يصلنا في توريل، رغم أن مزلقان القطار في نهاية حيّ المختلط؟
وفي الليل، يُتاح لنا الإنصات لموسيقى أُغنيّةLove Story، أدعو رامي لرقصة رومانسية، يستجيب لها فورًا بابتسامته العذبة، وأقف حافية على قَدَمَيْه، فيتحرّك بنا معًا كأننا جسدٌ واحد، يرقص على لحن الحبّ.
في الليل، أمنحكَ نفسي.
"إنني أمنحكَ يدي! أمنحكَ حبّي الذي هو أثمن من المال، أمنحكَ نفسي قبل كلّ إيمان أو قانون، فهل تمنحيني نفسكِ؟ هل تمشين الدربَ معي؟ أترانا سنبقى معًا ما حيينا؟".
القدّيسة بنت الوالي
ذهبْنا لكي نحضر الليلة الكبيرة لمولد "الشيخ حسنين". استجبتُ لرامي، لأثبت قدرتي على الاختلاط بالبشر وبالعوامّ كما يقول لي ساخرًا. وإنني لستُ مُجرّد فتاة منعّمة، تعيش في توريل. وأيضًا لرغبتي في تجربة ومعرفة الأشياء.
وَعَدْتُ رامي، في المقابل، أن نذهب معًا إلى "مولد القدّيسة الشهيدة دميانة" في البراري قريبًا من "بِلْقَاس". ولكنْ، للأسف. ذهبتُ للقدّيسة وحدي.
أصابه الجنون من الغَيْرة حين عرف بزيارتي للقاهرة وخروجي مع شابّ، جاء مع صديق كاترين بنت خالتي في مصر، والتي استعانتْ بي لهذا الغرض. وتوقّفتِ الاتّصالات بيننا. حاولتُ التماسك، رغم إنني كنتُ سأُجنّ. لم أُصدِّق هذا الجنونكلّه غير المُبرر. أكان يريد أن ينام معي، وبعدها يلعب بي؟ جنَّني هذا الخاطر حرفيًا، لكنّي حاولتُ التماسك. أسأل نفسي بجنون: مَنْ أنتَ؟ هل هذا هو الشخصنفسه الذي أحببتُ؟

قبل يومَيْن من "مولد القدّيسة" جاءتْ خالتي لزيارتنا، وأخبرتْني كاترين أنها ترغب في زيارة المولد، وحين أخبرتُأمّي، اقترحتْ اصطحاب أمير؛ ابن خالي موريس وأخته ماريان.
ذهبْنا مُبكّرًا، لنلحقَ بالقُدّاس، لأن الصلوات تبدأ في الثامنة صباحًا، وتستمرّ فقط حتّى الثانية ظهرًا. ومنذ وصلْنا إلى "منطقة البراري" التي يقع فيها ضريح الشهيدة، لاحظتُ أن أغلب المظاهر في المكان تشبه موالد المسلمين.
كان الزحام شديدًا، وخيام زوّار المولد القادمين من القرى القريبة والبعيدة متناثرة في كلّ مكان. ولاحظتُ الكثير من الأجانب الذين كانوا يتأمّلون المشهد بدهشة مُلوّنة بنوع من الإعجاب.
كلّما اقتربْنا من الكنيسة القديمة تعالتْ أصوات الترانيم والأجراس والنواقيس، ولمّا اقتربْنا أكثر، كان بالإمكان تمييز آيات من الكتاب المقدّس، وزغاريد بعض السّيّدات، بينما ملأ دخان البخور الأرجاء، وانتشر عبقه.
كانت الساحة في الخارج لا تختلف في شيء عن الأسواق التي توجد بالموالد الإسلامية، الحلوى التي تشبه حلوى المولد، والحلوى الدمياطية الشهيرة مثل "المِشَبِّك"، بالإضافة إلى فرشات بيع الملابس وال "تي شيرتات" المطبوع عليها صور الأيقونات والقدّيسين.بالإضافة لبائعي المأكولات والأطعمة الريفية؛ كالجُبن القديم والزبدة والسمن البلدي.
في سيّارة الأجرة ال "بيجو" التي نقلتْنا من المنصورة، راح أمير يحكي لنا عن معجزات الشهيدة المقدّسة؛ مؤكّدًا انتظار الناس لظهور طيفها خلال عيدها، وظهور خيالات وأضواء على القباب التي تعلو مبنى الكنيسة. نظرتُ للسائق في مرآه السّيّارة وأنا أخشى أن يكون مُتزمّتًا، لكنه فاجأني بالقول:
* مظبوط الكلام اللي بيقوله الباشا، يا ستّالكلّ. أنا مُسلم صحيح، بس إحنا كلّنا في "بِلْقَاس" عارفين إن السِتّ المقدّسة ليها كرامات، وأمّي بتقول لي إن فيه ناس أجانب جُم زمان زاروا الضريح في العيد، وظهرتْ لهم السّتّ دميانة على شكل طير ليه أجنحة كبيرة، قعد يلفّ حوالين أرض المولد طول اليوم.

و أردف قائلًا:
* أنا لي ستّات قرايبي كانوا – بعيد عنّكْ وعن السامعين- تعبانين جدًّا، بأمراض والعياذ بالله، مالهاش علاج، وجُمْ للسّتّ بنت الوالي، وانكتب لهم الشفا بأمر ربّنا طبعًا، وبركة السّتّ دميانة.
ورمقَني أمير كأنه يقول لي: شُفتي؟
والتفتُّ لكاترين، فوجدتُها تبتسم في سعادة. وكذلك بنت خالي ماريان، وإن ظلّتْ صامتة لصغر عمرها وخجلها الشديد.
في فناء الكنيسة، انتظرْنا مرور مواكب شباب الكنيسة الذين يرتدون الأبيض، ويمسكون بالرايات البيضاء التي تحمل صورة السّيّد المسيح.

كان جسدي يقشعرّ وأنا أتأمّل الضريح الكبير المُحاط بالخشب المعشّق، من بين الأشخاص الذين يقفون أمامي وحولي، وبعد محاولاتٍ مضنية للوصول إلى الفاصل الخشبي اقتربْنا حتّى أصبحْنا في مواجهة الضريح الذي كان البشر من كلّ لون يلتفّون حوله وهم صامتون، وعلى وجوههم سَمْتُ الخشوع أو الرجاء.
وضعتُ يدي على الخشب، وصلَّيتُ. طلبتُ من روح القدّيسة الطاهرة حلًا لمشكلتي مع رامي، إن كان لي فيها الخير. أمّا كاترين، فوجدتُها تُخرِجُ ورقةً مَطويّة من حقيبة يدها، وذهبتْ بها إلى موضعٍ ملاصق للضريح، يمكن لها منه وضع الورقة، ويبدو أنها كَتَبَتْ طَلَبَهَا للشهيدة، وهو ما رأيتُ العشرات حولنا يفعلونه، وبينهم مسلمون ومسلمات، رأيتُهم يرتجون روح القدّيسة لما يرغبون فيه.

طاردني خيال رامي طول الرحلة، كأنه كان معي بروحه. وتذكّرتُ اليوم الذي ذهبْنا فيه إلى "مار جرجس" في شارع بورسعيد.
طلبتْ ماريان أن تشعل هي أيضًا شمعة، فأشعلْنا الشموع جميعًا، وكلّمنّا في قلبه ما يتمنّى، وغادرنا إلى المنصورة، وفي قلب كلّمنّا رجاء، أودعَهُ أمانة عند روح القدّيسة بنت الوالي.
الرسائل
الرسالة الأولى
حبيبتي
أكتب إليكِ الآن، بعد فترة طويلة. وأكاد لا أُصدِّق أن ثلاث سنوات قد مرّتْ على غيابكِ. كنتُ أحتاج الوقت لاستيعاب الأحداث.
لم أتوقّف عن التّحدّث إليكِ همسًا منذ اختفيتِ من حياتي بتلك الطريقة الغامضة. لا أحبّ أن أفكّر في أيّ سبب آخر لاختفائكِ. تفهمين ما أعني! أي أن الاحتمال الوحيد الممكن التفكير فيه بالنسبة لي هو وجودكِ في مكان ما. فهذا يقيني الذي لا يمكنني الشّكّ فيه للحظة واحدة. أعرف أنكِ موجودة في مكان ما في العالم. أشعر بذلك. ولهذا أكتب هذه الخطابات، لعلّها تصل إليكِ يومًا.
أكتب إليكِ، يا كريستين، لأتجنّب السقوط في فخّ الجنون. ليس لأنني أخشى الجنون. فلعلّ الجنون هو الحالة المناسبة لي. أن أصبح ذاهلًا عن كلّ ما حولي، لكنْ، للأسف لا أملك مثل هذا الترف. من أجل حنين. التي اخترنا اسمها مثل كلّ ما فعلناه معًا. تعيش وحيدة بعيدًا عنّي وعنك. لم يكن لديّ خيار آخر.
لن أكذب عليكِ، فأنا أعتقد أن فردًا من عائلتكِ هو السبب في تشتيتنا على هذا النحو. أنا أشعر بذلك، ولا يمكنني فَهْم الأمر إلا بِعَدِّه تمّ من دون إرادتكِ. ولهذا قرّرتُ حماية حنين بالذهاب بها إلى آخر العالم.
تبدو لي كلمة "آخر العالم" مُضحِكَة، ونحن نتكلّم عن فرنسا التي لا يفصلنا عنها ربّما إلا البحر، لكن هذا بالضبط شعوري.
أحيانًا أشعر بأنني رجلٌ أبله، يتصوّر أنه يحمي ابنته بأن يبني لها فخًّا في آخر العالم. وتطاردني الكوابيس التي أراها فيها، إمّا تعرّضت للخطف، أو للاعتداء من مجهولين أو…. آآآآخ. إنها كوابيس، ولن أزيد في ذلك.
لكن أحبّ أن أطمئنكِ أنني لم أتركْها وحيدة لأكثر من ثلاثة شهور أبدًا. بل ربّما شهرَيْن. أزورها بانتظام، وأسمع منها، وأحكي لها عنكِ وعن المنصورة كثيرًا.
طبعًا لا يمكنني أن أحكي لها أشياء كثيرة عن تفاصيل علاقتنا، وعن مشاعري تجاهكِ. يمكنكِ التخمين بالتأكيد، فلستُ الرجل الذي يُعبِّر عن مشاعره بسهولة.
ثمّ إنني، يا حبيبتي، لا يمكنني الحديث عنكِ أمام أحد، حتّى لا أضعف. هذا آخر ما يمكنني تصوّره عن نفسي. أن أبكي أو حتّى يختلج صوتي مضطربًا أمام أيٍّ كان.
أكاد لا أُصدِّق أن أحلامنا التي أسرفنا في تخيُّلها لم يُكتبْ لنا منها أكثر من خمس سنوات فقط.
كنّا نشعر بالقوّة. خوفي يتبدّد من نظرة تشجيع في عينَيْكِ. وخوفكِ ينتهي بمُجرّد أن أضمُّكِ إلى صدري. الآن عليّ أن أقتل أيّ مشاعر خوف، قد تتبادر إلى ذهني.
بعد انتقالنا للإسكندرية، كزوجَيْن، يبدآن حياة جديدة، قريبًا من شاطئ البحر الذي تقع عليه عينانا كلّ صباح، تمامًا كما نحلم.
كنّا نبدأ عالمًا جديدًا، لن نعرف فيه شيئًا له علاقة بالتاريخ الذي فررْنا منه. لا وجود هنا لمظاهرات 1977، أو مظاهرات الجوع، لأننا نعرف، أو نتخيّل، أنها حَدَثَتْ في المنصورة فقط، وشهدْنا وقائعَهَا المروّعة هناك، رغم أننا كنّا صغارًا إلى حدّ ما، ورأينا سلب "بيت المحافظ" بكلّ ما فيه، ورأيْنا وسمعْنا الأساطير الخاصّة بحجم الأرانب التي كانت بين ممتلكات المحافظ، التي كنّا نتصوّر أنها خراف، بسبب كبر حجمها.
حتّى الأحزان، وبينها أحزاننا المَشوبة بالفخر لصور شهداء حرب 1973 الموضوع عليها الشريط الأسود في أغلب بيوتنا وبيوت عائلاتنا، لن نجد مثلها هنا.
نعم، في الإسكندرية لا وجود لتنظيمات الإخوان. ولا فتن طائفية، لأننا نعيش في مدينة العالم، الإسكندرية. ولن يوجد أيضًا خالُك موريس غريب الأطوار، الذي تحوّل إلى عدوٍّ لكِ ولي ولكلّ مَنْ بارك حبّنا وزواجنا. وللأسف أيضًا لن نرى هنا "عمّي جورج" ولا "طنط جورجيت"، لأنهما لم يتمكّنا من احتمال الأمر. ولم نملك نحن ما نفعله. كنّا نُنقذ حبّنا، ونُنقذ طفلة لا علاقة لها بهذه الصراعات المجنونة المُختَلَقة كلّها على أيدي الكَهَنَة والشيوخ والقدّيسين.
نعم، كنّا نقلب صفحات ماض ولّى، لكي نبدأ كتابًا جديدًا نُسطّره بوقائع حياتنا معًا.
ولكنْ، اتّضح لي أنني توهّمتُ أشياء كثيرة. كان البحر الجميل وهواؤه قد سَحَرَانا وجَعَلانا نتخيّل ما لا وجود له، بينما يبدو أن كلّ ما توهّمنا عدم وجوده بالإسكندرية كان موجودًا، كأشباح مختبئة في ظلام المدينة، وحين أُتيحت لها الفرصة سرعان ما قبضتْ علينا.
لن أقول لكِ وداعًا، ولكنْ، إلى لقاء.
والسلام لروحكِ أينما كنتِ.
المخلص رامي.
8 مارس 1995

الرسالة 2
كريستين
كم أفتقد مناداتكِ باسمكِ.
أحلم بكِ كثيرًا ربّما لكي أردّد الاسم، أردّد اسمكِ، وأشعر أنكِ تسمعينني. مع ذلك فلا أذكر الآن بالضبط إذا ما كنتُ أناديكِ بصوتٍ مسموع، أم أنني أهمس بالاسم، لكن المؤكّد أنكِ تسمعينني في الحلم، وأرى ردّ فعلكِ بالابتسامة التي أذابتْ قلبي تجاهكِ منذ رأيتكِلأوّلمرّة. تضحكين فتضحك الدنيا.
تخيّلي أن الاسمَيْن الأحبّ إلى قلبي، وهما اسم حنين واسمكِ هما أقلّ الأسماء التي أردّدها في يومي.
حلم سعادتنا الضاحك تحوّل إلى كابوس.
توهّمنا أسوأ كوابيسنا بِعَدِّها الفترة التي قضيتها مع الجماعة. والتي قضيتِها أنت في الدَّيْر. سنوات "التجنيد المقدّس"، كما أسميناها، لكننا لم نكن نتخيّل أبدًا قدوم الأسوأ.
في الفترة التي كنت لا تزالين مختفية فيها، كان أبويا دائمًا يردّد لي كلّما رآني مكتئبًا:
"استمتعوا بالسّيّئ، فإن الأسوأ قادم". وكنتُ أبتسم له بفتور، ولم أعرف أنه كان يقول حقائق، وليستْمُجرّد حكم.
وحين ظهرتِ في حياتي مرّة أخرى بعد العودة من الدَّيْر، وقراركِ الصارم بعدم العودة مجدّدًا للحديث عن أيّ شيء يخصّ تلك الفترة، كنتُ أشعر أننا ودّعْنا التعاسة للأبد، وكنتُأتمنّى أن أذهب وأغيظ بابا، عقب أيّ وقت ممّاكنّا نقضيه في شقّة صديقي مهنّد، وأخبره أنني عرفتُ معكِ السعادة. والقادم ليس سيّئًا كما قال!

لكنْ،طبعًا تعرفين كيف تواطأ القَدَر مع نبوءة الوالد. (لا زلتُ أستخدم صيغة الوالد دائمًا في حالات العتاب، أو السّيّد الوالد في الحالات الشديدة)، وباختفائكِ من الشّقّة في ذلك اليوم اللغز، بدأ الأسوأ يتجسّد، كما لا يمكن لنا تخيّله.
طبعًا أذكر الكوابيس التي كانت تُوقظكِ في بعض الأيّام، بعد الانتقال للإسكندرية. أذكر كلّ شيء. اليأس. الإحساس باليُتم بعد قرار عمّي جورج بالتّبرّؤ منكِ. وانصياع طنط جورجيت له، أكانت مضطّرة؟ أم عن اقتناع؟
أذكر تلك المشاعر، والمرارة، وبالشفقة على الذات، وبخيانة المجتمع لنا. مجتمع يكره الحبّ، ويحبّ النفاق، ويُكرِّس الدِّين من أجل الكراهية. لكنْ، دعينا على أيّ حال من ذلك كلّه.
كُنّا نتجنّب الإحساس بالخوف؛ باستدعاء بعض ما كنّا نمارسه سرًّا قبل زواجنا. تلك الساعات المسروقة من العالم. الحياة التي كنّا نعيشها كقصيدة. شِعْر حياتنا الجميلة. كنتِ تُصرّين على النوم عارية في حضني. أن أقرأ لكِ شِعْر "أمل دنقل" حتّى تنامي. ولا تستغرقين في النوم إلا بعد أن تتأكّدي من التصاقي بكِ، وكنتِ تعرفين أنني سأظلّ محتضنًا إيّاكِ طَوَال الليل. كنتِ ترين في امتزاج قطرات العَرَق بين جسدَيْنا خلال النوم أكثر ألوان الدلالات الشاعرية. "لا يمكن أن يُميِّزه أحد، ولا حتّى أنا أو أنتِ. عَرَقي يجفّ على جسدكِ، وعَرَقكِ على جسدي".
كنتِ تقولين بإخلاص راهبة:
"حتّى الدم لا يمتزج بهذا الإتقان".
مع ذلك، تخيّلي، كنّا نضحك من قلبَيْنا، ونشعر بأن وجودنا معًا أمرٌ لا يحقّق إلا السعادة، رغم ارتباكنا الشديد في الفترات الأولى لمولد حنين، ومخاوفنا، وتعامُلنا بعصبية حين تتعرّض للمرض، أو بسبب بكائها لأسباب غير معروفة، وبشكلٍ هيستيري ومتّصل. لكننا تجاوزْنا الخبرات الصعبةكلّها. وفّرتْأمّي لنا النصائح، وساعدتْنا بخبراتها باستمرار، ونحن نراقب نُمُوّ حنين في سنواتها الأولى بسعادة وفرح.
كنتِ تقولين إن المنصورة، بكلّ مَنْ فيها من بشر، ليستْ إلا مجموع قصص الحبّ التي عرفتْها المدينة، بتناقضاتها واختلافاتها واختلافات أطرافها كلّها، فكلّها انتهتْ بعائلات أنجبوا أهلنا الذين عاشوا قصصهم، ليُنجبونا، لا جديد تحت الشمس، نحن أيضًا سنكتب بعلاقتنا قصّة حبّ جديدة، وسنُنجب جيلًا جديدًا بقِيَم حبّ مختلفة قليلًا.
صحيح أننا بدأنا طريق المسؤولية مبكّرًا جدًّا، وأكاد أشعر أننا كنّا أطفالًا في أوائل العشرينيات. ولكنْ، كانت الفرحة داخلنا تحترق، وتدغدغ مشاعرنا، وتبثّ فينا الإصرار والأمل. يا حياتي ووجعي الأبدي.
في 18 مارس 1995
الرسالة 3
حبيبتي
عدتُ مساء أمس من باريس. نقلتُ حنين أخيرًا من المدرسة الداخلية. أصرّ صديقنا أحمد حسين على انتقالها، لتعيش مع عائلته وابنته. أشعر أنها الآن أفضل بكثير. مرّت بفترة صعبة، لأن لسانها كان ثقيلًاجدًّا، وانتابتها حالات تشنّج عديدة في نوبات مختلفة.
التجربة التي تمرّ بها صعبة جدًّا، والإحساس بعدم الأمان خلال الفترة الأولى لها في المدرسة الداخلية أكبر من قدراتها على الفَهْم أو الاحتمال في هذه السّنّ. لكنها تفعل ما يدهشني، بقدرتها على التّكيّف وبناء شخصيّتها، وتصفها المدرّسات بالعبقرية. أتقنتِ الفرنسية، واليوم تسألني أسئلة بالغة الذكاء.
تسألني عنكِ. حتّى اليوم لا أزال متحيّرًا في الكيفية التي أجيب بها عن هذا السؤال. قلنا لها إنكِ مريضة، في غيبوبة طويلة، وإن الأطبّاء منعوا زيارتكِ.
أحيانًاأفكّر أنني أجرمتُ بقرار سَفَرها إلى باريس. لكنْ، ضعي نفسكِ مكاني، يا كريستي. ما الذي يمكنني أن أفكّر فيه، وأنا أشعر أنكِربّما تعرّضتِ لخطر على حياتكِ؟ بالتالي قد تكون هي هدفًا تاليًا لمَنْ فعل ذلك أيًّا كان.
دعوتُ أمّي فورًا، لكي تقضي معنا بعض الوقت حتّى أتمكن من التّصرّف مع الموضوع. لم تكن لديّ إجابات لسؤال حنين المتواصل:
– فين ماما، يا بابا؟
قلبي يتمزّق حرفيًا كلّما سألتْني، وأحاول التماسك بصعوبة. ما الذي يمكن قوله لطفلة في الخامسة عن اختفاء أمّها فجأة بلا سبب واضح؟ كيف أُفسِّر لها جنون هذا العالم؟
بصراحة أفكّر كثيرًا أننا أجرمنا في حقّ أنفسنا وحقّها بالامتثال لمنطق أمّي في الاحتفاظ بالجنين. كيف لنا أن نأتي بطفلٍ لهذا العالم المسكين؟ أفكّر أننا بالفعل كنّا صغارًا مدفوعين بالحماس والخوف معًا. كان يكفينا أن نحافظ على علاقتنا، ونواجه ما نتوقّعه. لكنْ، ما ذنب طفلة صغيرة كهذه، لكي تواجه تبعات قرارنا أو تبعات ثقافة مجتمعنا المجنون بالكراهية؟
المذهل أن أحمد حسين يعيش مع سيسيليا، بلا وثيقة زواج، حتّى الآن. وأنجبا طفلتهما الرائعة ناتالي، ولا يثير الأمر اهتمام أحد. ألسنا نعيش في العصور الوسطى؟ نضع القوانين والمواثيق التي من شأنها فقط أن تُهلِكَنَا، وكلّها باسم إمّا الأخلاق أو الدِّين.

أكتب لكِ الآن، وبالصدفة تصطكّ نوافذ الغرفة التي أجلس فيها بسبب الريح، وأسمع صوت الرعد بين آن وآخر، ولا أفهم هل هذه علامة؟ أم مُجرّد صدفة؟ الغريب أنني رغم البرد في الخارج لا أشعر كثيرًا بالبرد. أعاني من الحمّى تقريبًا. روحي تتألّم لما حلّ بحنين، وما مرّت به من خبراتٍ صحّيّة مؤلمة خلال الفترة الماضية.
هل تذكرين كلامنا عن ألعاب الزمن والصدفة؟
كانت ألعابًا عجيبة، لعبتْ بنا، وخصوصًا بكِ وبي أنا الذي كنتُ أحاول دائمًا أن أبدو مسيطرًا على مصيري. وكان هذا الأمر تحديدًا أحد أكبر الأمور التي اختلفتُ حولها مع عماد. فرغم حبّي الشديد له، لكني لم أقبل أبدًا بمنطقه الاتّكالي. كنتُ أحترم إيمانه طبعًا، ولكني أشكّ دومًا في فكرة أن الإنسان مُسيَّر بهذا الشكل المهين الذي يتبنّاه الناس.
عماد ظلّ بالنسبة لي هدفًا مستمرًّا لإثبات منطقي. هل تذكرين يوم أن ذهبتُ به إلى مزلقان القطار المواجه لمدرسة "الملك الكامل"؟ لم يتوقّع أن أُلقي به تحت القطار، وبيني وبينكِ كنتُ أشعر بالرعب من عدم دقّة حدسي بعُلُوّ المسافة السفلية للقطار، إذا ألقيْنا بأنفسنا تحته.
ألقيتُ بنفسي فوق عماد حتّى أكون الضحية لو كنتُ أخطأت التقدير. ولكنْ،مرّ القطار بسلام. السّرّ الوحيد الذي يحتفظ به كلانا حتّى اليوم أنه فعلها. نعم، بلَّل نفسه من شدّة الخوف. ضحكتُ بجنون في ذلك اليوم، لكني أسرعتُ به إلى بيتنا، وأعطيتُهُ بنطلونًا من عندي، لنتجاوز الفضيحة.
السّرّ الثاني أنه بمُجرّد الانتهاء من ارتداء البنطلون فعل أغبى حركة في التاريخ، كاد أن يخصيني بركلةِ قَدَمٍ غاضبة. لكن هذاكلّه كان مُجرّد سفاسف أمام احتمال موتنا تحت قطار.
طبعًا هذه ستكون فضيحة؛ أن نموت تحت قطار يذكّرني شخصيًّا بكلب عجوز مريض وكسول. كنتُ أقسم لعماد أنني لو عاندتُ ووقفتُ أمام القطار، ودفعتُهُ، لتوقّف!
بيننا مواقف كثيرة، كما تعرفين، لكني كنتُ أؤكّد لعماد أننا يمكن حتّى أن نتحدّى الموت.
بصراحة، يا كريستي، لم أبكِحتّى الآن حتّى على فقدانكِ، لأني أعرف أنكِ موجودة في مكان ما.
لكني بكيتُ على عماد. ليس لأنني تماسكتُ خلال لحظات الدَّفْن عن النازع الداخلي الذي كان يهجس في رأسي، مثل الوسواس، ويقول لي أن أُوقِفَ الحفّارين، وأفتح الصندوق، لأجذب عماد من ذراعه، ليقف بيننا، وتنتهي هذه المهزلة، كأني لم أكن قادرًا على تصديق خبر موته.
لم أبكِ عليه، ليس لأنني كنتُ أعدّه أخلصَ إنسان عرفتُهُ في حياتي فقط. بل لأنه كان مطيعًا جدًّا وممتثلًاحتّى للمرض، والموت. أعتقد أن شيئًا بداخله كان يجعل نوازعه الإيمانية تقتل كلّ عناد داخلي أو إرادة. أو شيئًا من هذا القبيل. ليس لديّ تفسير دقيق للمسألة.
مع ذلك طبعًا لم أنجُ أنا نفسي، يا كريستي، من المواجهة المرعبة مع القَدَر. كأنه أراد الإثبات بالدليل القاطع أنه لا يمكن لأحد أن يتصوّر نفسه كبيرًا عليه، ومصيرنا كما ترين وابنتنا معنا خير مثال ودليل.

المحبّ للأبد،،

17 يناير 1996
الرسالة 4
كريستين .. يا حبيبتي..
هل تُصدِّقين أني توقّفتُ عن قراءة القانون؟ قرأتُ ما يكفيني لمائة سنة بصراحة، في القوانين الجنائية والدولية والدستورية، وحفظتُ عشرات النصوص القانونية، وطبعًا قرأتُ عشرات القضايا والملفّات، والآن أشعر أنني أصبحتُ متمرّسًا بما يكفي، لكي أتفرّغ لقراءات أخرى. أقرأ الآن في الأدب والفكر والفلسفة. وأستدعي أيّامنا الجميلة، حين كنّا نتبادل القراءة.
اكتشفتُ قصيدة لأمل دنقل، يقال إنه كَتَبَهَا لحبيبة طفولته، وهي من المنصورة، واسمعي ماذا يقول فيها:
"في صمت "الكاتدرائيات" الوسنان
صور «للعذراء» المسبّلة الأجفان
يا مَنْ أرضعت الحبّ صلاة الغفران
وتمطّى في عينَيْكِ المسبّلتَيْن
شباب الحرمان
ردّي جفنَيْكِ
لأُبصر في عينَيْكِ الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن حبّ
عن ذكرى
عن نسيان!
والعينان الخضراوان
مروّحتان!".
الآن أقرأ وحدي تمامًا. وإن كنتُ أرفع صوتي متخيِّلًا أنكِ تسمعيني، لكنْ، على أيّ حال، لا أظنّ أنه كان بإمكاني تجاوُز هذه المحنة من دون القراءة فعلًا. لم يعد يعنيني شيء في هذا العالم. ولولا محاولات نادية للضغط عليّ لزيارة بيت العائلة في المنصورة بين آن وآخر، وترتيبها لجلسات عائلية مع أمّي وأبي، لاعتزلتُ العالم تمامًا. مع ذلك، أظنّ القراءة سوف تُنقذني من هذه المحنة بشكل ما، ولا أعرف الآن الكيفية.
سأُضطرّ أن أذكر لكِ ما رفضتِ أن تستمعي له طَوَال الفترة التي عشناها معًا منذ عودتنا أحياء من نضالنا المقدّس:

سأذكر لكِ الآن أوّلًاأنني لولا تمسّكي بالقراءة حتّى في أعتى فترات اقتناعي بالخُرافات التي غسل بها عقولنا جماعة الإخوان، لرُبّما كان مصيري اليوم زنزانة مُعتمة، أرى فيها الثمن البخس الذي يمكن أن يبذله الإنسان راضيًا لوجه الله، كما يزعمون، أو مُجاهدًا بلحيةٍ في قندهار، أرتدي جلبابًا قصيرًا، وأضع على رأسي المُلتحي عمامة، وأُمسك ببندقية أو رشّاشًا آليًّا، ينتظر العدوّ المُختَلَق في البشركلّهم؛ الكُفّار، لكي أقتلَهم، وأُخلّص البشرية منهم، ولكي أزيدَ من حسناتي التي سُتوفّر لي مكانًا في جنّة ممتلئة بالحور العين. أيّ بؤسٍ كان سيؤول إليه مصيري، يا كريستين، لولا القراءة؟
وبينما كان المفترض أن أقرأ "سيّد قُطب"، وكُتُب الغزالي وفقه السُّنّة للسّيّد سابق، والأوراد، وقد قرأتُها بالفعل بالمناسبة، لكني لم أكن لأتنازل عن قراءة رواية لنجيب محفوظ مثلًا، أو رواية من روايات العظيم دوستويفسكي. وليسا وحدهما طبعًا، كما تعرفين، فقد قرأتُ بالإضافة لهما "توفيق الحكيم" و"يوسف إدريس" و"إحسان عبد القدّوس" حبيبكِ! وبعض الروايات المترجمة الجميلة. كان التماهي مع "أوليفر تويست" جزءًا من تدريبي على حيوات أخرى، لم أعشها.
بصراحة أنا لا أعرف ولا أتخيّل كيف تكون الحياة مقبولة لو لم يكن "دوستويفسكي"موجودًا؟
هذه القراءات، بلا شكّ، وقفتْ حائطًا منيعًا بيني وبين تحوُّلي لمُجرّد مُتلقّن ساذج لأفكارهم، هؤلاء البؤساء، ليُردّد ما يقولون مثل ببغاء أحمق.

طبعًا آنذاك لم يكونوا بالنسبة لي بؤساء، بل كانوا رفاقًا وإخوة في الله، كما كنّا نتنادى. وكان للأمير مهابة خاصّة بيننا. وبشكل شخصيّ، لن أنكر أنني كنتُ أحبّه. كان أكثر تسامحًا وبشاشة من غيره من المتجهّمين، وأقلّ تكلّفًا وادّعاء. وأظنّه مُنح "إمارة الجماعة"، لأنه كان أكثر تفقّهًا من غيره. وبصراحة أكثر سأقول لكِ لأنه، وهذا كان مُجرّد إحساس لم أكن قد فكّرتُ في تفسيره في ذلك الوقت، كان من طبقة وسطى مُتيسّرة، وبالتالي كانت قناعاته في الأساس دينية، وليستْ طبقية أو وليدة عقد نَقْص، كما كنتُ ألاحظها عند غيره.
ربّما كان يمتلك لونًا من الصدق، لم يتيسّر لغيره. كان أكثر مَنْ ينفّرني بينهم الريفيون الذين وصلوا لدراسة الهندسة أو الطّبّ، وكانوا يجدون في الانتماء للجماعة قوّة معنوية، ووجاهةً ما. كنتُ أشعر بذلك في نكاتهم الطبقية أو محاولة الاستخفاف بالطبقات البورجوازية.
فكرة الانتماء للجماعة بمثابة الصفعة التي يُوجّهونها للطبقة التي لا ينتمون لها، من منظور متعالٍ، لأنهم يُمثّلون المرجعية الأعلى، وهي الدِّين.
لعلّ هذه الأفكار هي ما جعلتْني لا شعوريًا أنفر منهم، وربُّما جعلتْني أكثر إصرارًا على القراءة في العوالم التي أعرف أنهم لن يقتربوا منها لا جهرًا ولا سرًّا. ومنها كنتُ أستمدّ شجاعة الرّدّ على ابتساماتهم المُستخِفّة أمام أسئلتي الفقهية التي كنتُ أحاول بها التّأكّد من مدى سماحتهم.
في رمضان مثلًا، وبعد العصر، أقترب من المسؤول الأكبر عن مجموعتنا، كانت له ملامح آسيوية غريبة، ولعَرَقِهِ رائحة نفّاذة، وحتّى "السِّوَاك" الذي يستخدمه لم يكن قادرًا على إزالة صفار أسنانه العجيب.
أقول له إني احتلمتُ خلال نومي، ولا أعرف هل سيُقبَل صيامي؟ أم لا؟ فينظر لي مُستفِزَّا، لكنه يحوِّل استفزازه إلى ابتسامة صفراء مذهلة، ويردّ بما يعني أن أستريح وأُكمل صيامي. أبتسم له ابتسامة ناعمة، وأهزّ له رأسي بجدّيّة دلالة على استفادتي من علمه الغزير.
في الحقيقة كنتُ أقرأ "فقه السُّنَّة"، وأعرف أن إجابات الأسئلةكلّهم موجودة في الكُتُب، لكني انتبهتُ لفكرة أُبوّتهم لنا. شكَّلَ لي نوعًا من الاستفزاز، لأني أيضًا لي مشاكلي مع إحساسي بسلطة أبي. واكتشفتُ أنهم مبرمجون للتعامل مع شخصيات لا تقرأ، أو تقرأ القشور. لم أكن مستعدًاحتّى لمناقشتهم في أمور أكثر تعقيدًا، مثل "خَلْق القرآن" أو "العلاقة بالقَدَر" وهل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ السؤال الذي قادني للتفكير في هذه الأموركلّها، وشغلني بعد موت عماد بالبحث عن إجابات دقيقة عنها.

كانوا أصحاب ثقافة شفاهية، تناسب بسطاء الناس: الخطبة هي موضع التأثير الرئيس، هكذا انتشرتْ أفكار "الشيخ كشك"، الذي كفّر المجتمع، وكل ما له علاقة بالفنّ أو الحياة المَدَنية، وهكذا انتشرت فكرة الاعتماد دائمًا على مُفتٍ، يُفتي للجميع بما يحلّ، ويحرّم ما يراه حرامًا.
ولا أزعم أنني امتلكتُ مثل ذلك الوعي الطبقي آنذاك، لكن شعورًا باطنيًا ما، في أعماق قلبي، انتبه لتفاصيل صغيرة كهذه، لم تجد جاذبية كبيرة في نفسي. ومن المؤكّد أن أمرًا مرّ عليه اليوم أكثر من 15 عامًا لا بدّ أن يراه الفرد بشكل مختلف.
بيني وبينكِ، اكتشفتُ الآن أن وعينا الطبقي لم يكن مُستفَزًّا. أقصد، لم نكن مهتمّين بوعينا بالطبقة. ربّما هذه حال الطبقة الوسطى عمومًا، أكثر تصالحًا مع ذاتها. لكنني أستعيد تلك الأيّام، فأسترجع ما أعدّه خُبثًا في هذا الشخص. الطريقة التي كان يتعمّد بها إيغالصدر صديق ممّنْ انضمّ إلينا آنذاك ضدّ عائلته، وكان أهله من عائلة إقطاعية شديدة الثراء. كان يتعمّد أن يتحدّث بابتسامته السخيفة الصفراء اللاإنسانية، التي يخفي بها ارتعاشة صوته من فرط الحقد والغلّ، عن مطامع الإقطاعيّيْن، وظُلمهم، وعرفتُ من ذلك الصديق أنه دخل في نقاش حادّ مع جدتّه، لأنه أخذ يسبّ جدّه الميت أمامها، ويصفه باللصوصية وامتصاص دم الفقراء.
كان الفتى آسيوي الملامح، يُخلّص حسابه الشخصي مع تاريخه، سواء بوعي أو من دون وعي. أظنّه وأمثاله كانوا يجدون في تنظيم مثل الإخوان ما يجعلهم يحاولون تعويض الكثير من النقص بسلطة النفوذ الدِّيني التي تمنحهم إيّاه الجماعة.
مع ذلك، لم ننتبه أبدًا لموقعنا الطبقي، وشخصيًّا كنتُ أميل للبساطة، وأؤمن أنني في وسط الوسط. أصادق البسطاء أو أبناء الطبقة العليا بالحماس نفسه. طبعًا وأنا معك، وأحيانًا أنا وأنت وعماد، كُنّا نقارن بين عائلاتنا التي تتماثل في كونها طبقة أبناء الموظّفين وبين شخص من أصدقائنا ممّنْ يملك أبوه بُرجًا من تلك الأبراج الجديدة التي عرفت طريقها للمنصورة منذ نهاية السبعينيات، أو أراض زراعية وسيّارات، وأشياء من هذا القبيل. ولكنها لم تمثِّل لنا حُلمًا حقيقيًّا. لم نكن مادّيّيْن بشكل ما.
لكن هذه التفاصيل كلّها كوم، وما سمعتُهُ من الأصدقاء الأكبر عُمرًا الذين انخرطوا في جماعة أخرى منظّمة أكبر عمرًا منّا، كانوا قد تجاوزوا المراحل اللّيّنة التي كنّا نمرّ بها، وبدؤوا في اختبارات في تقديري ليستْ إلا عسكرية، خطط لأعمال عنف ضدّ الحكومة، وتدريب على الرماية، ومسائل حين استمعتُ لها أصابني الفزع، كانت كومًا ثانيًا. بعد يومَيْن فقط شاهدتُ كما شاهد العالم حادث المنصّة واغتيال السادات.
ربّما راودني إحساس بالارتياح للحَدَث الضخم، أو ربّما مثل كثيرين أصابتْني الدهشة التي جعلتْ عقلي يسعد بأن حاكمًا بأمر الغطرسة قد قُتل في يوم، لا يمكن للمرء أن يتصوّر فيه ما حدث، أو الإحساس بأن ثقلًا هائلًا أطبق على قلب البلد، وأخيرًا أُزيح بغير رجعة. هل غذّى تلك المشاعر ما غسل به هؤلاء البشر عقلي حتّى أصبحتُ أجد فيه الأمل مثلهم؟
خلال يومَيْن من التفكير، اكتشفتُ أن الأمر لم يعد مُجرّد تقرّب من الله وعبادة، بل خطّة كبيرة، ربّما أكبر من خيالي بكثير. هل كانوا يرغبون أو يطمعون حقًّا في السيطرة على الحكم؟لم يدرْ ببالي هذا الخاطر من قبلها.
كان عليّ إعادة تأمّلكلّ شيء، فقرّرتُالتّوقّف عن الذهاب إلى المسجد، وكثّفتُ من قراءاتي العلمانية. وبالتدريج، كنتُ أرى زيف تلك التجربة بكلّ ما فيها. والأهمّ الكذب الصارخ فيها للتّعلّق بالدِّين من أجل أسبابٍ دنيوية محضة هي السلطة.

أتساءل خلال الفراغ الكبير الذي أعيشه بعد غيابكِ عن أشياء كثيرة، أسأل نفسي بينما أسأل عمّا جذبني إليكِ، غير جمالكِ، وضحكة عينَيْكِ الخضراوَيْن رغم إصرار الجميع على أنهما زرقاوان اللَّتَيْن يمكن لهما أن تُضحِكَا العالم كلّه. الإجابة تمثّلتْ في هذا الإحساس الغامض بأن مصيرنا واحد، وباشتراكنا في البساطة. لم تكوني بالغة التّأنّق مثل جاكلين مثلًا. ولا أُقيّم هذا الآن. فقط أصفه وأراه كان مثاليًا بالنسبة لي. أعتقد أن قراركِ بالرهبنة له علاقة بتكوينتكِ المستغنية أيضًا. ولهذا أعتقد أننا أحببْنا بعضنا البعض. كنّا نبحث عن أشياء أخرى مختلفة عمّا يمتلكه الآخرون.
في هذا الفراغ، وفي مواجهة الزمن، هنا في غرفة المعيشة الصغيرة التي تعرفين. أجلس لأكتب هذه السطور، بينما ينازعني الأمل أن أسمع طَرَقات الباب، وأفتح لأراكِ، فنجلس لنستكملَ هذا الحوار، وكأن شيئًا لم يكن. ولكنْ،حتّى الآن، لا طَرقات. كالأحلام كلّها التي أحلمها ولا تتحقّق. لا أسمع إلا صوت نبضات قلبي المتوتّرة.
سوف أُنصت الآن لأُغنيّة من أُغنيّات ماجدة الرومي التي كنّا نسمعها في الوكر معًا، "خِدْني حَبيبي" أظنّها كانت المُفضّلة بالنسبة لكِ.
"تصبحين على خير أينما كنتِ، يا عمري الضائع".

الجمعة 2 فبراير 1996
الرسالة 5
حبيبتي
تذكّرتُ شيئًا نسيتُ أن أذكره لكِ في الرسالة السابقة حول موضوع إنقاذي من "الجَمَاعة" التي كان مقتل السادات المبرّر الرئيس للانسحاب التدريجي من صحبتهم وللأبد.
بالإضافة للقراءة، كما ذكرتُ لكِ، تذكّرتُ شخصية، أدين لها أيضًا بالكثير. كان ذلك الشخص شابًا أزهريًا، يدرس في المعهد الأزهري، وأكبر منّا قليلًا في العمر، لأنه في العام اللاحق أنهى السنة الثانوية النهائية، وانتقل لدراسة الطّبّ في جامعة الأزهر.
"كان شابًا نحيفًا قصيرًا، ظهره منحنٍ قليلًا، ويرتدي زيًّا مَدَنيًا عاديًا، وغالبًا بنطلونًا رماديًا، يستبدل عليه قمصانًا وبلوفرات ضيّقة.
كنّا نتبادل الحديث كثيرًا بعد انتهاء الصلاة في المسجد، لكنه لم يكن يترك فرصة لكي يحذّرني من "الجماعة" وخطورة الأفكار التي يتبنّونها.
قدّم لي وجهًا مختلفًا للدِّين، أقلّ تشدّدًا، وأكثر انفتاحًا على الحياة. ولهذا كنتُ أبتهج بصحبته بالفعل، وأظنّه أتاح لي وضع حاجز نفسي بينهم، وأعتقد أيضًا أنّهم شعروا بذلك.
كانت هناك نظرات ريبة مستمرّة منهم تجاهي، كأنهم يتشكّكون في ثقتي فيهم وانتمائي لهم. طبعًا الإحساس الذي حاولوا أن يُوصِلُوه لي هو قلّة ثقتهم في تديّني والتزامي. لكني لم أكن أبالي كثيرًا، لأنني أيضًا كنتُ أشعر بشيء مُزيّف جدًّا وطبقي، كما أخبرتُكِ من قبل في تصرّفات العديد منهم. مع إصرارهم على ارتداء الجلابيب القصيرة وإطالة اللحى، والتّعطّر برائحة المِسك الخانق، ووضع السواك في جيوب جلابيبهم. وطبعا يهتمّون بإبراز تلك "الزبيبة" التي تظهر كبقعة داكنة في أعلى رؤوسهم، ليؤكّدوا للعالم على صلاتهم.
كان يسخر من هيئاتهم وتفسيرهم للدِّين، من دون اعتبار للتاريخ الذي مرّ، وكان يرى أنهم شكلانيون، ولا يعيرون اهتمامًا حقيقيًا لجوهر الرسالة الإسلامية، بقدر ما يعتمدون على مرجعيات متشدّدة منتقاة من التراث الدِّيني، وبطريقة مُوجَّهة جدًّا. كان يرى أنهم يريدون فقط أن يقولوا للعالم إنهم مؤمنون. لا ينشغل أيّ منهم بذاته المؤمنة، بقدر ما ينشغل بشكله "المؤمن" أمام الناس.
كان أيضًا لطيفًا وخفيف الظّلّ، وليس مثل قياداتهم الذين لا ترين على وجوههم إلا تلك الابتسامات المتذاكية الصفراء، أو خشوعًا مُرائيًا، أو تجهّمًا غامض الأسباب. أقصد أنه لم يكن مفتعلًا مثلهم، بل طبيعيًّا، وعلى سجيّته.
المدهش أنه لم يختلط بهم إطلاقًا، أو يقف معهم أو يتودّد إليهم. أظنّه كان يعرفهم جيّدًا، ويدرك أيضًا أنّهم على علمٍ تامّ بالطريقة التي يراهم بها.
وتذكّرتُ الآن أيضًا أن بين مَنْ كانوا يراقبوننا، ويحاولون حراستنا منهم، أقصد طبعًا حراستنا من سطوة أفكارهم علينا، أحد شباب الحيّ الأكبر عمرًا. كان متديّنًا معتدلًا، ومَدَنيًا، ويعمل مُعلّمًا للتاريخ. بالمناسبة كان يسكن قريبًاجدًّا منكم، وكنّا نتحدّث كثيرًا عن شقيقه، محترف لعب "الكرة الشراب" في الميدان، لو تذكرين؟

المهمّ، أنه كان حريصًا على إظهار فكرة العقلانية في موضوع التّديّن، خلال الفترات التي كان يجلس معنا فيها أمام المسجد بعد انتهاء الصلاة، أو حتّى في داخل مسجد فريد المصري، قبل إقامة الصلاة أو بعدها، وفي فرصٍ أخرى عديدة. كانت له شخصية المُدّرس القيادي المسيطر على نحوٍ ما، ربّما ليؤكّد بها نفوذه أمام محاولتهم استلاب عقولنا.
في اليوم الذي قُتل فيه السادات على أيدي قيادات الجماعة، تذكّرتُ مقولاتهم عن ضرورة موت الطاغوت، وتساءلتُ هل كانوا بالفعل على اتّصالٍ مع تلك القيادات التي نفّذَت عملية المنصّة؟ هل التقوا أو عرفوا الإسلامبولي؟ أو طارق وعبود الزمر؟ وكافّة الذين تورّطوا في حادث المنصّة؟
بعد الصلاة، لم يكن أحد منهم موجودًا، لم يتواجد سوى بعض الأصدقاء الشباب من عمري ممّن كانوا قد التفّوا حولهم من أجل العبادة والصلاة، أمّا المجموعة الأكبر عُمرًا منّا، فلم نرَ منهم أحدًا.
استدعيتُ كلمات صديقي الأزهري عنهم، وتبيّنتُ أنه على حقّ، فالأمر بالنسبة لهم ليس مُجرّد مسألة دينية وعبادة، بل هناك ما هو أخطر وأبعد تمامًا من ذلك. وصحيح أن كلامًا مثل "الحاكمية لله" وعن "ضرورة قتل الطاغوت" كان يتردّد كثيرًا. ولكنْ، لم أتصوّر أبدًا أن يُصبح هذا الأمر واقعًا.
في الشهور والسنوات اللاحقة كنتُ أتابع أخبارهم، وأعرف أن بعضهم تمّ اعتقاله، والبعض ابتعد عن التنظيم، وإن لم يتخلّ عن ارتباطه بهم. والبعض انتمى لجماعات أكثر تشدّدًا. كانت كلّها قضايا سياسية، وليستْ دينية، وتعميمًا لفكرة "الجهاد" التي تمّ بها تحويل الفكرة أيضًا تدريجيًا من قضية دعوية إلى فصائل مسلّحة، تنتهج العنف ضدّ الدولة وضدّ المجتمع الذي تمّ تكفيره على أيدي قيادات الجماعات.
من بين هؤلاء جميعًا، ارتبطتُ بشخص واحد، كان مُخلصًا للانتماء للجماعة من منطلق التّديّن والتّعبّد. وكان من بين مَنْ يحرصون على الاعتكاف في المسجد في العشرة أيّام الأخيرة في شهر رمضان. كان شابًا أشقر وسيمًا، أخضر العينَيْن، يبدو أصغر من عمره، وذكيًّا. وكنّا نتنافس في تلاوة القرآن في المسجد، بقراءَتَيْن متباينَتَيْن، إذ كانت تروق لي قراءات الشيوخ المصريّيْن الكبار مثل عبد الباسط عبد الصمد، بينما كان ميّالًا للتلاوة على طريقة المدرسة الوهابية.
وصُعقتُ حين عرفتُ لاحقًا أنه تعرّض للاعتقال، وكان بين مجموعة مسلّحة تبادلت إطلاق النار مع الأمن في تلك الليلة الدموية الرهيبة التي سمع فيها أهل توريل إطلاق النار فجرًا.
كنتُ أحاول تخيّل شكله وهو يحمل سلاحًا آليًّا، ويختبئ أعلى سطوح بناية من البنايات التي سمعنا إطلاق النيران من جهتها في تلك الليلة المروّعة، ولم أتمكّن من تخيّلها.. لا يمكن.
أسفتُ على مصيره، وعلى هشاشة تكوينه الثقافي الذي جعل منه لقمة سائغة في أيدي تلك الجماعات الدموية.
ومع ذلك، فلكِ أن تتخيّلي، كان ذلك الشّابّ الأزهري للأسف سببًا في أن أقطع علاقتي بشخصٍ، كنتُ أحبّه جدًّا، ولكنّي لم أخبركِ بالأمر من قبل، لأنني كنتُ أخجل من هذا الأمر.
هل تذكرين "باسم"؛ ابن طنط كارمن؟تصادقْنا في المدرسة خلال فترة اختفائكِ، وبدأتْ علاقتي به قبل التحاقي بالجماعة، واستمرّتْحتّى بعد أن بدأتْ رحلتي معهم بعد موت عماد بستّة أشهر تقريبًا.
كان "باسم" قارئًا ممتازًا، وكنّا نتبادل الكُتُب، وجَمْع طوابع البريد، وصحيح أنه خجول، لكنه بعد أن توثّقتْ علاقتنا بدا لطيفًاجدًّا، وذهبتُ معه أكثر من مرّة إلى "استاد المنصورة"، فبين الأنشطة العديدة المُلحَقَة بإدارة "الاستاد الرياضي"، كان هناك نشاط موسيقي، عرفتُ أنه التحق به، ليتعلّم العزف على "الكمان"، وبدأتُ أتدرّب على الإيقاع، وخصوصًا "الدرامز" الذي كنتُ مبهورًا به، لكن الصديق الأزهريّ بدأ يقول لي إن العلاقة مع المسيحيّيْن مكروهة، وإن الأفضل أن أقطع علاقتي به.

ظلّ في داخلي صراع طويل، لكني حسمتُهُ في النهاية لصالح نداء الدِّين كما صوّروه لي، وقطعتُ علاقتي بباسم. واختفى من حياتي للأبد، وللأسف الشديد. لكن هذا ما حدث، وخجلتُ أن أحكيه لكِ، ولكنْ،لا بدّ أن أعترف لكِ بهذه الغلطة الرهيبة، والعجيبة. أنا أقطع علاقتي بمسيحي؟ وأنا أصلًا ذهبتُ للمسجد للتّقرّب إلى الله حزنًا على موت عماد أقرب الأصدقاء لقلبي. حين أتذكّر الأمر أقول لنفسي فعلًا هؤلاء الناس تسبّبوا في إصابتي بلوثة عقلية.

أتمنّى حين تعرفين بهذا الأمر ألا تفكّري أنتِ في أن تقطعي علاقتكِ بي!

المحبّ للأبد،،،،
الجمعة 8 فبراير 1996

الرسالة 6

حبيبتي..
عدتُ قبل دقائق من محطّة مصر. ودَّعتُ نادية التي جاءتْ إلى الإسكندرية وحدها، وأصرّتْ على العودة في الليلةنفسها. تركتْ نسرين ابنتها في بيت العائلة. العائلة التي تعاني من الفراغ، على ما يبدو!
فالوالد والوالدة يعيشان أزمة. والوضع مشتعل بينهما. يرى السّيّد الوالد المبجّل أنها السبب في إقناعه بالموافقة على زواجنا، أنا وأنتِ! وأنه بسبب ما يصفه ب"قلّة العقل" هذه، تسبّب في كارثة كبيرة. وأمّي تبكي بلا انقطاع حُزنًا، وغضبًا من أبي. فما الذي يمكنني فعله لهما؟
أيّ زواج هذا الذي يتحدّثان عنه الآن؟ أنا هنا في الإسكندرية أُعاني من الوحدة والخوف. وأنتِ حيث تكونين. وحنين وحدها في آخر العالم، ويتحدّثان عن الزواج!

يا أبي! حدِّثني عن الرحمة، أو عن الأمل، أو عن أيّ شيء آخر، أرجوكَ.
سألتُ نادية عن تصوّراتها لحلول مناسبة لأزمة الوالد والوالدة، فاقترحتْ عليَّ أن أُحضر حنين من فرنسا، لكي تزور مصر، ولو حتّى في إجازة قصيرة. فربّما يساعدهما ذلك في تجاوز المحنة. نادية أيضًا تلومني قائلة إن حنين لن تعيش حياتها كلّها هكذا بعيدة تمامًا عن أهلها وعائلتها. وتقول لي إنه يكفي ما تمرّ به من ظروف. كأنني لا أعرف هذا كلّه، كأنني لا أعاني أكثر من الجميع.
أنا بين نيران كثيرة. فكرة وجودها في مصر تُصيبني بالرعب. لكني أضحك من نفسي حين أتأمّل غيابها بعيدًاعنّي في باريس على بُعد مئات الكيلومترات، بينما أتصوّر في ابتعادها عن هذا الجحيم أمنًا وأمانًا!يجعلني أشعر بأنني مُجرّد شخص مختلّ عقليًّا.
بصراحة لا أعرف كيف أفكّر في الأمر. وسوف أبوح لكِ بسرّ: فأنا الذي يدّعي أنه لا يعرف الخوف في حياته، أشعر بنوعٍ مجنون من الرُّهاب. حين أسافر للقاء حنين، تأتيني مشاعر عنيفة بأنني مُراقَب. لا تسأليني كيف؟ أشعر أن قاتلًا مُحترفًا يتتبّعني من مكانٍ خفي لكي يتعرّف على مكان حنين، ويتصيّدها، لتكون هدفًا تاليًا من بعدكِ. وربّما لكي أكون أنا الهدف. وأبذل جهدًا خرافيًّا، لكي أسيطر على هذه المخاوف وأنا معها.

يبدأ الأمر من المطار. أرتاب فيمَنْ يجلس بجواري في الطائرة. أكان رجلًا أو امرأة. أفقد شهيّتي للأكل. وأتظاهر بالنوم للهروب من فكرة وجود مَنْ يترصّد ما أفعله. بعد وصول الطائرة، يصبح الشخص المجاور لي هدفًا لتلصّصي. أتوقّف عدّة مرّات حتّى يتجاوزَني، لأتأكّد أنه لا يتتبّعني. يُحاصرني الشّكّ في كلّ شخص يقترب منّي.
هل تتصوّر نادية أنني سأذهب وأعود بحنين وأنا بهذه الحالة؟ أختي الطّيّبة. لا يمكنني ذلك. لا يمكن.
هل تفهمينني، يا حبيبتي؟ أنا أموت بالخوف. ربّما سأحتاج لعلاج نفسي قريبًا، على الأقلّ، لكي أتمكّن من التماسك لأطول وقت ممكن حتّى أستطيع تدبُّر شؤون حنين.
وجودها مع أحمد حسين وعائلته فعلًا يُسبّب لي الكثير من الاطمئنان، لكنْ، لا أحد في الكون يمكنه إيقاف كَمّ الهواجس التي تسيطر على عقلي يوميًّا.
لذلك لا أرى حلًا للأزمة بين ماما وبابا. إن رغبا، فليسافرا لباريس، ليريا حفيدتهما. وسوف أرافقهما طبعًا، أمّا غير ذلك، فلا يمكنني أن أفعل شيئًا.
الآن لا أملك إلا الانتظار، والكتابة إليكِ،كلّما تمكّنتُ من ذلك.

الجمعة 3 مايو 1996

الرسالة 7

بدون أيّ مقدّمات أشتاقُ إليكِ. دخلتُ إلى حجرة "حنين" اليوم كأنني أراقب نومَها، وأُنصتُ لصوت تنفُّسها الهادئ، كما كنتُ أفعل في سنواتنا الأولى في الإسكندرية.
لم أتمكّن من النوم. حضرتْ ليالينا لمخيّلتي. ظهرُكِ العاري. أبدأ طقوس تقبيله. من الرقبة إلى الكتفَيْن، إلى سِلسلة الظّهر وما حولهما. أتنشّق رائحة جسدكِ بينما أُقبِّل كلّ جزء منه تقريبًا. أنفي مزروعة في لحم ظهركِ، كأنها رقيب الشَّفَتَيْن، تتنشّق كلّ ما تلمسه الشَّفَتَان.
تناثرتْ على فراشي ذكريات ليالينا، في المنصورة وهنا في الإسكندرية. وأقضّتْ مضجعي.
"الناس نامت إلاك.. الناس نامت إلاي.. واقف لِك في الشّبّاك. باستنّى اليوم الجاي. يمكن يِسقينا الشاي. يمكن يعطينا الناي".
يقول منير، وكنّا نغنّي أُغنيّاته معًا زمان. حين كنّا نتوهّم قدرتنا على قَهْر العالم ونحن نغنّي.
"باصص على مين، يا صديق.. على طفل معاه مفتاح".
أستدعي ليالينا التي كُنّا نقضيها ساهرَيْن في الشرفة نُغنّي، أو نُردّد الشِّعْر، أو نضحك كلّما استدعينا مغامرات المنصورة أو بعض شخصياتها الطريفة والغريبة.
تحضر الذكرى، فلا أعرف أأفرح بها وأتمادى في استدعائها؟ أم أكتفي بطيف أشباحها البعيدة؟ أغنّي مع منير؟ أم أُنصتُلمَنْ تحبّين: عبد الحليم، وماجدة الرومي؟
وبينما أستدعي تلك الليالي وجسدكِ الجميل، سمعتُ صوتًا غريبًا. لم أدرك طبيعة الصوت. تهيّأ لي أنه مواء قطّة خارج الشّقّة. وبالتدقيق، سمعتُ صوت حنين من غرفتها يناديني. قمتُ مفزوعًا، ودخلتُ الغرفة. لا شيء!
لم أسمع صوت الكروان منذ افترقْنا. أعتقد أن الكروان مقيم في المنصورة فقط. لم أسمعه هنا في الإسكندرية. هل تذكرين غرامكِ بصوته؟ وإحساسكِ أنني الذي أرسله إليكِ؟
تذكّرتُ ذلك فجأة وأنا أبحث عن مصدر الصوت الذي تهيّأ لي أنني سمعتُهُ قبل قليل. لم يكنْ هناك أحدٌ. ولم يتكرّر الصوت.
وفي كلّ حادثٍ غريبٍ كهذا يسيطر على خيالي وجه حنين الذي لا يفارقني. أسأل نفسي هل هذه علامة؟ هل تواجه خطرًا ما؟ أو ربّما مريضة؟ هواجس العالمكلّه تبدأ في الهجوم على عقلي. لو، لا قدّر الله، أصابها شيء، فسوف يتّصل بي أحمد بالتأكيد.
فكّرتُ في الكتابة لكِ لتخفيف حدّة التّوتّر الذي أشعر به. كأنما آنس بكِ.
يفترض أن أسافر إليها قريبًا، فقد بدأتْ إجازتها منذ أسابيع. وأنا أضرب أخماسًا في أسداس لبحث الطريقة التي يمكن أن أسافرَ بها. اليوم كان إجازة، ولم أفكّر في السفر للمنصورة، من شدّةالتّوتّر والقلق، ولا أحتاج إلى المزيد منه.
لولا تأخّر الوقت، لاتّصلتُ بها، لأطمئنّ عليها. لكني مضطرّ للانتظار حتّى الصباح.
المحبّ العاشق،،
23 يوليو 1996
الرسالة 8
حبيبتي
وأنا أفكّر كيف أبدأ لكِ هذه الرسالة، اكتشفتُ أنني لم أكتبْ إليكِ منذ فترة طويلة.
ولا أعرف لماذا يتداعى لذهني مجموعات من غريبي الأطوار من أهل المنصورة. تذكّرتُ "عمّ نبيل" البقّال، ولا أعرف لماذا؟ هل تذكرينه؟ ربّما تذكّرتُهُ وأنا أستدعي نماذج غريبي الأطوار في مدينتنا. كان شخصية لغزًا. لا نراه إلا مُمسكًا بكتاب. ولو فتحْنا معه موضوعًا، أفاض علينا شرحًا فيه كأنه خبير، وباستخدام لغة عربية فصيحة وفخمة. قيل إنه قضى فترة في المعتقل، ولكننا لم نجرؤ على سؤاله أبدًا.
كنتُ متيّمًا بردّه على تحيّتي له:
– عمتَ صباحًا، يا ابني.
ولو حيّيتُهُ مساء، لقال:
– عمتَ مساءً، يا ابني.
عمتِ مساءً، إذنْ، يا حبيبتي. وقد جلستُ لأكتبَ لكِ اليوم بعد ليلةٍ مريرة قضيتُها أمس. وبمُجرّد ما أشرقت الشمس،اتّصلتُ بحنين طبعًا. والحمد لله الأموركلّها بخير.
تحدّثتُ معها بعد عودتِها من المدرسة، وأخبرَتْني أنها تشعر بتحسّنٍ في الكلام. وأنها الآن أقلّ تلعثمًا، والحروف لا تتعثّر في لسانها، كما كان الأمر في المدرسة الداخلية.
أشعر براحة نفسية كبيرة الآن. فقد اضطرّ أبي لبيع شقّة الإسكندرية التي اشتراها لنا هنا، والتي لم تسمح ظروفنا للانتقال إليها. وأنا أيضًا لم أرغبْ في الانتقال لها. ولولاها ربّما ما عرفنا كيف نُسدّد نفقات علاج حنين في فرنسا.
أخبرتْني أنها سعيدة جدًّا مع سيسيليا، زوجة أحمد، ومع ابنتهما ناتالي. من غرائب الصدف أن حنين أكبر من ناتالي بعامَيْن اثنَيْن، ولذلك، فعمرهما المتقارب أتاح تقاربهما مع بعضهما البعض بسرعة. والآن حنين بلغت العاشرة من عمرها. تصوّري؟ تقول إنها تشعر إنها فعلًا في بيتها. لن أنسى هذا الجميل لأحمد حسين، وزوجته ما حييتُ.
فكّرتُ في موضوع السّيّد الوالد والسّيّدة أمّي، وقرّرتُ أن أخبرهما أنه لا مجال لإضاعة وقت حنين في السفر لمصر والعودة. وأنهما إذا رغبا، فسوف نسافر لها في إجازة الربيع، فلن يحتملا برد إجازة الكريسماس بالتأكيد.
ما إن تأتي سيرة عمّ نبيل إلا وتعاودني رائحة المحلّ. كان مختلفًا. رائحة الصابون العتيق ربّما كانت تسيطر على محلّ عمّ نبيل المعتم نسبيًّا، مقارنة بالبقّالات الأخرى. والطريف أنني، ولا أعرف إذا كنتُ قلتُ ذلك لكِ من قبل أم لا. كنتُ أشتري منه السعوط، أو "النشوق" كما نقول عنه. ألهمَنا إيّاه "أمين الهنيدي" في مسرحية من مسرحياته، كان يعطس فيها بعد كلّ نشقة صارخًا:
"الله يخرب بيتك، يا نشاشقي، يا بتاع النشوق".
جربتُهُ على سبيل المرح والتقليد، لكنني أحببتُ الرائحة الغريبة للنشوق. كان يستدعي عندي مشاهد من رواية "الأرض الطّيّبة" ل "بيرل باك". كان الصينيون هناك يُدمنون الأفيون، ولكني وجدتُ في هذا الخليط البُنّيّ ذي الرائحة الغريبة، الذي يبدو مزيجًا من عبق البهارات والتبغ معًا، ما يذكّرني بالرواية، وكنتُ سعيدًا باقتنائي هذا "الحُقّ" المعدني الدائري الصغير في جيبي، لأُخرِجَ منه بين فينة وأخرى نَشْقَة، أضعها على مدخل أنفي، وأتنشّقها، ثمّ أعطس عطسة قوية دامع العينَيْن، ولم يشاركني هذا المزاج الغريب إلا صديقنا "عليّ"، وربّما جرّبها "جلال" مرّة، ثمّ أخذ يلعن معرفتنا وغرائب تصرّفاتنا.
أمّا الآن في مثل حالتي هذه، لا أحتاج إلى نشوق أو سعوط، بل إلى جرعات من المورفين أو أيّ شيء يُوقِف عمل رأسي، ويُبقيني ذاهلًا.
ربّما لم يحنْ أمر المهدّئات والمخدّرات بعد، يا كريستا. أحتاج إلى أن أكون متيقّظًا جدًّا، ومتأهّبًا، ومستعدًا لكي نمرّ أنا وحنين من أزمتنا هذه أوّلًا.
أفكّرأيضًا في تدوين خواطري، ربّما لكي أشرح لحنين حقيقة كلّ شيء، وحين تكبر يمكنها أن تفهم طبيعة الوضع المعقّد الذي اضطُرّتْ لأن تعيشه. لا أعرف. أخشى إذا بدأت في كتابة هذه المذكّرات أن تُؤثّر في الكتابة لكِ.
هذه الرسائل هي التي تمنحني الأمل بعودتكِ، لأني أكتبها بيقين أنكِ سوف تقرئينها يومًا ما.
حبّي كلّه

الجمعة 16 مايو 1996
الرسالة 9
بالرغم من أنني قضيتُ وقتًا طويلًا في الشركة، لأن لدينا قضايا عديدة الأسبوع المقبل، لكني لم أرغب في العودة للبيت مباشرة. في الأيّام التي أتعرّض فيها لأعباء أكبر في العمل عادة ما أرغب في إراحة ذهني قليلًا. لم أجد في نفسي أيّ رغبة في الالتقاء ببعض الأصدقاء الجدد الذين تعرّفتُ عليهم هنا.
راودتْني الرغبة فقط في المشي على الكورنيش، والتّوقّفقليلًا عند بعض الأماكن التي قضينا فيها، أنت وأنا، أوقاتًا رومانسية.
أتساءل أحيانًا ما الذي يُبقيني في الإسكندرية؟ إذا كنتُ خسرتُ فيها أهمّ إنسانة في حياتي، وإذا ما عادت إلا مكانًا مُوجِعًا ومَوضِعًا لاستعادة الذكريات؟
ليس لديّ إجابة محدّدة. كما أنني لستُ راغبًا في العودة لبيتنا في المنصورة، لأن نظرات الشفقة التي ستُسلّطها أمّيعليّ هي آخر ما قد أفكّر فيه الآن، كما أنني لن أتحمّل أيّ نقاشات عقيمة مع أبي حول المستقبل وعودة حنين لمصر.
ساعات يتمحور تفكيري حول شخص واحد، وهو خالكِ موريس. لا أعرف لماذا أشعر أنه الوحيد الذي يقف خلف الأحداث؟ حدّثتِني كثيرًا عن انشغالاته بأشياء، لم تكن تخطر على بالنا عن المسيحيّيْن والمسلمين، لا نعرف من أين كان يجمعها.
كان مُتَزمّتًا بشكلٍ يجعلني اليوم أشكّ فيه أكثر من غيره. ولكني لا أستطيع أبدًا التخمين في حقيقة ما فعله. هل أجّرَ أشخاصًا، ليخطفوكِ مثلًا؟ ولكنْ،حتّى لو حدث ذلك، فإلى أين؟ هل ذهبوا بكِ إلى دَيْر مثلًا؟ أم، لا قدَّرَ الله، فعل ما لا قدرة لي على تخيُّله. لا أظنّه يمكن أن يؤذيكِ، فهو، مهما كان الأمر، خالُكِ في النهاية.
سيرة خالكِ موريس تُسبّب لي الغضب، وتثير في ذاكرتي ملامح كلّ مَنْ عرفتُ من متطرّفين ومتعصّبين. القَتَلَة والمجرمون كلّهم.
كنتُ في الفترة التي أحاول فيها البحث عن أسئلة لإجاباتي عن معنى الحياة مشغولًا بسؤال باطني واحد. كيف يراني الله؟ كنتُ أحبّ السجود، لأنه من أكثر لحظات إحساسي بأنني أتوجّه إليه وحده. لا يراني أو يشعر بما يدور في خلدي إلاه. كنتُ آمل أن أفعل الصواب فقط، وما يُقرّبني إليه، ولا يؤذي أحدًا. أحبّ أن يقرأ الإمام من سورة، تكون فيها آية ممّا يستوجب إيقاف التلاوة، وأداء سجدة إضافية، وأيضًا كنتُ أحبّ أن أقرأ من المصحف، فتصادفني آية من آيات السجود، فأضع المصحف بجواري، لأؤدّي السجدة، وأعاود التلاوة.
لكنْ، ما إن أرفع عينَيّ من السجود، وأرى أمامي واحدًا من المُرائين الذين يُظهِرون خشوعهم التمثيلي لنا نحن البشر حتّى تمتلئ روحي بالغضب. كانت الشكلانيات والمظهرياتكلّها تُنفّرني، أكانت في الحياة العامّة أو في ادّعاء التّديّن، ولهذا بدأتُ تدريجيًا أبتعد عن المظاهركلّها، بل وأصبحتُ أشعر باحتقار كلّ محتفٍ بالمظاهر الشكلانية، لكي يظهر للناس أنه مؤمن أو متديّن.
وخالكِ واحد منهم بالمناسبة، وهو عندي مثله مثل أيّ من المتطرّفين الإسلاميّيْن، والمنافقين.
في الوقت الذي تحلّ فيه هذه الهواجس على خيالي، أفكّر في الذهاب إليه مباشرة، لعلّني أُجبره على الاعتراف بكلّ ما أشكّ في أنه السبب الحقيقي وراءه. وربّما وجودي هنا بعيدًا عنه يحميني من مخاطر، لا حاجة لي بها الآن. وبالرغم من يقيني هذا، فأنا في النهاية لا أملك دليلًا على تورّط خالكِ في ذلك كلّه.
لكن زيارته للوالد في البيت، كما عرفتُ، من نادية أمرًا لا يمكنني السكوت عليه. وأحيانًاأفكّر أنه إمّا يحاول أن يعرف عنّي أو عن حنين شيئًا، أو يُدبّر لي أمرًا. نادية تقول إن بابا صرفه بهدوء، وإن الأمر لا يستدعي الاهتمام.
لكن الشيطان تملّك عليّ، وقرّرتُ الذهاب للمنصورة. ذهبتُ بالقطار، ونزلتُ من المحطّة مباشرة إلى بيت خالكِ. وكنتُ أغلي من شدّة الغضب. ولا أعرف كيف أسيطر على نفسي. وما إن ظهر حتّى لكمتُهُبقوّتي كلّها. ولن أحكيَ لكِ بقية التفاصيل، لأنها مُخجِلَة، فقد انتهى الأمر بنا في قسم ميت حدر. وتعهّد كلّمنّاألا يتعرّض للآخر.
ربّما لا أستطيع أن أتّخذ قرارًا بالانتقال إلى القاهرة أو أيّ مدينة أخرى، لأنني لا أمتلك الهمّة لذلك بصراحة. أعتقد أنني مُنهَكٌ عصبيًا، لدرجة تمنعني من عمل أيّ شيء خارج نطاق الأمور الروتينية التي أعدّ نفسي مُجبَرًا عليها.
عرفتُ أن أبي صفّى أعماله في الشركة، واشترى أرضًا زراعية قرب بدواي، ويذهب ليباشرَها أغلب الوقت الآن.
أنا أعتمد عليه كثيرًا بصراحة في تدبير مصروفات حنين حتّى الآن. وهو لم يتأخّر، خصوصًا في فترة علاجها. لولاه لا أعرف ماذا كان يمكنني أن أفعل. الدخل الذي يتوافر لي من العمل بالكاد يكفي مصروفاتي وقَدرًا من مصروفات الإعاشة التي تحتاجها حنين أو بعض طلباتها.
مؤخّرًا فقط، بدأتُأفكّر في البحث عن عقد عمل في أيّ مكان خارج مصر، فلربّما سيكون هذا هو الحلّ المثالي، سأبتعد عن الذكريات والهواجسكلّها التي تُحاصرني هنا، ثمّ أستدعي حنين أيضًا، لتعيش معي.
لكني لستُ مستعدًا لذلك بعد. أحتاج إلى الاطمئنان أوّلًا على شفاء حنين التّامّ، والتّأكّد من قدرتها على تجاوُز محنتها النَّفْسية بشكل كامل. لا أريد أن يكون انتقالها مرّة أخرى من غربة إلى غربة سببًا لتأخّر حالتها.
أفكّرأحيانًا في تغيير المكان، وخصوصًا هذه الشّقّة التي تربطني بكما، فلربّماتحسّنتْ حالتي النفسية قليلًا. ولكنْ، مَنْ يملك أن يبثّ الحماس في روحي الخاملة، لكي أبحث عن شقّة، وأجد واحدة مناسبة، ثمّ أنتقل إليها وأنا في حالتي هذه؟ صعب جدًّا.
كلّ ما أفعله هنا لا يُذكّرني إلا بكِ. المشي على الكورنيش. الجلوس في مقاهينا المفضّلة. الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم. مطاعم السمك. المشي فجرًا تحت المطر. كلّ شيء. وحتّى حين ألجأ لأماكن جديدة، لم نذهبْ إليها معًا، فسرعان ما يحلّ طيفكِ وأراكِ جالسة بجواري، كأنكِ تصنعين معي الذكريات بروحكِ أيضًا.
المنصورة والإسكندرية بعد أن كانتا مدينتَيالحبّ بالنسبة لي، أصبحتا مدينتَي الألم، والذكريات، لشخصٍ يتمنّى أن يُصاب بفقدان الذاكرة.. فتخيّلي!
أنام بالساعات هروبًا من الذكريات، فأحلم بكِ. لكن الحلم الذي تبدين لي فيه جميلة وهادئة ومحبّة بضحكتكِ التي يضحك لها العالم، يختلف عن الذكريات، لأنه يُسبّب لي سعادة حقيقية.
المشكلة أني لا أستطيع أن أُوفّر وقتًا مناسبًا لإجازة طويلة، أقضيها معها في فرنسا، لأني أيضًا مضطرّ ألا أتأخّر على زيارتها طويلًا.
أشعر بالتعب. أحيانًاأفكّر بالتّوقّف عن الكتابة إليكِحتّى أتجاوز هذه المحنة.
بدأتُ الاتّصال بعدد من الأصدقاء، وبينهم صديق قديم، اسمه مصطفى، يعيش في دبي، ويعمل في الشؤون القانونية بشركة هناك، وأبدى استعداده لبحث عن فرصة ما هناك. لو توفّق في ذلك، فلن أتردّدغالبًا.
14 مارس 1997
الرسالة 10
حبيبتي
كَمَنْ يشعر أنه لن يرى المنصورة مرّة أخرى، قضيتُ ثلاثة أيّام، ولكني لأوّلمرّة لم أجد نفسي راغبًا في البقاء في البيت مع أمّي وأبي كما هي العادة. مررتُ على نادية في المختلط، وعندما نزلتُ من عندها، وجدتُ في نفسي رغبة في المشي. تركتُالسّيّارة في مكانها.
ذهبتُ لزيارة خالتي دُرّيّة في بيتها في "السِّكَّة القديمة". طرقتُ الباب الخشبي الضخم في مدخل العمارة القديمة بالمقبض المعدني الضخم، فشدّت الحبل المربوط، بالقفل الداخلي ليُفتَح الباب من دون أن يُضطرّ أحد للنزول لفَتْح الباب. وصعدتُ درجات السّلّم الرخامي، التي تبيّن لي أنها تآكلت تمامًا. ووجدتُها تقف على باب الشّقّة في استقبالي.
فرحتْ خالتي بالزيارة، فهي تعيش وحيدة بعد زواج وسفر أحمد وسعيد. وشربْنا الشاي على سيرة الذكريات. خرجتُ للشرفة التي كنتُ أطالع منها وأنا صغير، فناء كنيسة الروم، التي وقعتُ في غرام المسيحيّيْن بسببها. استعدتُ ما بقي من ذاكرتي. استعدتُ زمنًا كاملًا، وصخبًا وحيوية وهرجًا ومرجًا وألوانًا كانت تُميّز مشهد الفتيات والشباب في الكنيسة.
ونادتْني خالتي محذّرة بأن الشُّرفة معرَّضة للسقوط في أيّ لحظة، والبناية كلّها قد تتعرّض في القريب العاجل بعد إحضار المالك، ما يُثبِت أنها آيلة للسقوط، لاستخراج قرار إزالة، لأنها يجب أن تُهدَم. وشعرتُ بحزن ثقيل جدًّا وأنا أجلس معها، أراقب السقف الخشبي الشاهق، وأنا لا أتخيّل أن هذا المبنى شبه الأثري يمكن أن يتعرّض للهَدْم. كلّ شيء يتهدّم الآن، يا كريستين. كلّ شيء آيل للسقوط.
المهمّ أني بعد أن ودّعتُ خالتي، مشيتُحتّى "ميدان المحطّة"، وتوقّفت قليلًا في الميدان، لأنني صادفتُ صديقًا قديمًا، استعدْنا معًاأيّام الزمن القديم، حين كنّا نسهر لنشرب البيرة في بار "أندريا" القديم المجاور للمقهى نفسه، الذي يقع في المساحة بين جدار المقهى الجانبي المُطلّ على الشارع الضّيّق الصغير، وجدار مطعم رمضان الكبابجي الواقع في شارع الصالح أيوب.
ذكّرني بأضواء البار العتيق الحمراء، وبالكحول المحلّيّ الذي كان متاحًا لنا بقروشنا القليلة. وخلال وقوفي معه، تذكّرتُ صديقًا آخر من "الحوّار"، فكّرتُ أن أتّصل به.
أخبرني محروس أنه في "نادي الشعب" في شارع بورسعيد. ذهبتُ إليه هناك،ثمّ انتقلْنا لنجلس في مقهى شعبي، اعتدْنا الجلوس إليه في حيّ "الثلاجة" بجوار سور القطار، وضحكْنا كثيرًا. كنّا نلعب كرة القَدَم معًا في الأيّام الخوالي، في "توريل الجديدة" حين كانت أغلبها منطقة ترابية خالية، ثمّ في "نادي الشعب"، وفي الساحة الشعبية القريبة من شارع العبّاسي أحيانًا. ثمّ في "تقسيم السمنودي" قرب شارع الجلاء، حين كان التقسيم لايزال أرضًا خالية.
تذكّرنا أيّام الجامعة، وبعض جولاتنا ليلًا انطلاقًا من بيتهم القريب من "مسجد موافي" في "شارع بورسعيد"، قرب "دار ابن لقمان"، وحتّى نهاية الشارع للجلوس على مقهى شعبي لاستكمال أحاديثنا. أو لتناوُل البيرة في "أندريا" أو أحيانًاكنّا ننطلق من بيتهم باتّجاه مسجد الصالح أيّوب، لكي نصل للزقاق الذي يقع فيه "فندق القاهرة" القريب منه.واستدعيْنا جولاتنا في مدينة المحلّة حين كان المَلَل يستولي علينا، ولا نجد ما نفعله، فنسافر إلى المحلّة بسيّارة أيّ صديق، لنتعشّى هناك، ونعود.
حين قلتُ له إن جوانب كبيرة من حياتنا كانت مُجرّد عَبَث، فضحك وذكّرني بالمقام الغريب الموجود في "شارع سيدي عبد القادر". كان بناءً صغيرًا غريبًا وغامضًا، كنتُ أتصوّر أنه يماثل "التكية"، التي ذكرها محفوظ كثيرًا في "الحرافيش"، كما قلتُ لكِ مرّة، ونحن نقرؤها معًا.
كنّا في شبابنا نتوقّف، وننظر من قضبان النافذة على الضريح، من دون أن نفهم أبدًا سرّ وجود المقام أو كرامات "سيدي عبد القادر".
وتذكّرتُ، في أثناء جلوسي مع محروس، واقعة غريبة جدًّا، لا أعرف إذا ما كنتُ أخبرتُكِ بها أم لا. كانت ليلة من تلك الليالي التي يجد المرء فيها نفسه محتارًا، ومُشوَّشًا عاطفيًا وذهنيًا.
أظنني كنتُ سهرانًا لأجل المذاكرة، ولكني شعرتُ بالمَلَل، فقُدتُ سيّارة أبي حتّى الجامعة وأنا أُنصِتُ لخالد الشيخ. كانت ليلة اكتئاب، يليق بها أن يسمع المرء أُغنيّة مثل "عيناكِ". ربّما كان الأمر يتعلّق بكِ. لم أعد أذكر هل كانت بيننا مشكلة؟ أم أنني كنتُ أمرّ بالحالة الطبيعية آنذاك: مُجرّد عاشق يعاني من الأرق؟
تجوّلتُ بالسّيّارة الجولة التقليدية من توريل إلى الجامعة. وعند المَشّاية السّفلية، تقريبًا بعد "كوبري طلخا" مباشرة، فوجئتُ بشخصٍ، لم أتبيّن ملامحه جيّدًا، ينزل بسرعة من الدرج العُلوي القادم من الشارع العُلوي، ويمرّ أمامي راكضًا، خفّفتُ السرعة وأنا مندهش من شخص، يركض إلى الجهة الأخرى، حيث لا يوجد شيء غير مياه النهر بهذه السرعة، وفي هذا الوقت قريبًا من الفجر.
بعد جولة قصيرة أخرى بالكاد، كنتُ عدتُ من الجامعة إلى أوّل شارع بورسعيد، تذكّرتُ المشهد، فقرّرتُ أن أعود للمكان نفسه، فوصلتُحتّى إشارة "الهابي لاند"، ودرتُ عائدًا، وحين وصلتُ للمكان الذي مرّ أمامي الفتى فيه، وجدتُ جمهرة وزحامًا، وعددًا من السّيّارات التي رُكنتْ في صفٍّ طويل، فأوقفتُالسّيّارة. ونزلتُ لأرى ما يحدث.
أخبرني الواقفون أن شابًا انتحر غرقًا قبل قليل في النيل، وأن قوّة من الضفادع البشرية نزلت النهر لإخراج الجثّة التي اكتشفها أحد المشاة بالصدفة.
اقشعرّ بدني، وأنا أحاول استدعاء ملامح الفتى، وانتابني إحساس مرعب بتأنيب الضمير، لأنني لم أتوقّف في تلك اللحظة، لأفهم سرّ رَكْض الفتى الذي مرّ أمامي بهذه السرعة باتّجاه النهر.
فكّرتُ في الأسباب التي تجعل شابًا يقرّر ويُنفّذ فكرة الانتحار بهذا الشكل. كنّا في فترة الاستعداد للامتحانات، فهل أدرك أنه ليس مستعدًا، أو تعرّض لضغوط نفسية، جعلتْه يتخلّص من حياته؟ هل هناك قصّة حبّ فاشلة وراء هذا القرار؟ هل أحبّ فتاة، وتزوّجت مؤخّرًا؟
لم أجد إجابة، ولكني أيضًا لم أتحمّل الانتظار، لكي أرى الجُثّة، خصوصًا وأن رجال الشرطة كانوا بدؤوا في التوافد وإبعاد الواقفين.
لا أعرف لماذا تذكّرتُ الفتى بينما أجلس مع محروس، عندما تحدّثنا عن العَبَث؟

وفي اليوم التالي،اتّصل بي محروس، ليُبلغني بموت صديق عزيز علينا جدًّا، اسمه كارم الناصري، وهو واحد بين مَنْ كانوا يشاركوننا تلك الأيّام التي ذكرتُها لكِ. لم أُصدِّق الخبر، وفي السّرادق الذي أُقيم في "جامع النصر" مساء، استدعيتُأيّامًا كانت قد غابتْتمامًا عن بالي.
كنّا نمرّ على "مطعم الدمياطي" الذي يقع على ناصية شارع، أظنّه كان يحمل اسمًا أجنبيًا غريبًا "شارع دليور" الذي يتعامد على شارع البحر. ويصل للسِّكَّة القديمة. وكنّا نتناول فيه ورقة اللحم في الفرن الشهيرة، بسبب رغبة محروس في تناوُلها، قبل أن نذهب للعب كرة الطاولة في النادي التجاري في العمارة المجاورة. و"قهوة رمسيس" التي كانت تحمل اسم "أوبرج رمسيس". يا الله، كانت أيّامًا.

قضيتُ ثلاثة ليال أعادتْ لذهني ذكريات المنصورة كلّها، في عالمكِ، وفي عالمي الذي لم يكن متاحًا لكِ مشاركتي فيه. ولا أزال أشعر بأنني ربّما لن أرى المنصورة مرّة أخرى. هل لأن موعد سفري اقترب للإمارات؟ لا أعرف.
سامحيني لو تأخّرتْ رسائلي إليكِ، وعزائي أنكِ بالتأكيد تعرفين أن حديثي إليكِ لا يتوقّف، صحوًا ومنامًا..
وربّما حيًّا وميتًا، يا حبيبتي.

18 سبتمبر 1998
يوستينا
ميلادٌ ثانٍ
قلنَ عنّي إني أرى الأشباح. وصفنَني بصفاتٍ عديدة؛ المُقدّسة، بنت المَحبّة، خادمة الرّبّ، وغيرها.
وُلدتُ مرَّتَيْن، ومتُّ عشرات المرّات. ولادتي الأولى وما أعقبها ظلّت سرًّا. لم تُسعفْني ذاكرتي بشيءٍ عنها. حاولتُ. حاولتُ. ثمّ أخفقتُ، وأخفقتُ.
ميلادي الثاني بدأ بعد غيبوبةٍ طويلة. عدتُ منها ذاهلة. كَمَنْ يُولَد لأوّلمرّة. ذاكرة بيضاء.
بُعثتُ من جديد. كُتبت لي حياةٌ جديدة كما أخبروني، وبدأتُ حياتي كما أرادوها لي. تبيّنوا أنني قادرة على مواصلة الحياة. أخبروني أنهم سيعودون بي إلى مكاني. المكان الوحيد الذي يليق بي. الذي اختاره لي الرّبّ. هززتُ رأسي تفهّمًا وتأييدًا لما يقولون، وأخفيتُ ارتيابي وشكوكي.
فطنتُ إلى مولدي الأوّل بفضل جسدي. منحني إشارات وعلامات، أثارت أسئلتي. جسدي أكّد لي أنني عشتُ حياة أولى. سألتُهُ أكان فيها مخيّرًا أم مُجبَرًا، كما شأنه الآن؟ لم يجبْ. ناديتُهُ: يا جسدي، يا جسدي الجميل الرائع الذي لا يُتاحُ لي حتّى رؤيته في مرايا. سألتُهُ: هل كنتُ حُرًّا في حياتي الأولى؟
كيف أُبعث للحياة بجسد كهذا؟ حين بُعثتُ للحياة لم يكن جسد طفلة، بل جسدًا فتيًا، قويًا وشابًا. جسد أنثى خبرت حياة لا تعرفها. جسدٌ له ذاكرة، لكني لا أملك خارطة الطريق إليها.
قَمَعُوا صوتي. في حياتي الأولى والثانية، على السواء. عشتُ صامتة، أُنصِتُ لما يقولون، وأستجيب. لا بدائل. أسئلتي يلتقطونها من نظرات عيني إليهم. من شكوكي التي تطلّ من عينيّ. يختتمون كلماتهم ب "مشيئة الرّبّ". حاولوا بكلمات كثيرة يطمئنوني لمصيري الذي اختاروه لي. شعرتُ بنبرة التهديد التي تحملها كلماتهم المطمئنة.
بعد شهور، وبالتدريج، سوف أستوعب أن ما أرادوه لي ليس سوى مشيئتهم.
ورغم نسياني كلّ شيء في حياتي الماضية، رأيتُ بعض الوجوه الضبابية تلاحقني في نومي.
عقلي الذي أصبح مثل شاشة بيضاء جائع للمعرفة. كلّما عرفتُ شيئًا جديدًا بات بإمكاني أن أفهم شيئًا عن حياتي.
أنتظر الليل بفارغ الصبر. أؤدّي مهامّي اليومية، أشارك في تنظيف الدَّيْر، أستمع إلى الموعظة، أتعلّم الحياكة، أتدرّب على صناعة الأيقونات، أشترك في إعداد طعام الراهبات. أتعلّم الصلوات، وأحفظها عن ظهر قلب. وأُصلّي. أُصلّي طويلًا. ثمّ يأتي الليل، بالأحرى ساعات الصمت التي تُفرَض علينا يوميًا. أطلبُ الخلوة في القلّاية، لكني لا أختلي إلا بكتاب في غالب الأحيان. "الكتاب المقدّس" في البداية، وأجد في قراءته لذّة كبيرة. متعة عقلية، وراحة لروحي. بعض الكلمات لا أفهمها، أُعيد قراءتها، لأحفَظَها عن ظهر قلب، أجد الفرصة لسؤال ما يدلّني إلى جوهر المعاني.
بالقراءة امتلكتُ صوتي، بدأتُ أفكّر وأتأمّل. لم يكن الأمر سهلًا، لكن شيئًا في رأسي كثيرًا ما يلتقط ما أقرأ كأنما قرأتُهُ في السابق. هل كانت ذاكرتي المفقودة تحاول استعادة عافيتها؟ لا أدري. لا يقين. لم أتذكّرشيئًا عن حياتي السابقة.

هذا الدَّرْس علّمني ما هو أهمّ: حياتي الراهنة يجب أن تُعاش بأقصى ما أملك من قدرة على الحياة، علّمني الجدّيّة، وكلّ ما ينبغي عليَّ فعله: التّعرّف على تاريخ المكان الذي زُرعتُ فيه، وقيل لي إنه مكاني الأخير. فهم خبرتي التي تتشكَّل في المكان،ثمّ مقارنتها بحيوات الآخرين. لكني لم أرغبْ في مقارنتها مع الراهبات الأخريات، لأن غالبيّتهنّ يعتقدنَ أنه لا معنى لحياة سابقة لهنّ، عشنَها خارج الدَّيْر. كنّ يردّدنَ أنهنّ مثلي تمامًا لا يمتلكنَ ذاكرة لحياتهنّ التي سبقتْ وجودهنّ داخل الدَّيْر. وصفنَني بالمحظوظة بفقداني للذاكرة، فبهذا سأتمكّن من التّفرّغ التّامّ للعبادة والصلاة من دون منغصّات أشباح الماضي، وشياطين الحياة الدنيوية.

وابتسمتْ لي الأمّ أنطونيا وهي تقول إننا هنا لن نجدَ الوقت، لنستعيدَحتّى ماضينا. فلا وقتَ لدينا هنا سوى للعمل والصلاة.
همسُ الشياطين
لأجل الميلاد الجديد تحتّم عليهم قَصّ شَعْر رأسي. ولم أهتمّ. خضعتُللطقوس كلّها في استسلامٍ تامٍّ. فقد كانت الوجوه تشعّ بالرصانة، وتمنحني الإحساس بأنها تؤدّي مهمّة مقدّسة.
أتأمّل ثوبي الأبيض، وأتحسّس رأسي بلا شَعْر تقريبًا، وأجفل من مَلمَسها، لكني لا أهتمّ. أكّدوا ضرورة الانسلاخ عن كلّ ما يربطني بحياتي سابقًا. جرّدوني من أُنُوثتي أيضًا. الآن ليس لديَّ شَعْر أعلى رأسي، وعليَّ تناسي شهوتي، وموضعها أيضًا.
أُنصِتُ إليهم وكأنهم يتحدّثون عن شخصية أخرى. ليكن، طالما هذا ميلادي الجديد.

وبمرور الوقت، وباستيعاب أنني في بيت الرّبّ، بدأتُ أستريح للفكرة، وأتعلّم جديدًاكلّ يوم. قلتُ لنفسي إذا كانت الأخواتكلّهنّ هنا قد أودعنَ ذاكرتهنّ عناية الرّبّ، وبدأنَ حياة جديدة، فلستُ بأفضل منهنّ، بل لعلّي أكون بهذا النقصُ القَدَريّ الذي أُصيبتْ به ذاكرتي الضائعة حظيتْ بمكافأة، مُنحَتْ لي بكرمِ الرّبّ العظيم.
قالوا إني محظوظة بميلادي الجديد الذي به قد تطهّرتُ من خطاياي. ولم أكن أرغب في معرفة شيء عن ماضيّ الذي نسيتُهُ، فما الجدوى من ذلك؟ ما تركتُهُ خلفي أيًّا كان، انتهى للأبد. بالذاكرة المفقودة والنسيان.

لكن الأمر الوحيد الذي تمنّيتُ حقًا معرفته هو الخطيئة. أقصد خطيئتي أو خطاياي، فإن لم أعرفْها، وأُدركُ مدى سوئي وانصياعي للشيطان، فكيف لي تجنُّبها هنا في بيت الرّبّ؟
نقلتُ هذه الهمسات لأذن "الأمّ أنطونيا"، فأوضحَتْ لي أنها همسات الشيطان. وحذّرتْني منها، وطالبتْني بالصلاة. وبين نفسي ونفسي تعجّبتُ من إمكانية وجود الشيطان هنا في بيت الرّبّ. ولكني لم أُخبرها بما فكّرتُ فيه.
وفي اليوم المعلوم ذهبتُ إلى المذبح معلنة تكريسي حياتي للرّبّ مع راهبَتَيْن أخرَيَيْن، وتلوتُ ما حفظتُهُطَوَال الليل: "لقد صمّمتُ، أن أكرّس نفسي لله بكامل كياني، لمجده تعالى، وأن أتبع سيّدي يسوع المسيح حياتي كلّها، في خضوع بنوي لمريم العذراء، سلطانة الوردية، وإني أمام أخواتي الحاضرات هنا، وبين يَدَيْكِ، أيَتها الأمّ الرئيسة العامّة، أنذر لله، نذر العفّة والفقر والطاعة، في رهبانية الوردية. وإني لأَعِد أن أكون أمينة في المحافظة على قوانين هذه الرهبانية، التي وهبتُ لها ذاتي، عن حُرّيّة وتصميم، على رجاء البلوغ إلى كمال المحبّة، وبالثبات في خدمة الله والكنيسة، بنعمة الروح القُدُس، ومعونة مريم العذراء،أمّي".
أعلنوا لي اسمي بعد الميلاد الجديد: الأخت "يوستينا"، فرحتُ أردّده لنفسي حتّى لا أنساه، فهذا ما يهمّني الآن. أن يكون لي اسمٌ أعرفه، فلن يُخبروني، حتّى، باسمي في حياتي الأولى. فحتّى أوراقي الرسمية في الدولة الآن أيضًا مُدوَّنة باسمي الجديد. كأنهم يريدون قَطْعَكلّ صلة لي بهذا الماضي، الذي يبدو لي كلّه من عمل الشيطان.
اليوم أصبحتُ أعي أنني فقدتُ ذاكرتي، وبدأتُ أُصدِّق في كون هذه التجربة التي مَنَّ بها عليَّ الرّبّ هي الأفضل للجميع، نعم، فلعلّها هبة ربّانية، مكافأة إضافية من الرّبّ.

جسدي في الأحلام
ناجيتُ يسوع، سيّدي وحبيبي، وقدّمتُ صلواتي للعذراء البتول، لهما ابتهلتُ، وأعلنتُأنّي وهبتُ روحي للرّبّ، فلا حاجة بي للذاكرة، إن كانت خطيئتي أكبر من الغفران، فها أنا قد مُنحتُ رحمة الرّبّ بالنسيان. وإن كان في استعادتي لذاكرتي يومًا خير، فلتكن مشيئة الرّبّ.
وهكذا وَهبتُ روحي للرّبّ، لكن جسدي كان يلحّعليّ بالمعرفة. كنتُ أدرك أن الشيطان المتربّص يزيُّن لي البحث عن كلّ ما هو ممنوع. ولهذا انشغلتُ عن جسدي بالعمل، بطَهْي الطعام للأخوات، وأعمال النظافة المُوكَلة إليّ، وبالصلاة.
لكنه تسلّل إلى أحلامي. رأيتُ جسدي في الحُلم، فتعرّفتُ عليه كإنسانة خطّاءة، وفي الحُلم، ساورني إحساس بأن هذا الجسد كان له عُشّاق، أو ربّما عشيق ما. حاولتُ تخيُّل شكله. وفي الأحلام أيضًا أدركتُ أن جسدي ليس بريئًا تمامًا، لأنه استوعب روحًا أخرى. ثمّة قلب آخر خَفَقَ في أعماقي، أسفل قلبي مباشرة. هل كان طفلًا أم طفلة؟ لا أعرف؟
استدعيتُ الحُلم الذي منحني العلامة رغم غموضه. لكني لم أحتجْ إلى تدوينه، لأنه تكرّر أكثر من مرّة. كان الحُلم بالنسبة لي مُجرّد إثبات لذاكرة الجسد.
ألقيتُ نظرة سريعة على جسدي في مرآة الحمّام الموضوعة على الجدار أعلى الجانب الخلفي للبانيو، الذي لا أذكر أني رأيتُهُ في الدَّيْرأبدًا. استدرتُ بشكل عابر، لأتأمّل التّرهّلات عند الخصر. مرّتْ على روحي لحظة من الإحساس بالشفقة على نفسي. خرجتُ من البانيو، وقبل أن أمدّ يدي لأتناول البشكير الأحمر الطويل، انتبهت لصوت رفرفة عابرة عند النافذة، تزامنتْ معها اختلالات هيّنة للإضاءة النهارية الساطعة القادمة عبر النافذة. التفتُّ باتّجاهها فلمحتُ شبحًا غائمًا لطائرٍ يتهادى على حدّ النافذة، وسرعان ما التقطتْ أذني صوت هديله الحزين.
جفّفتُ جسدي سريعًا، وخرجتُ من الحمّام. لم أجفّف شَعْري جيّدًا. خرجتُ من الباب الخشبيّ الذي يفصل بين شقّتي وهذا السطوح الذي يقع أعلى برج سَكَني. في الحُلم، موعد للقهوة. أخرج بها، أضعها على منضدتي الصغيرة المجاورة لكرسيّ هزّاز وثير.
روّعني هدير طائرةٍ مرّتْ من فوق المبنى. ظلّ الصوت الراعد يتوعّد العالم لوهلة قبل أن يتلاشى مخلِّفًا في قلبي شعورًا بالوَجَل. تجمّدتُ في مكاني، أتابع الطائرة التي اختفتْ عن نظري في ثوانٍ. استعدتُ هدوئي. تابعتُ المشي بخطوات وئيدة، أتأمّل أصص الشجيرات. أتنشّق عبير الورود. ممرّ مُبلَّط يصطفّ على جانبَيْه مجموعة من أصص فخارية ملوّنة، يحتوي كلّ منها نباتاتي الملوّنة بالألوان كلّها، التي منحتُ لكلّ منها اسمًا، أتأمّلها جميعًا يوميًا، أتحدّث إليها، أناجيها، وأُنصتُ لما تهمس به. أسقي تربتها، وأتحسّس وريقاتها وأزهارها، وأنثر من زجاجة خاصّة لها بخّاخة رذاذ المياه عليها. كانت روح هذه الكائنات هي ما يُؤنِس وحدتي، ويصنع عالمي الروحي هنا.

استيقظتُ من النوم مذعورة ممّا رأيتُ، ولَمْلَمْتُ ذاتي. كان ريقي جافًا. استعدتُ صورة جسدي كما رأيتُها في الحُلم. شعرتُ أنها لجسدٍ عجوز. ليستْ لي. ارتعبتُ من عالم الأحلام الذي يعصف في خيالي بصور، لم تخطر ببالي أبدًا. قاومتُ رغبة طارئة في مقارنتها مع صورته الحقيقية. همستُ باسم الصليب. وصلّيتُ للرّبّ باسم عظمة رحمته، لكي يُنقذني من الشيطان.
حاولتُ استعادة أسماء النباتات كما كنتُ أردّدها في الحُلم، ولم أنجح. طردتُ من رأسي ما سمعتُهُ من قصص عن الخطيئة، التي لاحقتْ فتيات كثيرات، بعضهنّ جئنَ إلى هُنا هربًا من الفضيحة، واستلاذوا بنا.
طلبتُ أصصًا فخارية في صباح اليوم التالي من حارس الدَّيْر، وزرعتُ في كلّ منها نبتة، وأسميتُها واحدة بعد أخرى. "حياة"، و"ردة"،" ليلة"، "ملاك"، "حنين". حاولتُ استدعاء أسماء النباتات التي رأيتُفي الحُلم. لم أذكر شيئًا، لكني أذكر أنني تعلّقتُ باسم وردة كان اسمها في الحلم "حنين"، نعم، تعلّقتُ بحنين. كانت أصغر من غيرها. شتلة صغيرة لونها الأخضر يافع وجميل.
ذاكرة المشاعر
أتخيّل أن اسمي الحقيقي الذي عُرفت به في حياتي الأولى قد يكون واحدًا من تلك الأسماء التي منحتُها لنباتات الرّبّ التي تولّيتُ رعايتها.
مع الوقت، والصلوات الجماعية والقُدّاس، وصلوات الخلوة وقراءة الإنجيل، وأعمال الورشة. أنسى ما هو مَنسي أصلًا، لكي أعمل لنفسي أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفد في السماوات.
أيها الرّبّ يسوع؛ إن حَمَلكَ يصرخ إليكَ بصوتٍ عظيم. أحبُّكَ، يا عريسي، والآن أجاهد في طلبكَ. وها أنا مصلوبة ومدفونة في معموديّتكَ. أتألّم من أجلكَ، لكي أملكَ معكَ. من أجلكَ أموت، لكي أحيا فيكَ، اقبلْني كذبيحة بلا عيب، مقدّمة اشتياقًا لكَ. يا ربّ، خلِّصْ نفوسنا بصلواتها، لأنّكَ عظيم الرحمة.
ثمّ يأتي الحُلم مرّة أخرى. هل ما رأيتُهُ في الحلم هو الذاكرة؟ هل كنتُ أعيش في حياتي الأولى في ذلك البرج الشاهق؟ أهي رؤيا؟ ولماذا كنتُ في حُلمي وحيدة؟
وحيدة هنا أيضًا. وأحبّ وحدتي، أعرف فيها ذاتي، أعرفني في حياتي الثانية، على الأقلّ، ليس لديّ ما لا أعرفه عن حياتي الثانية، راهبة في الدَّيْر، لا حياة لي خارجه، اسمي المختار لي هنا "يوستينا"، ولا أعرف اسمي الذي عُرفتُ به في حياتي الأولى.

أنتظر الفتاة الصغيرة التي تخدم الدَّيْرأحيانًا، بفرح، مريم الفتاة الرقيقة الجميلة التي تولّيتُ رعايتها منذ رأيتُها في دار رعاية للأيتام قبل سنوات. كلّ يوم تتوثّق علاقتنا أكثر. تعدّني أمًا، وأعدّها صديقة وابنة. تعلّقتُ بها منذ رأيتُها ترمقني لأوّلمرّة بابتسامة ذكية. أحببتُها، وأقبلتُ عليها. احتضنتْني كأنها تعرفني من سنوات. وربّتتْ على ظهري بيَدَيْن خفيفَتَيْن كأنها أمّ، وليستْ طفلة في السادسة. عمرها الآن 12 عامًا.
أسئلتها الآن قليلة. لم تعد تسألني تلك الأسئلة الصعبة التي كانت تسألني إيّاها من قبل. الآن تبدو مشغولة أكثر. قلقة من انتظار الطمث. أخبرتْني أن فتيات كثيرات من زميلاتها جاءتهنّ "الدورة". وهي تترقّب الأمر. ولا تعرف إلى متى سيستمرّ انتظارها. أخبرتُها بما أعرف، وطمأنتُها. أنا أيضًا لم أعد أسألها الكثير ممّا كنتُ أسأله إيّاها من قبل. كنتُ أعدّها عينَيَّ على العالم في الخارج. العالم الذي لا أعرف عنه شيئًا، لأنني فقدتُ ذاكرتي عنه.
زياراتها للدَّيْر قَلَّتْ. لكنْ، لم تقلّ الدعوات التي أتلقّاها إلى بيت الخلوة، حيث تجتمع الراهبات مع ضيفات الدَّيْر من الفتيات اللائي يواجهنّ مشكلات أو يردنَ استشارة أو نصيحة أو تعلُّم شأن كنسي.
عُرفتُ بإتقاني اللغة الفرنسية حين وقعتْ عيناي على كتاب في مكتبة الدَّيْر يومًا. ذُهلت. كانت ذاكرتي فقط هي التي أصابها العَطَب. أمّا مهاراتي، فالواضح أنني لازلتُ أحتفظ بها. عندما أخبرتُ مريم بذلك، طلبتْمنّي أن أُعلّمها "الفرنسية". وحيّرني الأمر. فلم تكن لديّ خبرة تعليم لغة أخرى. لكني وعدتُها خيرًا، وبحثتُ في المكتبة عمّا يساعدني في المهمّة.

لكنْ، صدقًا أقول: لم أشعر برغبة حقيقية لمعرفة ماضيي. الطريقة التي جئتُ بها إلى هنا جعلتْني أشعر أنه يتضمّن شيئًا مخزيًا. ولهذا فضّلتُ ألا أعرفه. قلتُربّما الخير الذي يريده لي ربّي الآن هو النسيان التّامّ والتّفرّغ لأجل الصلاة ومحبّة الرّبّ.
لو كانت إرادة الرّبّ في عودتي إلى الطريق كما قالتْ لي الأمّ كلوديا، فها أنا عدتُ.
أيّامي التي تلتْ مولدي الثاني، قضيتُ منها أربع سنوات تحت الاختبار. قرأتُ عن سير الكثير من الأساقفة والمطارنة والرهبان، عن الإيمان والحبّ، عن يسوع ومريم البتول، عن الصلوات والخشوع. قلتُ إنني أريد الرهبنة باختياري، وكنتُ صادقة، فكيف أعود لحياة، لن أتمكّن من تذكّرها.
أنا هنا، مع الرّبّ، فلتكنْ مشيئته واختياري، ولتكن له صلواتي وخشوعي. قرأتُ ولم أفهم، ثمّ قرأتُ وتأمّلتُ، وفهمتُ القليل. وحين قرأتُ بعقلي وقلبي، فطنتُ، فأدركتُ.
حين جاءت مريم لي بعينَيْن باسمَتَيْن، وقالتْ لي إن ملاكًا ظهر لها، وأملاها موعظة، صدّقتُها. لكني لم أخبر الراهبات شيئًا. خفتُ. سوف يباركونها،وربّما يقدّسونها. لا تزال صغيرة على ذلككلّه. تحتاج إلى الحياة التي أعرفها من خلال ما تحكيه لي عنها. كنتُ أُسجّل الموعظة، أحفظها، وأصلّي من أجلها. ربّما كانت الموعظة من أجلي. لأجل أن يقوى إيماني.
قالتْ لي إنها تعرّفتْ على صديقة جديدة تحبّها. قالتْ إنها تقرأ كُتُبًا علمانية، وتشاهد صورًا. وصَمَتَتْ، واحمرّتْ وجنتاها. شجّعتُها بابتسامة. كنتُ أودّ أن أعرف ما ترغب في قوله لي.
قالتْ إنها تشعر بشيء غريب يرتجف له جسمها كلّه عندما حَكَتْ لها الفتاة عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. ابتسمتُ لها، وقلتُ: هذا أمر طبيعي. اندهشتُ ممّا نطقتُ به، لأنه خرج بوعي من خبرتي، وليس من ذاكرتي. كأنني أعرف هذا الأمر، لأنني مارستُهُ. لكني لا أذكر كيف أو متى أو مع مَنْ.
بعد الكثير من القراءة، أدركتُ محبّتي لفكرة الإيمان، بِعَدِّه اختيارًا، وليس فرضًا. قرأتُعمّا تعرّض له قدّيسون كُثُرٌ من اضطهاد وشرّ. أحسستُ بمشاعرهم. وبقوّة إيمانهم، وبتمثُّلهم بيسوع الحبيب، بآلامه التي لا تُطاق، والتي احتملها جميعًا من أجلنا. قلتُ إنه لم يكن مضطرًّا لولا إيمانه. كرهتُ القسوة في كلّ شيء. القسوة التي جاءت بي إلى هنا، والقسوة التي تعرّضتْ لها القدّيسات والمُضطَهَدُون. قلتُ لنفسي لو أُجبرتُ على شيء هنا، فسوف أترك الدَّيْر.
ردّدتُ الجملة لنفسي، وشعرتُ أنني أستدعيها من مكان باطني خَفي في ذاتي. هل هذه هي ذاكرتي؟ هل كانت هذه هي خطيئتي؟
قالتْ لي مريم إنها تشعر بوجيب قلبها كلّما رأتْ فتى يكبرها بعامَيْن، وينظر إليها بإعجاب في الكنيسة أيّام الآحاد. قلتُ لها ألا تتسرّع، لأنها صغيرة. لكني طلبتُ منها أن تتبع قلبها. كنتُ أثق في براءة قلبها الذي يتلقّى موعظة الملاك. وأنها ستُحِبُّ، من دون أن تُعرِّض نفسها للأذى.
من أين جاءني هذا الحسّ الأمومي؟ ليستْ أمومتي تجاه مريم أمومة راهبة، تُعوِّض أمومتها المقموعة برعاية الفتيات الصغيرات. بل أشعر بمشاعر، يرتجف لها قلبي. كأني شعرتُ بها قبلًا في حياتي السابقة. كان جسدي له ذاكرة تعمل بعيدًا عن ذاكرة عقلي المفقودة.
في انتظار المعجزات
هل أصلّي لكي أستعيد ذاكرتي؟ أم أستجدي القدّيسين؟ وأزور قبور الشهداء؟ أشعر أنني أعيش فاقدة للتوازن. كَمَنْ أصابه العرج. مهما ادّعيتُ عدم رغبتي في استعادة ذاكرتي.
مشاعري لها ذاكرة أخرى، لم أفقدْها. لهذا،مثلًا، أستدعي مشاعر الأمومة حين أرى مريم. مشاعر غريبة تنتابني كلّماحَكَتْ لي عن حبيبها الشّابّ. أفهم ما تشعر به، حتّى النشوة التي اعترتْني حين ذكرتْ لي معرفتها لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة. جسدي يستدعي نشوة مشابهة من ذاكرته الحيّة.
لكنْ، إذا استجاب القدّيسون لدعائي هل سيمكنني العودة لحياتي الأولى؟ أم يكفيني معرفتها، وكفى؟ ولكنْ، إن كان لي طفل أو طفلة، فلماذا لم يسألوا عنّي؟ كيف تركوني هنا لمصيري؟
الأسئلة أحيانًا لا تُسبّب إلا الغضب، وليس لي إلا الصلاة والانخراط في العمل. كلّ يوم هنا يمثّل جديدًا في حياتي. كانت ذاكرتي البيضاء ناصعة. ولهذا أستقبل كلّ شيء كأنني أعرفه لأوّل مرّة. كلّ كلمة أقرؤها وأُردّدها عدّة مرّات أحفظها. ساعدني ذلك في اكتساب ثقة الأمّ كلوديا بسرعة، أبهرتْها قدرتي على حفظ مواعظها، وحفظ ما تحكيه من سِيَر القدّيسات والقدّيسين، صلّتْ لأجلي، وعَدَّتْ هذه الهبة الرّبّانية لها دلالتها في رضا الرّبّ.
بعد عدّة أشهر، بدأتُ أخشى الشعور برتابة الحياة في الدَّيْر. كنتُ أردّد لنفسي أن كلّ راهبة هنا مهما تمنّعتْ عن ذِكْر ما يخصّ حياتها قبل الرهبنة كان لها حياة. ذكريات ومواقف. أب وأمّ وإخوة، وتفاصيل مع عالم مختلف عمّا نعيشه هنا. ربّما يكون في استدعائها ما يُبدّد رتابة الأيّام.
لكن الرّبّ لم يبخلْ عليَّ بما يُبدّد إحساسي بالرتابة. كانت المعجزات التي أسمع عنها عن القدّيسات هي أكثر ما يُخلِّصني من هذا الإحساس. كانت المعجزة دليلًا على المنزلة العالية التي وصلَتْ إليها القدّيسة من إيمان وبركة. كنتُ أسأل وأُنصِتُ للمعجزات التي ترد إلينا من الأديرة الأخرى أيضًا.
هل كنتُ أنتظر معجزة؟ رفرفة الطيور ترتبط عندي بأنها تسبق حدوث معجزة! انتبهتُ لهذا الإحساس تقريبًا منذ حلمتُ بجسدي والطيور والنباتات. ولكنْ، ماذا سأفعل بالمعجزة؟ يحتاج الناس المعجزات ربّما ليزدادوا إيمانًا، أو ليُدركوا أن مَنْ يقترب من الرّبّ أكثر يمنحه من فيض كرمه معجزة وكرامة، ولكنْ، ما حاجتي أنا لهذا كلّه؟ ونحن هنا في الدَّيْر نخفي أمر الأمّهات أصحاب الكرامات حتّى لا تتعرّضنَ لحسد الشيطان.
فالشيطان لا ينام. وعلينا أن نستيقظ أيضًا. وربّما لهذا نومنا قليل. نسعى للصمت، والتّأمّل، ففي هذاكلّه انشغال للحديث مع الله بدلًا من الحديث مع النفس. وتذكير النفس بالانضباط، النظام، اكتساب القوّة الروحية اللازمة للحياة في طريق الرهبنة، اليقظة المستمرّة. كيف نعيش في جوٍّ متّزن لحياتنا الروحية. كلّ عمل بلا ثبات لا تجني منه ثمرة. حُرّيّة الروح القُدُس ليستْ في عدم الانضباط، بل الوصول إلى مستوى الحبّ الإلهي، حيث لا تصبح الوصايا قيودًا.
أُذكّر نفسي كلّ يوم، بالوصايا والتعاليم، التي نُنصِتُ إليها.
حين أدخل إلى الغرفة في الليل، وأجلس إلى فراشي، مُرهقة ومتعبة، فأتمدّد فقط للراحة قليلًا، تباغتني الذاكرة بأنها تتذكّر الأشياء التي حدثتْ خلال اليوم. أصبحتْ لي ذاكرة، تبدأ من حياتي في الدَّيْر. وأشعر بهاجس الغضب في داخلي، لأن الشيطان ربّما يدفعني للتساؤل عن سرّ اختيار الرّبّ لي، لكي أمرّ بهذه التجربة، وسرعان ما أسأل الحنّان غفرانه. لو استسلمتُ لمثل هذه الأفكار، لتعرّضتُ لما تعرّضتْ له "الأخت جورجينا".
أُبلِغَتِ الأمُّ المسؤولةُ أنها تذمَّرتْ من تنظيف الحمّامات، وعلى الفور،قرّرت "الأمّ كلاوديا" أن تعزلها في إحدى القلايات لمدّة يومَيْن، وطلبتْمنّي تقليل وجبات الطعام الذي سيدخل إليها أمس واليوم.
أمرٌ مُذلٍّ أن تأتي راهبة، لتخدم الرّبّ وتتذمّر. يبدو أن البعض ليس مؤهّلًا لحياة الراهبات القاسية هنا.
أغتنم كوني معروفة بفقدان الذاكرة، لأسأل كثيرًا. سألتُ "الأمّ أنطونيا" أمس عن أسباب التّذمّر. قالتْ لي:
– الدَّيْر لم يكن أبدًا مجمعًا للتعيسات أو القبيحات أو سيّئات الحظّ في الحياة. بالعكس تمامًا، نحن لا نقبل برهبنة مَنْ يتصوّرنَ حضورهنّ هنا هربًا من الحياة ومشكلاتها. هؤلاء لا مكان لهنّ بيننا. لكنْ،أيضًا، وحتّى هنا، تظهر بعض المشكلات حين يفقد المرء رقابته لنفسه، وحين تلين النفس، من الرهبان أو الراهبات، لكنْ، بقليل من الشّدّة يستعيد الراهب أو الراهبة صوابه. فلا تُقلقي نفسكِ بهذه الأمور. فقط كوني متأكّدة أن مَنْ يمنح نفسَهُ للرّبّ، لا يكون له هدف آخر.
وُلدتُ مسيحيًّا
وكلّمامرّ أحد منّا هنا بمحنة، وما أكثرهم، فسرعان ما أستعيد سيرة القدّيسة دميانة، التي أسّست للرهبنة في مصر، ففي سيرتها أشدُّ عزمي، وأُقوّي نفسي، وأتمسّك باليقين وبالقوّة اللازمة ليوم جديد في عبادة الرّبّ وخدمته:
لأن "القدّيسة دميانة" فعلتْكلّ ما يمكنها، واحتملتِ الأذى، لتُرسل إلينا عبر الزمن رسالتها، وأردّد لنفسي سيرتها كما أحفظها عن ظهر قلب:

أوّل من أنشأت فكرة الرهبنة حتّى قبل الأنبا أنطونيوس، والمعروف بأنه أوّل راهب في التاريخ المسيحي، لكنها استشهدتْ في زمن "الأنبا أنطونيوس".
كانت ابنة والي وحاكم البرلس، الذي تولّى رعايتها بنفسه، لأنها كانت يتيمة الأمّ. وعندما وصلتْ لسنّ البلوغ، وبدأ الأمراء في طلب الزواج منها، رفضتْ، وقالتْ لوالدها:

– قرّرتُ مَنْحَ حياتي لخدمة الرّبّ، وسوف أعيش حياة البتولية.

فأنشأ لها منزلًا كبيرًا، الذي أصبح "دَيْر القدّيسة دميانة" المعروف الآن، وكانت برفقة صديقاتها الأربعين، وفيه كنّ يُقدّمنَ الخدمات للفقراء والمحتاجين. وكانت وصديقاتها يرتدينَ الملابسنفسها، ويأكلنَ الأكلنفسه، ويقضينَ يومهنّ في تسبيح الرّبّ والصلاة له.

كان والدها من المسيحيّيْن المؤمنين، الذين عاصروا فترة حكم الدولة الرومانية. وصادف أن الرومان كانوا قد حقّقوا النصر في واحدة من معاركهم الحربية، واحتفالًا بالنصر، قرّر الإمبراطور الروماني أن يدعو الولاة كلّهم التابعين للإمبراطورية لقصره، لكي يُقدّموا القرابين.
وأشار المقرّبون على والد دميانة بالذهاب إلى الإمبراطور، وتلبية الدعوة، لكي يتفادى غضبه، وقالوا له إن الجميع يعرف أنكَ تدين بالمسيحية، وفي رفضكَ الدعوة ما قد يؤدّي لخسارتكَ للإمبراطور. وهكذا قرّر الوالي تقديم القرابين للآلهة الوثنية في مقرّ الإمبراطور، فلمّا عرفت الابنة بالأمر، أصابها الحزن، وقالتْ لأبيها:
"كنتُ أفضّل سماع خبر موتكَ عن أن أسمع إنكاركَ لربّنا".
فتأثّر والدها جدًّا بحديثها، فذهب للملك، وقال له:
"لقد وُلدتُ مسيحيًا، وسأموت مسيحيًا. وإنّي كُنتُ مُخطئًا عندما قدَّمتُ القرابين للأوثان".
فحاول الإمبراطور استقطابه باللِّين في البداية، فلمّا لم يستجب، حاول ترهيبه بالعنف والتعذيب، ولكنْ، أمام إصرار الوالي على موقفه، قام الإمبراطور بقَتْله.
ولكنه شعر بالحزن عليه بعد قَتْله. وهنا نقل إليه نفر من حاشيته أن ابنة الوالي كانت السبب في قَتْله، لإيعازها إليه برَفْض تقديم القرابين. فأرسل إليها الإمبراطور بعثة بقيادة أمير من ولاته ومجموعة من الجنود، حاصروها في القصر. ولكنها حسب وصيّة المسيح قدّمتْ للأمير كرم الضيافة، ففرح ظنًّا منه أنّها خافتْ، ولكنها لم تستجبْ لمحاولاته المستميتة للتّخلّي عن الديانة المسيحية، بالإغراء مرّة وعروض الزواج والسلطة، أو بالشّدّة والتعذيب مرّة.
وتركَتْ دميانة للأربعين عذراء حُرّيّة الاختيار في العودة إلى منازلهنّ، ولكنهنّ رفضنَ، وقرّرنَ البقاء معها؛ مؤمناتٍ بتوحّد مصيرهنّ معها.
إزاء الإصرار العنيد،قرّر الملك تعذيبها بأقصى وسائل التعذيب حتّى ترضخ لما يطلب. وهنا حدثتْ معجزة كبيرة، إذ كان الأمير والجنود يتركونها بعد حفل التعذيب وهي على وشك الموت، لكنهم حين يعودون لرؤيتها في اليوم التالي يفاجئهم اختفاء آثار التعذيبكلّها، لتكون آية لله في الأرض. وليزداد عدد المؤمنين الذين بدؤوا في المجيء من القرى المجاورة لرؤية هذه المعجزة. وبسبب القوّة التي أظهرتْها في التّحمّل وخشية انتشار المسيحية، أمر الإمبراطور بقَتْلها هي والأربعين عذراء، وتمّ دفنهنّ في مكانهنّ بالدَّيْر حاليًا".
سيرة السّتّ دميانة كانت أفضل وسيلة لي لاحتمال أيّ شيء يمكن أن يتعرّض له شخص. وكنتُأرى أن حياتي هنا مُرفّهة قياسًا بما تحمّلتْه هذه الشهيدة القدّيسة. ولهذا لم أكن أَمَلّ من إعادة قراءة سيرتها واستعادتها وتمثّلها بكلّ ما أملك من قوّة التخييل. مَن التي لا تتمنَى أن تكون واحدة من الأربعين عذراء اللواتي يرافقنَقدّيسة بهذا اليقين في الحقّ؟
كانت سيرة هذه القدّيسة تُوفّر لي العزاء، والأمل، وتمنعني عن الاستمرار في محاولة رسم تخيّلات لحياتي قبل الدَّيْر. وتمنحني القوّة، لكي أتزوّد بالمعرفة والقراءة. فقوّتها هذه كلّها كانت قوّة المعرفة بالحقّ.
نَجِّنا من الشّرّير!
كم سنة مرّت عليّ هنا في الدَّيْر؟ بصراحة لم أعد أعرف. لكن أعيادًا كثيرة مرّتْ علينا، وصلوات كثيرة. تذكّرتُ بأسفٍ أننا ودّعنا أمّهات ثلاث في العامَيْن الماضيَيْن، بعد أن تنيّحنَ، وتذكّرتُ كيف أن السنوات قد مرّتْ بنا بالفعل، ولم نشعرْ بها.
وفي الصباح،قرّرت "الأمّ كلاوديا" خروجي مع "الأخت أنطونيا" والراهبة المتدرّبة لاستقبال ضيفات "بيت الخلوة". ارتديتُ ثوبي الأسود، وأحكمتُ من غطاء الرأس، وعلَّقتُ الصليب الجلدي الكبير على صدري، وتأهّبتُ للقاء الزوّار.
وجدنا سيّدةً كبيرة في العمر، فهمتُ أنها أمّ الراهبة المتدرّبة، ارتدت الأسود، وجاءتْ لزيارة ابنتها. ورأينا أربع شابّات أخريات، جئنَ فقط لزيارة الدَّيْر، وجاءتْ امرأة وبنت صغيرة في العمر، استقبلتهنّ "الأمّ كلاوديا" بابتسامة وقورة، وقبّلنَ يدها. واقتربت أمّ الفتاة المتدرّبة منها، واحتضنتْها، وهي تبكي. قالتْ إنها لم تَرَها منذ ستّة أشهر. وبدت المتدرّبة وهي تحاول أن تتحكّم في عواطفها.
سألتِ الأمُّ ابنَتَها إذا ما كانت مصرّة على الاستمرار في الرهبنة. وتغيّرت ملامح الفتاة قليلًا، وأحسّتْ بالحرج. لكن "الأمّ أنطونيا" التفتتْ إليها، كأنها تراقب ردّ فعلها، فاقتربت الفتاة من الأمّ، واحتضنتْها في حنان، ثمّقالتْ لها:
– "اهدئي، يا أمّي، أنا جيت هِنا باختياري، ومبسوطة ببركة يسوع وستنا العدرا".
حاولت الأمّ أن تثنيها عن قرارها، وتقول لها إنها تتمنّى أن تفرح بها عروسًا وأمًا، لكن الفتاة كانت تزداد تماسكًا، وهي تُطمئِنُأمّها قائلة إن عليها أن تفرح لسعادتها بوجودها داخل الدَّيْر. وأنها ستكون عروس الرّبّ.
وبعد قليل، اقتربت منّيالسّيّدة الكبيرة في العمر وابنتها، وقدّمتْ لي نفسها، وعرّفتْني بابنتها. بدت السّيّدة متردّدة قليلًا في الكلام، فشجّعتُها، فأخبرتْني بما يشبه الهمس أن ابنتها تعاني من مشكلات نفسية، وتشعر بأن الفتاة "معمول لها عمل"، وتحتاج مساعدتي، لكي أفكّ هذا السِّحْر.
ابتسمتُ لها، وطلبتُ منها أن تذكر اسم ابنتها، وحين ذكرتْهُ، وعدتُها أن أصلّي من أجلها، ثمّ أضفتُ، بل سنصلّي لها جميعًا. حاولت السّيّدة أن تُقنعني بخطورة السِّحْر، وأنه يحتاج لفعل مبارك، يُوقِف عمل السِّحْر. لكني لم أسمح لها باستكمال الكلمة، ومنحتُ وجهي مسحة من الصرامة، وقلتُ لها إننا في الدَّيْر لا نمارس إلا الصلاة.. فصمتتْ.
اقتربت الفتيات الأخريات في وَجَل من الأمّ أنطونيا، وقلنَ إنهنّ لديهنّ بعض الأسئلة عن الصلوات، وعن تفاصيل كنسية، أردنَالتّأكّد منها، فطلبتْ منهنّ الانتظار للتأكّد إذا ما كانت هناك زائرات أخريات، لكي تُلقي عليهنّ بعظة ودرس عمّا يودّون معرفته.

اقتربتْمنّي امرأة عجوز بمفردها، وكانت قد وصلتْ لتوّها. ساعدتُها على الجلوس، وجلستُ بجوارها. قالتْ لي إنها فَقَدَتْ ابنتها الكبرى، وأن ابنَتَيْها الأصغر أيضًا هاجرتا خارج مصر، ولا تعرف ما الذي يمكن أن تفعله في هذا العمر؟ سألتُها إن كانت قد توجّهتْ للكنيسة التي تتبعها، أو أيّ كنيسة من الكنائس؟ فقالتْ إنها لم تطلب المساعدة من أحد، وإنها فقط جاءت لكي تشكوَ همّها، لا أن تطلب المساعدة. وقالتْ إن يسوع العظيم لا بدّ عالم بحالها، وأن أمّنا العدرا ستُدبّر أمرها، ولن تنساها. قالتْ كنتُ أحتاج فقط إلى أن أطلب الصلوات من المؤمنات القريبات من الرّبّ.
قلتُ لها إنه لا بدّ من وجود دُور رعاية لها تابعة للكنيسة، وإنها إن لم تتمكّن من ذلك، فسوف نساعدها، لكنها عادت في إصرار تؤكّد أنها تعيش سعيدة بمحبّة الرّبّ، وأنها لم تُقصّر في أداءِ ما عليها. وودّعتْني شاكرة وهي تُوصيني ألا أنساها في صلواتي.
سنوات طويلة قضيتُها هنا في الدَّيْر، كنتُ أشعر أنني بعيدة تمامًاعمّا يجري في العالم، قرأتُكثيرًا في اللاهوت وشؤون الدِّين، حتّى كدتُ أنسى أن هناك عالمًا خارجيًّا، يعيش به بشر. ولكن زيارات اليوم ذكّرتْني بالعالم، وبالبشر، وعرّفتْني بأشياءٍ ممقوتة مثل الكراهية والعنف.
تحدّثتْ فتاتان معنا اليوم عن أحداث عنف، تعرّض لها الشعب في أكثر من كنيسة. واختطاف لبنات مسيحيات، يقال إنهنّ أسلمنَ.
شعرتُ بالغضب وأنا أحكي للأمّ كلاوديا ما سمعتُ، وقلتُ لها متسائلة:
– لماذا هم أشرار هكذا؟
– مَنْ هم، يا ابنتي؟
– المسلمون.
– لا تقولي هذا الكلام. نحن لا نصف أصحاب الديانات بالشّرّ. الشّرّ موجود في قلوب الجميع، أيًّا كانت دياناتهم، وعلينا أن نصفح عن الجميع، ليحلّ السلام في قلوبنا، ولأننا في بيت الرّبّ، سنصلّي لأجل ضحايا الشّرّ، وسوف ندعو الرّبّ أن يخلّصنا من الشّرّير. نحن لا يمكن أن نتكلّم بلسان الشعب، وإن كنّا منه، هل فهمتِني؟

هززتُ رأسي بينما تطفو كلمات الأمّ كلاوديا في عقلي. لكني لم أهدأ، ولم تحلّ السكينة في روحي كما تمنّيتُ. فمنذ سمعتُ تلك الأخبار وأنا أشعر بالتّوتّر. وبالخوف. لا أعرف ممّا أخاف بالضبط؟ ربّما تكون مشاعر الفتيات الصغيرات وهنّ يحكينَ عن تلك الأحداث قد نقلتْ لي مخاوفهنّ بشكل ما؟
ثمّقرّرتُ أن أصلّي اليوم كثيرًا، لأجل الشهداء، الذين ذهبوا لأحضان المسيح. انتظرتُ فترة الصمت، لكي أغالب دموعي، وأصلّي طويلًا.
وعندما انتهيتُ، بدّلتُبثوبي رداء النوم الأسود الخفيف، ووضعتُ رأسي على الوسادة، وأنا أرجو الرّبّ أن يساعدني على النوم، حتّى أتمكّن من النهوض مبكّرًا لأداء الصلاة، ومتابعة ما سوف تكلّفني به. وظهرتْ لي صورة مريم الطفلة، وتمنّيتُ أن تأتي للزيارة، فمنها يمكنني أن أفهم أشياء كثيرة عمّا يحدث خارج الدَّيْر، ولن تصلني منه هنا إلا الشذرات.

في حراسة الجنود
بعد أن أنهيتُ صلاة التسابيح، وأنهينا القدّاس في كنيسة الدَّيْر، بدأت الأمّ كلاوديا بتوزيع المهامّ، وكان عليَّ أن أذهب إلى المطبخ اليوم. قالتْ لي إن الأكل اليوم لن يكون للراهبات فقط مثلما تجري الأمور، وقبل أن نسأل أوضحتْ أن الحكومة خصّصتْ للدَّيْر حراسة خاصّة، بسبب الأحداث، وأن الطعام الإضافي للجنود الذين سيتولّون الحراسة.
أخرجْنا الأواني والأوعية، وحدَّدْنا ما سوف نقوم بطَهْيه، وقرّرنا أن نزيد من مقدار حساء العدس، وكذلك الأرز، وحتّى مقدار الخبز المتعارَف عليه.
قلتُ للراهبة الصغيرة بجواري إن حظّ الجنود جيّد أننا لسنا في أيّام الصيام.
ابتسمتْ وقالتْ: صحيح، ولو إن مافيش لحم الأسبوع ده.
هززتُ رأسي، وبدأنا نضع الأوعية على النار بعد أن تأكّدنا من نظافتها. وطلبتُ منها أن تأتيني بالدقيق والخميرة، لكي نشرع في خَبْز الخبز.
كنتُ أشعر بالتّوتّر.أزعجَني أن الدَّيْر الذي أعدّه أكثر الأماكن في العالم أمانًا، قد يصبح هدفًا للخطر، "نجِّنا من الشّرّير، يا يسوع". وطالبتُ نفسي بأن تصمتَ، صمتًا يماثل فترة الصمت ليلًا التي نلتزم بها في الدَّيْر.
ألهيتُ عقلي بالعجن، وبدتْ يداي قاسيَتَيْن وهما تضربان العجينة بدأب، حتّى التفتتْ إليَّ "الأخت جورجينا"، وسألتْني إن كان بي شيء، أو أحتاج لمساعدة. انتبهتُ من وسواس عقلي، وطلبتُ منها أن تبدأ في إعداد نار الفرن.
قلتُ لنفسي: يبدو أن الشّرّ في العالم كبير وخطير. والحمد للرّبّ واجب لمحبّته وحنانه، لأن يد رحمته جاءت بي إلى هنا. تذكّرتُ أن الصيام الكبير اقترب. قالتْ لي الأخت جورجينا إن الأمّ كلاوديا تمتنع عن الطعام في هذه الفترة تمامًا، يوم ونصف صيام، ولا تفطر فيه إلا على الماء والملح. قالتْ إنها لا تسمح لأحد بأن يفطر مثلها على الماء والملح، لأننا لسنا مدرّبات على ذلك، وأجسادنا لن تحتمل.
لكني أحسستُ في هذه اللحظة، بينما أشعر بقوام العجين وقد أصبح متجانسا تمامًا، وجاهزًا للخبيز، بضرورة الصوم عن الطعام تمامًا مثل الأمّ كلاوديا، شكرًا ليسوع على منحته لي بالإقامة في الدَّيْر، وتجنيبي شرور العالم في الخارج، وأيضا سأصوم، لأبتهل للرّبّ والعدرا، لكي تخفّ هموم الشعب، ويتجاوز محنته.
جاءت الأختان، الأمّ فيرونيكا، والأمّ بارباره، والتحقتا بنا، ومن دون أن تسألانا، توجّهنَ لإعداد العدس الذي كنّا تركناه متبلًا من الصباح الباكر، لإعداد الحساء، وقالتْ الأمّ فيرونيكا:
– لو لدينا أيّ لحوم من أجل الحرّاس، سيكون هذا جيّدًا، حتّى لو كان على حساب وجباتنا.
وأضافتْ: إحنا في كلّ الأحوال داخلين على صيام.
أشّرتْ للثلاجة، فاتّجهتْ إليها، وأخرجتْ منها دجاجة ممّاكنّا نظّفناه وأعددناه قبل أيّام. وأخذتْها لتغسلها وتُعدّها للطهي.
قلتُ: لكنْ، لماذا يحرسون الدَّيْر؟ أليس الدَّيْر في حماية الرّبّ؟ ومَنْ يمكن له أن يفكّر في إيذاء مجموعة من الراهبات، لا علاقة لهنّ بما يدور في العالم؟
أفسحت لي الأمّ بارباره المكان حين رأتْني أحمل قدر العجين، لكي أخبزه، وقالتْ:
– هذه إجراءات ضرورية، دور العبادةكلّها في مصر لا بدّ أن تتوافر لها حماية من الأمن. إجراء روتيني.
فكّرتُ أن أقول لها إن الأجدى أن تتوافر هذه الحماية للبسطاء الذين لا يجدون مَنْ يحميهم. لكني تجنّبتُ التّورّط بكلام دنيوي، قد يعرّضني للتوبيخ، إذا انتقل للأمّ كلاوديا، فآثرتُ الصمت، بينما أقطع من العجين كرات صغيرة، وأفردها بشكل دائري، وأنثر عليها الدقيق.
سمعتُ الأم فيرونيكا تقول "سلامي أعطيه لكم، ولا يوجد أحد غيري يعطيه لكم".
أخرجْنا الطعام للحرّاس، وذهبْنا لنتناول طعامنا. قالتْ لي الأمّ كلاوديا إنني نحفتُكثيرًا، قلتُ لها: مش أحسن؟ فقالتْ، إن أيّام الصيام الكبير قادمة، وإن عليَّ الاستعداد لها حتّى لا يؤثّر ذلك على صحّتي، وعلى قيامي بالمهامّ.
وطمأنتُ نفسي: لو لم أتمكّن من الإفطار على الماء والملح،فربّما أمكنني أن أُضيف إليها لقيمات من "القربانة" مع قليل من العدس.
قالتْ الأمّ كلاوديا إن الدَّيْر سيُغلق أبوابه لفترة من أجل الاحتياطات الأمنية، وبالتالي لن نستقبل زوّارًالمدّة أسبوعَيْن.
وهززْنا رأسنا جميعًا بتفهّم، وراحتْكلّمنّا تدعو الرّبّ أن يزيح عن أهلنا هذه الغمّة.

طفلةُ الأحلام
في فترة الصيام الكبير، كنتُ أشعر بإعياء غير معتاد. كنّا نبدأ الصيام عن الطعام والمياه مع انتصاف الليل، ولا نفطر إلا في الساعة السادسة من مساء اليوم التالي. كانت الأيّام الأولى للصيام تُصيبني بالسعادة، وتزيدني من الإصرار على المزيد من تأكيد ذاتي قدرتها على احتمال كلّ ما تتطلّبه الحياة من أجل الرّبّ، فتضحياتنا كلّهاليستْ شيئًا تجاه ما واجهه يسوع، وما واجهه القدّيسون والشهداء.
كانت الأمّ كلاوديا تصرّ على عرضنا على الأطبّاء قبل أيّام الصيام حتّى تتأكّد من قدرتنا على احتماله. وكنّا ندعو الرّبّ أن يُمتِّعنا بالصّحّة حتّى نستمرّ في الصيام. وكنتُ أرفض تذكير الأخت بارباره بأننا كبرنا في العمر، ولم تعد صحّتنا كما كانت قبل سنوات.

"أيّها الرّبّ الإله، نريد أن نحيا زمن الصوم هذا في صدقِ كلامكَ، فأعطنا، يا ربّ، أن نكون شفّافين لروح المسيح، وأن نتمكّن من مشاركة إخوتنا، والتّفتّح على سعادتهم بالمسيح يسوع الذي بعد أن جعل نفسه خادم الجميع، يقاسمكَ المجد إلى دهر الدهرين. أيّها الإله العظيم، يا مَنْ بموت مسيحه المُحيي نقلنا من الموت إلى الحياة، أعتقْ، يا ربّ، جميع حواسّنا في هذا الصوم الخمسيني المبارك، مُنقّيًا لها ومقيمًا لها الوعي الداخلي مرشدًا ومعلّمًا: أمّا بصرنا، فلينتقِ من كلّ منظر غير لائقٍ بأبناء الله المُخلّص، وأمّا لساننا، فليتنزّه عن الكلام غير اللائق. طهِّر، يا ربّ، شفاهنا وأيادينا من دَنَس الخطية، لنُسبّحكَ، ونقدّم تقادُمنا بكلّ خشوع، ولنستقبل قربانكَ المقدّس في قلوبنا المستعدّة". آمين.
كنتُ قد لذتُ بالقلاية في هذا اليوم لأجل المزيد من الصلاة والتّدبّر. لكن الأمّ كلاوديا أعلنتْ ضرورة أن أقطع خلوتي، وجاءتْ بنفسها، وطلبتْمنّي أن أستعدّ، لأن لديّ يومًا عصيبًا. وقبل أن أفهم شيئًا، طالبتْني بأن أتبعها.
في بهو الدَّيْر في الأسفل، وجدتُ الأخوات جميعًا يقفنَ في أرديتهنّ السوداء، وبعضهنّ يبكينَ. وأخبرتْني الأمّ كلاوديا أن بعض الراهبات اللائي كنّ قادمات للدِّيْر من أحد أديرة مصر القديمة في صحبة ثلاث فتيات يتامى،قرّرنَ أن يصبحنَ مساعدات في الدَّيْر، تعرّضنَ لطلقٍ ناري، وقد استُشهدتْ واحدة من الأمّهات بعد إصابتها بعيار ناريّ في رأسها.
أخبرتْنا أنها ستذهب للمشاركة في مراسم صلوات التجنيز، وأصرّتْ أن نبقى جميعًا في الدَّيْر، والصلاة على روحها هنا، لكي ننتظر الفتيات المساعدات، لأنهنّ في الطريق مع حراسة مشدّدة.
عقلي يرفض ما سمعه، فلم يكن في إمكاني أن أفهم السبب الذي يمكن لأجله أن تتعرّض أمّهات مؤمنات ومقدّسات لا علاقة لهنّبشرور العالم كلّه، لحوادث بشعة كهذه. فأيّ شرّيفكّر في إثم كهذا؟
"يا أمّ مُخلِّصنا المباركة، والتي اشتركتِ في آلام ابنكِ الحبيب عندما أهرق دمه المقدّس، وأخذ من أجلنا اسم يسوع، احصلي لنا بواسطة هذا الاسم العجيب على الطلبات التي نقدّمها في هذه الساعة، ونرجوكِ، يا أمّنا أن تطبعي فينا حبّ هذا الاسم العجيب "يسوع" في قلوبنا حتّى يملأ دائمًا عقولنا، وتنطق به شفاهنا، ويكون دفاعًا لنا في التجارب، وملجأ لنا في الخطر في أثناء حياتنا، ومعزّيًا لنا وناصرًا لنا في ساعة الموت.. آمين".
غالبَني الشعور بالبكاء، وأحسستُ في لحظة بأن شيئًا غريبًا لا أعرفه يدور هناك في ذلك العالم الذي جئتُ منه، ولا أعرف عنه شيئًا. أهو شرّ يريده بنا المسلمون؟ أم هو شرّ مطلق، لا ينجو منه الضعفاء أيًّا كانت دياناتهم.
وتداعت لمخيّلتي فجأة صورة فتاة صغيرة، حلمتُ بها أكثر من مرَّتَيْن خلال الأيّام السابقة. هل تكون إحدى اليتيمات القادمات إلينا؟ ولكنْ، لماذا أحلم بها وأنا لا أعرفها؟
انتبهتُ على صوت "الأمّ بارباره" وهي تدعونا للذهاب إلى الكنيسة بسرعة لإقامة قدّاس على روح الشهيدة التي كانت ستكون بيننا هنا، لولا الحدث الرهيب الذي تعرّضتْ له.
وبينما كنّا في الطريق إلى القُدّاس سمعنا جلبة على الباب، وارتجف قلبي رعبًا، ولا أعرف لماذا. لكن الأصوات ظهرتْ تدريجيًا، فقد كان أحد الكَهَنَة الذين رافقوا المساعدات إلينا قد جاء ليُوصلَهم بنفسه، ويتأكّد من إجراءات حراسة الدَّيْر.
وشدّد على الحرّاس ألا يفتحوا الباب تحت أيّ ظرف، حتّى تأتيهم تعليمات جديدة من الضبّاط المسؤولين. وطلب من الأمّ كلاوديا أن ترافقه إلى القاهرة، لكي تؤدّي مراسم الصلاة على روح الشهيدة الراحلة.
رأينا الفتيات الثلاث، فاستقبلنهنّ بالأحضان. بكينَ بينما ظلّت وجوههنّ شاحبة وصفراء. وكان علينا أن نؤخّر موعد القُدّاس قليلًاحتّى نتمكّن من طمأنة الفتيات، وقد تولّت "الأمّ بارباره" الأمر، وجلستْ معهنّ، لتقدّم لهنّ موعظة.
ولا أعرف كيف مرّت ساعات هذا اليوم الحزين علينا جميعًا، لولا الصلوات التي لم نتوقّف عنها جميعًاطَوَال اليوم.
مفتاحُ الحياة
الحياة التي كانت تهرب منّي جاءت إليَّ اليوم على قَدَمَي فتاة شابّة، جميلة، قابلتُها في بيت الخلوة. كانت تتأمّلني بفضولٍ، لا يخلو من العاطفة. باركتُها وسألتُها عن حاجتها، فقالتْ لي إنها جاءت من طرف فتاة، اسمها "ماريان"، وإن تلك الفتاة هي ابنة خالي، وإنها قد عرفت التفاصيلكلّها التي جعلتْني أفقد الذاكرة، والتي أيضًا جاءت بي هنا إلى الدَّيْر.
خَفَقَ قلبي، وساورني إحساس بالتّوتّر. لم يكن لديّ أيّ سبب يجعلني أشكّ في هذه الفتاة. ولكني تلفَّتُّ حولي بخوف. لم أعرف ما الذي ينبغي عليّ أن أفعل. هل من حقّي أن أعرف شيئًا عن ماضيّ الذي نسيتُهُ ببركة الرّبّ؟ وحتّى لو أُتيح لي، فما جدواه وقد كرّستُ حياتي في خدمة الرّبّ للأبد؟
تذكّرتُ الطفلة التي حلمتُ بها مرّة أخرى، أتكون هذه الفتاة هي تفسير الحُلم؟ أيريد الرّبّ أن أعرف ماضيَّ حقًّا؟
سألتُ الفتاة لماذا لم تأتِ ماريان بنفسها؟ فقالتْ إنهم في الدَّيْر لو عرفوا أنها من الأقارب، فسوف يمنعون الزيارة، ولأسباب أخرى لا ترغب في أن تقولها الآن. ولكنها سلّمتْني ظرفًا، أخرجتْهُ من حقيبتها بعناية، وقالتْ إن كلّ ما تودّ ماريان أن تُخبركِ به قد كتبتْهُ لكِ.
وقبل أن تنصرف سألتْني أن أصلّي لأجلها ولأجل ماريان. تمنّيتُ لها السلامة، ووعدتُها بذلك.
أخفيتُ الخطاب، وذهبتُ إلى الغرفة أوّلًا، ووضعتُهُ بين أغراضي، ولكني أحسستُ بفقدان الفضول في معرفة الأمر. ماذا سيجدي لو عرفتُ شيئًا عن حياتي؟ هل سأترك الدَّيْر من أجل شيء أو أحد ما؟ لا أظنّ. ثمّ إني بعد هذا العمر الطويلكلّه الذي عرفتُ فيه نفسي عروسًا للرّبّ، ومكرّسة لخدمته، هل لا يزال لديّ وقت، لكي أفكّر في تفاصيل حياة انفصلتُ عنها تمامًا، بالقدر وبوجودي في بيت الرّبّ؟
في النهاية، إذا كنتُ قد جئت هنا بمعرفة مَنْ جاؤوا بي إلى هنا قبل 25 عامًا، فما الذي يُذكّرهم بي الآن؟!

نسرين
1
مثل ابنة مخلصة لبرج الجدي، أخفيتُ خوفي بمُجرّد بدء الطائرة رحلتها إلى السماء. تصنّعتُ الثقة، وتمنّيتُ ألا يفضحني لهاثي، بسبب الرهبة والخوف بمُجرّد انطلاق الطائرة بسرعتها القصوى تمهيدًا لبدء التحليق في السماء.
ابتلعتُ ريقي أكثر من مرّة حين شعرتُ بأن الطائرة قد قطعتْ علاقتها بالأرض نهائيًا. وقاومتُ الإحساس المخيف بأن روحي تنسحب منّي. ولاحظتُ تشبّثي بالمقعد بيَدَيّ الاثنَتَيْن. وتقريبًا كنتُ في حالة تشنّج كامل، وأملي فقط ألا ينظر لي الرجل الفرنسي غريب الأطوار الذي فتح كتابًا بمُجرّد جلوسه، وغاب عن العالم نهائيًا.
حاولتُ الابتعاد بذهني عن الطائرة، وتخيّلتُ صورة حنين حين تراني في باريس كمفاجأة.
علاقتي بحنين، رغم رفضها العودة لمصر منذ سافرتْ، ظلّتْ متواصلة. كانت تتّصل بنا أيضًا بين آن وآخر، لأنها تحبّ أن تسمع صوت ماما. لم أُخبرْها عن العذاب الذي تعيشه أمّي الآن بسبب مرضها، رغم رضوخها للعلاج النفسي، كما اقترحتْ حنين في زيارتها لمصر، لكننا لم نعد نفهم ما تمرّ به من حالات الذهول، أو الاستيقاظ على صراخ من خوف بلا أسباب حقيقية. حين عرفتُ أنها جاءت للقاهرة مرَّتَيْن خلال الثورة، وعادتْ من دون أن تتّصل بي، بحثتُ لها عن الأعذار، كان وقتًا عصيبًا علينا جميعًا.

أشعر بمسؤوليّتي الآن في إقناع حنين بالعودة لمصر. تولّيتُ المهمّة عن اقتناع، وأشعر أنني سأنجح. فهل ستقبل حنين أن تعود معي للقاهرة؟ بصراحة، حتّى لو رفَضَتْ، وعاندتْ، فسأكون أدّيتُ واجبي تجاهها، وتجاه العائلة كلّها.
رغبة ماما في رؤية حنين أصبحت مُلحّة الآن أكثر من أيّ وقت مضى. قلتُ لحنين ذلك أكثر من مرّة. وكانت تتلقّى ذلك بتعاطف كبير، وأحيانًا بالبكاء. كانت تعدّ أن أحدًا لا ينافس أمومة طنط سيسيليا، أمّناتالي، إلا ماما، ومع ذلك، فظروف حياتها أصبحت أكثر صعوبة. مؤتمرات في أكثر من بلد، وانشغال بالأبحاث والتدريس في الجامعة.
لم تنجح أيّ خطّة من خطط محاولات تدبير المرور على القاهرة، لو كانت في خطّ رحلتها إلى أيّ بلد قريبة خلال مؤتمر من المؤتمرات.
اهتزّت الطائرة أكثر من مرّة، وتمنّيتُ أن أُغلق عينَيّ، وأفتحهما، لأجدَ نفسي في المطار في باريس. تذكّرتُ أننا سنهبط ترانزيت في عمّان أوّلًا، ولعنتُ ذاكرتي.
وأخيرًا أعلن صوت رنّة قوية مصحوبة بانطفاء مصابيح الأحزمة انتهاء مرحلة الإقلاع ومشاهدة المضيفة الرشيقة الشقراء وهي تتحرّك بجواري.
وهدأتُ قليلًا، لكنْ، يبدو أن مظهري كان مثيرًا للشفقة، لأن المضيفة ذات الشَّعْر البنّيّ الفاتح الذي قصّتْهُ حول وجهها كهالة دائرية، جاءتْني مبتسمة، لتسألني إذا ما كنتُ أحتاج لمساعدة. ابتسمتُ لها، وتأمّلتُ رموش عينَيْها الطويلَتَيْن، وفكّرتُ للحظة كيف يمكن أن يكون شكل عينَي لو استخدمتُ رموشًا صناعية كهذه؟ ومسحتُ وجهي من العَرَق البارد.
طلبتُ منها كوب ماء، وأكّدتُ لها أنني في أحسن حال.
حاولتُ تخيّل سيناريو رحلة باريس التي تمنّيتُ أن أزورها من قبل كثيرًا، وخصوصًا الأماكن التي حَكَتْ لي عنها حنين، وتلك التي تمنّيتُ زيارتها خصوصًا برج إيفل والمتحف. ماذا كان اسمه؟ الذاكرة يأكلها الخوف.
ناولتْني المضيفة الماء، فابتسمتُ لها وأنا أستعيد أخيرًا اسم "اللوفر". وحاولتُ تذكّر اسم المتحف الآخر الذي حَكَتْ لي حنين عنه بشغف، ولم أنجح.
حتّى هذه اللحظة لم أحسم تردّدي. هل أحكي لحنين عن السبب الحقيقي لهذا الزيارة بمُجرّد أن أراها؟ أم عليّ أن أؤجّل ذلك بضعة أيّامحتّى أتأكّد من حالتها النفسية، ومدى تقبُّلها للأمر؟
قرّرتُ الاستماع إلى الآيبود، وشغلتُأُغنيّات عمرو دياب، فانطلق يغنّي: "شُفت الأيّام.. وأنت معايا حبيبي". وخفق قلبي بصورة رفعت، وارتجف قلبي. "أجمل أيّام، وانت معايا حبيبي". ضاعت الأيّامالجميلة، يا رفعت، للأسف.
يبدو أنني أحاول ألا أُضيّع فرصتي في الاستمتاع بباريس أوّلًا.
(2)
لم تستغرق الرحلة من القاهرة لعمّان وقتًا طويلًا، ولكنْ، حرام بصراحة تكرار تجربة هبوط وصعود الطائرة بهذه السرعة. أتمنّى ألا يكون الانتظار في مطار عمّان مُملًا. أمامي على الأقلّ أربع ساعات كاملة أو أكثر قليلًا من الانتظار في المطار.
تأمّلتُ المساحة الكبيرة المخصّصة للترانزيت بدهشة، تناثرتْ بها مقاعد كثيرة بينها ما يشبه "شيزلونج" يتيح لمَنْ يجلس عليه أن يتمدّد.
قالتْ لي سيّدة لبنانية في مقهى المطار إن الخطوط الأردنية تعتمد على الترانزيت، بحيث يكون المطار محطّة ربط للرحلات المختلفة.
تبادلتُ الحوار مع السّيّدة اللبنانية، وكان ذلك مريحًا لأعصابي قليلًا. كانت في طريقها إلى باريس في إجازة. قالتْ لي إنها تعدّ باريس الحديقة التي تذهب إليها، لتتنشق فيها هواء نقيًا بعيدًا عن مشاكل لبنان.
ثمّ أردفتْ: وبعيد عن مشاكل الزلمات والأولاد.. وضحكتْ بصوت عالٍ، وسعلتْ بعدها طويلًا.
عندما ضحكتُ بدوري: دخيل الله شو ها الضحكة الحلوة.
قالتْ لي: متزوّجة؟
قلتُ: كنتُ مخطوبة، بس دلوقت لا.
قالتْ: كتير حلو.. بعدك صغيرة، يا بنتي، شو بَدِّكْ بها الهَمّ؟
ضحكتُ من طريقتها في الكلام، فقالتْ لي إن العرب الآن وصلوا فرنسا، وأصبحت أيضًا لها مشاكل. قلتُ لها إنهم موجودون من زمن طويل، فقالتْ إن العرب الذين تقصدهم هم أصحاب اللِّحى، والمنتقبات الذين يريدون تغيير هوية فرنسا، لأنهم شرّفوها بوجودهم أخيرًا.
قلتُ لها إن ابنة خالي التي أسافر لزيارتها تتحدّث عن هذا الأمر بانزعاج أيضًا. أمّنتْ على ما قلتُهُ،ثمّ أضافتْ أنها شجّعتْ بناتها على السفر مبكّرًا، وأن بينهنّ ابنة تدرس في فرنسا هي التي تذهب لقضاء العطلات معها.
شعرتُ بالخجل لعدم سفري قبل ذلك إلا سفرات داخلية مع الجامعة، الأقصر وأسوان وشرم الشيخ.
قلتُ لها بخجل:
– بصراحة كنتُأتمنّى أسافر مبكّرًا، لكن دراستي لطبّ الأسنان قضتْ عليّ.
فضحكتْ، وقالتْ:
– كم عمركِ؟
– 23 سنة.
– أوه، طيّب، بَعْدِكْ شابّة صغيرة، ولو رحتي باريس مرّة ما بتقدري إلا إنّكْ تخطّطي تروحيها كلّ شوي.
ابتسمتُ لها مؤيّدة، ورحتُ أُنصتُ لها وهي تحكي لي عن مغامراتها في باريس، وتعرُّفها على شباب فرنسيّيْن، وقعت في غرامهم مبكّرًا، وكيف كانت تقضي أيّامها معهم في فترات الشباب والجنون، كما كانت تصفها.
كنتُ أضحك على بعض المواقف، فكانت تتوقّف للحظات تتأمّلني وأنا أضحك، وتبادلني الابتسام أو الضحك، وتردّد لازمة "شو بيعرفني؟"، وتضحك،ثمّ تواصل الحكي.
وبعد أن انتهتْ، أضافت ضاحكة:
– طبعًا هادا كلّو قبل الزواج، بعد الزواج ما بطيق أشوف، لا شوارب، ولا أصحاب الشوارب.
تأمّلتُ ملامحها الرائقة، وعنايتها بمظهرها، وقدّرتُ أن عمرها ربّما منتصف الأربعينيات، لكنها بشكل ما كانت تفوقني إحساسًا بالحيوية والشباب. وجهها ذو جمال رائق ربّما بسبب الإحساس بأن عينَيْها ناعستان قليلًا، وشَعْرها الأشقر يبدو مصبوغًا، لكن تصفيفته أنيقة، وترتدي تي شيرت أبيض محبوكًا عليها، ويعلوه بلوفر خفيف أصفر بأزرار، تركتْهُ مفتوحًا كاشفًا التي شيرت الذي يبرز حجم صدرها الكبير. وبنطلون جينز رمادي وانتعلتْ حذاءً رياضيًا أسود.
سألتْني إذا كانت ابنة خالي ستستقبلُني في المطار، فأوضحتُ لها كيف خطّطتُ زيارة مفاجِئة لها، وحجزتُ ليلَتَيْن في فندق رخيص قريبًا من سَكَنها. قالتْ لي:

– إذا ما ظبطتْ، تعي عِنّا في بيت بنتي. كمان بنتي بِتْحبّ هيك مفاجآت. تعي اعملي مفاجأة لإلها!

ضحكتُ على تعليقها، فشاركتْني الضحك، وقالتْ إنها أيضًا تُحبّ هذه المفاجآت، وتمنّتْ لي رحلة موفّقة. وأوضحتْ أنها ستلحق بصديقة لها، ذهبتْ للسوق الحُرّة.
مرّ الوقت سريعًا، بسبب هذه السّيّدة اللطيفة التي ساعدتْني على التّخلّص من التّوتّر أيضًا.
أخرجتُ كتابًا من حقيبتي، واحدًا من كُتُب خالي رامي التي نقلتْها أمّي للبيت في المختلط، كأنها تريد أن تضع شيئًا يربطها به تحت عينها في البيت باستمرار. لم تتمكّن إلا من نقل مجموعة صغيرة من كُتُبه، وأودعتِ الباقي في بيت توريل.
تذكّرتُ جدّتي سلوى التي قالتْ لي بشرود إنها لا تريد شيئًا من الحياة إلا أن ترى حفيدتها قبل أن تموت. كلّهم تركوا بيت العائلة بعد وفاة "خالو رامي"، حتّى جدّي وجدّتي لم يطيقا الحياة فيه. انتقلا إلى شقّة صغيرة، أجّرها جدّي من صديق له، يمتلك بناية حديثة نسبيًا في "شارع الشريف الرضي" في توريل.
جدّي حسين يجلس شاردًا في الشرفة أغلب الوقت، يدخّن بيَدَيْن مرتعشَتَيْن من أثر الشلل الرعّاش، وإذا دخل إلى غرفة المعيشة، فلقراءة الجريدة إن استطاع، أو لسماع الأخبار في الراديو. وجدّتي تتابع المسلسلات التلفزيونية في غرفتها، وإذا أغلقت التلفزيون، تقرأ في المُصحف قليلًا، أو تستمع لإذاعة الأغاني. ولا أعرف إذا كانت حقًا تتابعها أم أنها تُشغل بها ذهنها عن وفاة خالو؟
سمعتُها مرّة تنادي باسم رامي، والتفتُّ إليها، كانت تحدِّق في السقف،ثمّ نظرتْ إليّ. ولم أفهم إن كانت تسألني عن خالو؟ أم أنها فقط لهجتْ باسمه؟ ارتبكتُ. وسألتُها:
– فيه حاجة، يا تيتة؟
– لا، يا حبيبتي، أنا كويّسة.
العلاقة بينها وبين جدّو تعقّدت كثيرًا منذ وفاة خالو، لأنه يُحمّلها الذنب فيما يحدث لحنين، بينما ترى هي أنه كان بإمكان خالي رامي الزواج مرّة أخرى، وأن زواجه كان كفيلًا بأن يتجاوز محنته. لم تكن ماما قد أخبرتْها بأنه تزوّج مرّة في دبي، وأن المرض الذي أصابه في النهاية لم يكن له علاقة بحالته النفسية.

كلّما نطقتْجدّتي سلوى باسم خالو تُذكّرني بماما، خلال الأيّام الأولى بعد وفاته. بدتْ لي مثل امرأة مسكونة بالعفاريت، تقول أشياء كثيرة بكلمات سريعة ونبرة صوت ضعيفة، وأسمع بين كلماتها المبتورة اسم خالو رامي أكثر من مرّة.
كنتُ أشعر بأن روحي تنسحب منّي لوهلة هلعًا، وأنظر إلى بابا، فأراه يتأمّلها بوجه ممتقع، يحاول أن يُداري خوفه عليها، وحزنه على خالو الذي يحبّه كثيرًا. خالو الذي كان يوصيه عليّ كثيرًاكلّما رآه، لأنه كان يعلم بمشكلة أمّي وشرودها "خُدْ بالك من نسرين، يا يوسف. إوعى نادية تاخدَكْ عنها"، وكان بابا يبتسم له بخجل هازًّا رأسه في تفهُّم.
بابا يحبّجدّتيجدًّا، ويعدّها أمّه بالفعل، ويناديها دائمًا "ماما سلوى"؛ لأن جدّتي لأبي ماتت حتّى قبل أن يتزوّج من أمّي.
لم أُخبر أحدًا لا أنا ولا أمّيعمّا عرفناه، ولا عن السبب الحقيقي لزيارتي هذه لحنين في باريس.
أمّا أسباب الرحلة الأخرى التي تخصّني، فلم أخبر بها أحدًا، حتّىأمّي. كنتُ أحتاج إلى إجازة حقيقية، هدنة طويلة من أمّي التي أهلكتْني، بسبب انهيارها النفسي والصّحّيّ منذ وفاة خالو رامي، ومن الدراسة التي استمرّت خمس سنوات متواصلة تقريبًا، وبعدها مباشرة بدأت الحياة العملية في مستشفى الجامعة، ثمّ في العيادة الخاصّة التي أعمل بها مساء الآن.
قال لي أبي في المطار إنه يشعر بحاجتي للراحة. وابتسمتُ له معتذرة عن اضطراري لأن يسافر للقاهرة يوم الجمعة، لكنه ابتسم ابتسامة مقتضبة، وكأنه لا يحتاج إلى أن أعتذر له عن أيّ شيء.
أشعر بالارتباك، لأنني ربّما كان من الأفضل أن أخبر حنين في اللحظات الأخيرة عن زيارتي لها في باريس، فربّما كانت مشغولة أو مضطرّة للسفر. وعدتُ أقول لنفسي: أمامي أسبوعان إجازة، فحتّى لو صادف الوقت وجودها خارج باريس أو انشغالها لأيّ سبب، فلن يزيد الأمر عن عدّةأيّام، سوف أقضيها في شوارع باريس العظيمة حتّى تعود.
وعدتُ لصفحات كتاب "الجريمة والعقاب".
(3)
خلال الرحلة من عمّان إلى باريس، فقدتُ تركيزي رغم استمتاعي بأحداث الرواية، وبتعقُّد أفكار الشخصيات والحبكات التي تُفاجِئني من فصلٍ لآخر. ملتُ على شبّاك الطائرة، وبدأتْ صور مختلفة من الذاكرة تمرّ في رأسي، مختلطة بضجيج المحرّك النّفّاث.

كنتُ أقلّ توتّرًا هذه المرّة، ربّما لأن الطائرة التي انتقلْنا إليها أكبر حجمًا بكثير، وكان الكرسيّ المجاور لي خاليًا. وهو ما أتاح لي فرصة، لأُعبّر عن توتّري بكُلّحُرّيّة، ولأتشبّث بالمقعد بكلّقوّة في أثناء الإقلاع.

السفر في الطائرة لفرنسا لأوّلمرّة جعلَني أستعيد مشاهد كثيرة من حياتي. كأن السفر يجعل المرء يعيد تأمّل جوانب من حياته التي تصبح بعيدة بشكل ما، أو كأني شعرتُ أنني أخيرًا أخذتُ مسافة تتيح لي تأمّل حياتي من بعيد، وبينها الأيّام التي سبقتْ فسخ خطبتي لأحمد.
كنتُ قد توصّلتُ إلى ضرورة اتّساقي مع نفسي، وقرّرتُ أن أخلعَ الحجاب، من دون أن أعودَ لأحد. اتَّخذ الأمر منّي وقتًا وحوارات وجدلًا كثيرًا مع نفسي، أشعلتْ شرارته حنين، ثمّ بدأتُ القراءة حول الموضوع، وتدريجيًا بدأتُ أشعر بضرورة اتّخاذ القرار. ورغم قبول أبي للفكرة، لأنه كان يعرف أن قرار الحجاب كان قرارًا ذاتيًا، فإن أحمد لم يتقبّل الفكرة. حين رآني بدون حجاب في السّيّارةلأوّلمرّة أظهر استياء شديدًا. دار بيننا نقاش ساخن، وقلتُ له في النهاية إنني حُرّة، وهذا اختياري، فما كان منه إلا أن خلع دبلة الخطوبة، وقال لي إن الأمر بالنسبة له ليس حُرّيّة.
كنتُ أعرف، مع وصول الإخوان للسلطة في العامنفسه، أن له ميولًاإخوانية، على عكس ادّعاءاته كلّها بأنه مُجرّد متعاطف معهم. الشواهد كلّها أكّدت لي ذلك. ليس متعاطفًا معهم، لكنه لم يُجرِّم أيًّا من أعمال العنف التي اقترفوها. أفهم أن يُوجِّهوا العنف للسلطة التي يرون أنهم ضدّها، ولكنْ، ما ذنبُ الناس؟ أنا نفسي كنتُ متعاطفة معهم، وكنتُ أرى ضرورة أن يأخذوا فرصة. لكن ما حدث منهم بعد ذلك، وما عشناه في المنصورة من رُعب بسببهم، وبعد تفجير مديرية الأمن تحديدًا، جعلني أرفضهم. شعرتُ أن عليّ مراجعة أشياء كثيرة بخصوص الثورة نفسها، وليس الإخوان فقط.
حتّى فكرة المشاركة في الثورة لم تجدْ في نفسه هوى، لمُجرّد أنني امرأة.قال لي إن الفتيات المحترمات لا يذهبنَ لتجمّعات تمتلئ بأبناء الشوارع. وصحيح أن الأمر لم يكن شائعًا في المنصورة مثلما كان الأمر في "ميدان التحرير" مثلًا، ولكني فعلتُها رغم ذلك، وتسلّلتُ مع صديقتي هناء إلى "جامع النصر"، حيث يتجمّع الثوار.
كان الجوّ خانقًا، ومع ذلك كنتُ سعيدة. كنتُ أشعر أن مثل هذا الحدث الكبير لا يكفي للمرء أن يتعاطف معه فقط بالحماس. كلّنا كنّا نريد لمصر أن تتغيّر، وأن تصبح ديمقراطية. وما قهرني أنني رأيتُ في ذلك اليوم أكثر من فتاة، وقفنَ في محيط جامع النصر، وأخذنَ في الهتاف وهنّ يرفعن العَلَمَ المصري. بل إن واحدة منهنّ طلبتْ من صديق يقف بجوارها أن يرفعها على كتفَيْه. وطبعًا لم يعجب الكثير من الواقفين الأمر، بل وتحرّش بها أكثر من شخص بشكلٍ مهين وحقير.
كنتُأفكّر فيما يقوله لي أبي من أن أكثر شخصية متناقضة في التاريخ هي شخصية الإخواني، سينادي بالحُرّيّة اليوم، لأنها تُحقّق مصلحته، لكنه يمكن بعد دقائق قليلة أن يهتف بالنقيض، لو كانت مصلحته تقتضي ذلك، أو إذا تغيّرتْ أوامر قياداتهم.
أفكّر الآن أن حياتي كطبيبة أسنان لم يكن من الممكن أن تنجح بسهولة لو كنتُ قد تزوّجتُ. هذه الفكرة تُعجِب حنين، وتقول لي إن عليّ أن أؤجّل فكرة الزواج تمامًاحتّى أتحقّق.
كان تفكيري في موضوع الحجاب بجدّيّة قد سبق ذلك بسنوات، منذ رحلتي لشرم الشيخ مع حنين خلال الفترة التي عادتْ فيها إلى مصر. وتجرّأتُ وقضيتُ الإجازة مع حنين بدون حجاب. لكني لم أجرؤ على اتّخاذ الخطوة إلا بعد انتهاء سنوات دراستي في الكُلّيّة. وكلّما كنتُ أختبر الفكرة مع أحمد، أجده يُسفِّه منها بشكل سخيف.

طبعًا لم يكن موضوع الحجاب مُجرّد مسألة تديّن فقط، فقد أصبح الحجاب ظاهرة. من النادر جدًّا رؤية فتاة غير محجّبة في المنصورة. حتّى بعض مَن ارتدينَهُ كموضة كنّ يضعنَ "تربون" يغطّين به جزءًا من شَعْرهنّ، بينما رقبة كلّ منهنّ مكشوفة.
إلى اليوم، لم تغطِّ أمّي شَعْرها. ولا أعتقد أنها سيّدة تفتقد للتّديّن أو للضمير الحيّ.
لولا صعوبة تفاصيل التجربة التي مرّتْ بها حنين، منذ طفولتها، لتمنّيتُ الحياة، مثلها، في باريس. لكني أعود وأقول إني لا أمتلك ربع قوّتها، لكي تمرّبذلك كلّه، وتظلّ محافظة على قوّتها وحياتها، وتنجح أيضًا.
عدتُ للقراءة. ووضعتُ السّمّاعات في أذني، وسمعتُ عمرو دياب مرّة أخرى:
"نفكّر بعضنا بأيّام
وذكرى حلوة عشناها أنا وأنت..
وغنوة حبّ، آه يا سلام
بتوصف حالنا لمّا الدنيا جمعتْنا،
وباعيش أنا وانت حالة من في الحكايات.."*
تذكّرتُ "رِفعَت"، وارتعش جسدي، مرّة أخرى، كنتُ أعرف أنني لو استمررتُ بالتفكير فيه، فسوف أضعف وأبكي. "رفعت"؛ الشوكة التي لا تزول وخزتُها من قلبي، ولن يزول أثرُها أبدًا.
عدتُ أركّز في القراءة، وتأمّلتُ في حالة "راسكلينكوف". كيف يُبرّر الجريمة، وكيف يُحوِّل نفسه إلى ضحية، ثمّ كيف يرى حقيقة نفسه، ويقرّر أنه يجب أن يمتثل للعقاب.
تذكّرتُ "هند"، صديقتي التي تعرّفتُ عليها بالصدفة في المكتبة. ذهبتُ لشراء كتاب، ووجدتُها تتحدّث مع البائع عن الكُتُب بغرام شديد. ذُهلتُ أن شابّة صغيرة مثلها تمتلك هذا الشَّغَف بالكُتُب، وبكَمِّ المعرفة وأسماء الكُتُب التي قرأتْها. تدخّلتُ في الحوار بينهما، وقالتْ لي إنها كانت تتمنّى أن تسكن في مكتبة، لأن الكُتُب هم البشر الذين تتمنّى أن تعيش بينهم.
ضحكتُ من التعبير، وقلتُ لها إنني أبحث عن كتاب جيّد، فبماذا تنصحينني، فضحكتْ وقالتْ: هذا سؤال صعب جدًّا. هناك عشرات الكُتُب التي أحبّها، ولكنْ، ليس بالضرورة أنها تهمّكِ.
كانت تدرس الاقتصاد، لكنها تتحدّث عن الفلسفة والأدب كثيرًا، وأدهشني البائع الذي لم يكن أقلّ شَغَفًا ومعرفة بأغلب الكُتُب التي تتحدّث عنها.
دعوتُها لتناول قهوة في المكتبة التي كانت تضمّ مجموعة مناضد محدودة للقراءة، وتناول القهوة.
كانت تضع حجابًا، وترتدي تي شيرت ب"كُمّ" طويل، وبنطلونًا أسود. وجهها الجميل الخمري تبرز فيه عينان واسعتان سوداوان جميلتان. قالتْ لي ضاحكة إن الإنسان الذي يجد في الكُتُب حياته يصفه الناس بأنه معقّد. ونظرتْ حولها، وقالتْ لي هامسة إن صديقاتها يصفنها بالجنون، لأنها تُنفق فلوسهاكلّها على الكُتُب.
بصراحة أيضًا لولا هند، لما تعرّفتُ على مكتبات جديدة، امتلأتْ بها المنصورة، بينما أنا غائبة في مقرّرات وكُتُب ومعامل طبّ الأسنان. وبسببها وجدتُ نفسي أدخل يومًا بعد يوم إلى مكتبة جديدة، وأتذكّر ما كان خالي رامي يقوله عن ندرة المكتبات في المنصورة. في مكتبات مثل "ألف"، "الشبراوي"، "عصير الكُتُب"، إضافة طبعًا ل"بوكز آند بينز"؛ التي التقيتُ فيها بهند لأوّلمرّة.
تبادلْنا الهواتف، وكلّما ضقتُ بحياتي ذرعًا، ولم أجد هناء، صديقة عمري، أتّصل بهند، وأحيانًا أدعوها لنتناول الطعام في "مطعم أهل الشام" الجديد، الذي أُفضّله الآن عن غيره. وعلى سبيل استدعاء الذكريات، كنتُ أجلس معها أحيانًا في "مقهى أندريا" الذي كانت أمّي تُخبرني بأنه من النادر أن تجلس إليه فتيات في زمنها، والذي كان الجلوس إليه قبل سنوات قليلة صعبًا بالنسبة للفتيات. وحين يكون الجوّ حارًّا، كنتُ أدعوها لكافيه "بلاك فورست" المواجه لكُلّيّة الطّبّ. ولكنه أعاد لي ذكرياتي السّيّئة مع أحمد، فلم أُكرّر الدعوة لهذا المكان.
كنتُ أُخبر هند بهذا كله، فتضحك، وتقول لي فعلًا الدنيا اتغيّرت، والمنصورة اللي الواحد بيسمع عنها زمان بقتْ شبه الأحلام. كنتُ أجد في الحديث معها أفقًا آخر للحياة.
(4)
أحاول تخيّل اللحظة التي سألتقي فيها بحنين، ثمّ في الطريقة التي سوف أعترف لها بها عن سبب زيارتي لباريس. لا يمكنني التّكهّن بردّ فعلها، لو عرفتْ بظهور طنط كريستين. ربّما سأضطرّ في البداية الادّعاء بأنني قرّرتُ زيارة باريس، لأُحقّق حلمًا قديمًا، لم أتمكّن من تحقيقه، أن أترك كلّ شيء خلف ظهري، وأتجوّل في باريس، خصوصًا في تلك الأماكن التي حَكَتْ لي عنها حنين. وتلك التي كان خالو رامي يصحبها إليها. وربّما بالتدريج أُخبرها بالموضوع.

وفاة خالي رامي واحدة من أقسى خبرات حياتي. كانت أخباره قد أصبحت متقطّعة وبعيدة منذ سافر لدبي. لكن كوابيس أمّي التي كانت تحكيها لي كلّ صباح كانت تُشعرني بأن "خالو رامي" يمرّ بأزمة، أو أن هناك شيئًا خطيرًا بخصوصه. كنتُ أطمئنّ على أخباره من حنين عبر الرسائل الإلكترونية، أو الاتّصالات الهاتفية المقتضبة.
أعاني منذ الطفولة من رُهاب الخوف من موت أبي. لا أعرف لماذا؟ كلّ يوم أتخيّل سيناريو مختلفًا لوفاته. وأبكي. أبكي حتّى انقطاع أنفاسي. وفي يوم الجمعة، وهو اليوم الوحيد الذي ينام فيه لوقت متأخّر، أظلّ متوتّرة لدرجة التّشنّج حتّى أراه مستيقظًا، يطلب من ماما قهوة الصبح. يمكن لأن عقلي الباطني كان يخشى أن أتحمّل مسؤولية شرود أمّي وحالاتها النفسية وحدي؟

لكن المفاجآت كالعادة تأتينا من حيث لا نحتسب. جاءني خبر موت خالو من صريخ أمّي وهي نائمة. استيقظتْ، وهي تشعر باختناق، قالتْ لي إنها تشعر بأنها تموت. وأخذتْ تلهج بالتّشهّد، فأسرعتُ أتّصل ببابا، الذي أخبرني بأنه سيتّصل بالإسعاف، وقال لي إنه سيتّصل ببعض أقاربنا، لكي يَحضروا للمساعدة. لكن ماما بدأتْ في الصراخ بشكل هيستيري، وهي تقول لي:
– خالك مات، يا نسرين. رامي مات.
وبعدما كانت على وشك الموت، كما اعتقدنا جميعًا، وجدتُ وجهها يحتقن، وتبدأ في البكاء. نهضتْ من غرفة النوم، ومشتْ في هدوء غريب حتّى غرفة الصالون. لم تجلسْ على الأرائك أو الكراسي، بل جلستْ على الأرض، ووضعتْ وجهها بين كَفَّيْها، وراحت تبكي. ولا يمكن لأحد أن يعرف كيف تنبّأتْ أو عرفتْ بموت خالو، وكيف ألحّتْ على بابا، ليُجري إجراءات السفر لدبي، لكي يُحضر الجُثّة. وعلى إخفاء الخبر عن "جدّو" و"تيتة"، على الأقلّحتّى وصول الجُثّة لمصر.
كان قد عاد إلى مصر في إجازة قصيرة، قضى أغلبها في مصحّة نفسية خاصّة، بسبب الضغط النفسي الكبير الذي كان يعاني منه، كما أخبرتْني ماما. وبمُجرّد عودته لدبي، يبدو أنه كان بدأ يعاني من أمراض أخرى. بابا أخبرني أنه أُصيب بفقر الدم في آخر أيّامه. وبعد وفاته بسنوات، فهمتُ أنه أُصيب باللوكيميا، وكان هذا هو السبب في انهيار صحّته ووفاته.
كنتُ أتصوّر أن البديهي الاتّصال بحنين، بمُجرّد معرفتي بالخبر المؤلم، لكن ماما قالتْ لي محذّرة إنني لو قتلتُها، لكان ذلك أهون عليها من الاتّصال بحنين لإخبارها بوفاة خالو.
مبالغات ماما تجعلني أشعر بأنني سأُصاب بجلطة قلبية من شدّة بشاعتها، لكنْ، مع ذلك، وبسبب جدّيّتها الصارمة في مثل هذه الأمور، لا يمكنني معارضتها.
أكتفي بدعابة، أحاول بها تخفيف الأحاسيس الكابوسية التي تُسبّبها مثل هذه المبالغات:
– نادية والنبي ممكن تبطّلي تقولي لي الحاجات المزعجة دي.
– نادية في عينِكْ قليلة الأدب!
– آسفة، يا ماما، مش قصدي.
كانت تشعر بفداحة ما قد تتعرّض له حنين نفسيًا، إذا عرفتْ بخبر وفاة أبيها بعد اختفاء طنط كريستين منذ طفولتها، وعَدّها هي نفسها أن أمّها ماتتْ منذ اختفتْ.
أُدرك الآن أنني لم أتحدّث مع حنين أبدًا عن هذه الأشياء، ربّما إلا بعد وفاة خالي. أعتقد أن تحذيرات أمّي الأولى بالامتناع عن إخبارها بالأمر ظلّ أمرًا، قَطَعَ لساني عن الخوض في الموضوع، حتّى بعد مجيء حنين للمنصورة، ومعرفتها بخبر وفاة خالو من المذكّرات التي أوصتُني آنذاك أن أُعطيها لها.
وفاة خالو رامي ظلّتْ في خيالي كأنها "تابو"، لا يمكنني الحديث فيها مع أيّ أحد. لكن المدهش حديثي في الأمر مع حنين بكلّ تلقائية، حين بدأتْ تحكي لي عنه، وعن زياراته لها في باريس، وكيف كانت العلاقة بينهما.
شعرتُ بالإرهاق والنعاس فجأة، فأغمضتُ عينَيّ، واستسلمتُ لمشاهدة فيلم على الشاشة أمامي.
(5)
أنهيتُ إجراءات دخول باريس، بعد تفتيش دقيق. خلعْنا الأحذية، وأخرجتُكلّ ما يمكن أن يؤدّي لصفير أجهزة الأشعّة، وانتظرْنا عودة أكثر من مارّ تحت الأجهزة لإعادة الاختبار، بسبب صفير الجهاز، بالإضافة إلى المساحة الشاسعةلمطار "أورلي"، التي اقتضتْ منّي مشيًا طويلًاحتّى وصلتُ أخيرًا لصالة استقبال القادمين.
بحثتُ عن شبكة "واي فاي" في المطار، وأرسلتُ لبابا رسالة، أُطمئنه على وصولي وإنهاء الإجراءات، وكتبتُ له أنني سأتّصل بهما من الفندق بمُجرّد وصولي.
خرجتُ من المطار وأنا منبهرة بكلّ ما حولي. كان الجوّ شديد البرودة، رغم أني ارتديتُالجاكيت المبطّن بالفرو الذي وضعتُهُ على كتفي طَوَال الرحلة.
توجّهتُ لسيّارات الأجرة التي تقف في صفّ انتظار طويل، وأعطيتُ الورقة التي أخذتُها من موظّفة استعلامات المطار، وبها اسم الفندق وعنوانه لأوّل شخص رأيتُه من الواقفين أمام صفّ السّيّارات. تأمّل الورقة لدقيقة، وهزّ رأسه، ثمّ ساعدني في وضع الحقيبة في السّيّارة.
شعرتُ بشيء يشبه الفرحة في صدري وأنا أتأمّل الأجواء الماطرة على الطريق السريعة من المطار إلى المدينة. ومرّة أخرى عاودني القلق من عدم اتّصالي مبكّرًا بحنين. لكني تشبّثتُ بفكرة أن أعدّ نفسي مُجرّد سائحة ليوم واحد،قرّرتْ أن تزور باريس.
بعد نحو ثلث ساعة، دخلْنا نطاق المدينة. كنتُ منبهرة بالعمارة القديمة الجميلة، التي يفوح منها عبق تاريخي غريب، وبالإضاءات التي تضيء الكافيهات، وبشكل الناس الذين يتحرّكون في الشوارع بحيوية رغم البرد.
ورغم الصداع الذي بدأ يشتدّ تدريجيًا، كنتُ أستمتع بجمال ما أرى. أحسستُ أن عينَيّ كانتا عمياوَيْن، وأبصرتا في باريس. كلّ شيء هنا جميل ومُبهِر ومُلوّن ومختلف عمّا أراه يوميًا في المنصورة.
تمنّيتُ الوصول للفندق بسرعة، لأتناولَ دواء الصداع قبل أن يفتكَ برأسي.
فجأة وجدتُ السائق يصرخ ويرفع صوت الراديو في السّيّارة. لم أفهم. وضع يده على رأسه، ثمّ قال لي:
فرنسا تتعرّض لعمليات إرهابية.
قفز قلبي في ضلوعي، وشعرتُ بتقلُّص في بطني، وقلتُ له: أين؟ ماذا حدث؟
قال لي:
* اطمئنّي، نحن الآن قريبون من الفندق الذي تذهبين إليه. هناك هجمات إرهابية رهيبة.. إطلاق نار على مقاهٍ، ويبدو أيضًا في مسرح كاتلان، غير البعيد عن هنا.

حاولتُ أن أتابع ما يقوله قارئ النشرة في الأخبار، وقلبي يقفز هلعًا. وكان السائق قد بدأ يزيد قليلًا من سرعة السّيّارة،كلّما وجد الفرصة، من دون أن ينطق بحرف، باستثناء صرخات الدهشة كلّما سمع جديدًا عن الأحداث.
وصلْنا إلى الفندق، وأعطيتُ السائق نقوده بعد أن تمنّى لي السلامة، ودخلتُ للفندق بسرعة وأنا أجرّ حقيبتي خلفي.
رحبّتْ بي فتاة فرنسية شابّة، تقف أمام "الكاونتر" الخشبي، وسألتْني:
– السّيّدة نسرين شرنوبي؟
– هززتُ رأسي بالإيجاب.
رحّبتْ بي، وقالتْ:
– للأسف الشديد، وقعتْ منذ دقائق عمليات إرهابية كبيرة. ومن الجيّد أنكِ وصلتِ إلى هنا في الموعد. ربّما تُعلَن الطوارئ بعد قليل.
أحسستُ بجفاف فمي في هذه اللحظات. وفكّرتُ أن أهاتف حنين أوّلًا. سألتُ موظّفة الاستقبال إذا كان هناك هاتف، يمكن الاتّصال به من الغرفة، فأجابتْ بالإيجاب، وطلبتْ جواز سفري.
فتحتُ الباب، وأدخلتُ حقيبتي. بدت الغرفة الصغيرة نظيفة وأنيقة. وضعتُ الحقيبة بجوار دولاب صغير قريب من الباب، وفتحتُ الموبايل، لكي أبحث عن رَقْم حنين.
وأسرعتُ إلى الريموت، لأفتح التلفزيون الذي كانت شاشته معلّقة أعلى كومود ومرآة في مواجهة السرير.
وصلتْني من الغرفة أصوات سيّارات، لم أفهم إذا كانت شرطة أو إسعاف. اتّصلتُ بحنين، ورنّ الهاتف عدّة مرّات، ولكنْ، لم تردّ. شعرتُ بالقلق. أرسلتُ رسالة لأبي، أُطمئنه عن وصولي الفندق. ودعوتُ الله ألا يكونوا قد عرفوا بموضوع العملية الإرهابية.
قنوات التلفزيون الفرنسية بدت كأنها قنوات نقل أخبار القيامة، كانت تنقل الأحداث من مواقع الأحداث، التي وصلتْها قوّات الشرطة، وطوّقتْها لحين انتهاء تحقيقات الشرطة الجنائية، وسمحتْ فقط لعربات الإسعاف والمُسعفين بالدخول لإنقاذ الجرحى، الذين كانوا يركضون والدماء تغطّيهم، وملامح الفزع تغلب على الألم. رأيتُ عددًا من الجثث على الأرض، والبعض كانوا من الجرحى الذين تلوّثتْ ملابسهم بالدماء.
أحسستُ بالرعب، ولم أعرف ما ينبغي عليّ أن أفعل. من الموبايل أرسلتُ رسالة لحنين أُبلّغها برغبتي في الاطمئنان عليها، ثمّ عدتُ إلى الهاتف في الغرفة، لأعاود الاتّصال بها. ولكنها للمرّة الثانية لا تردّ.
راودني إحساس قويّ بأنني نحس على المكان! معقول أن يحدث هذاكلّه في يوم زيارتي لباريس لأوّلمرّة؟ أنتظر ربع قرن لزيارة فرنسا، ولا أختار إلا هذا اليوم؟ طَوَال عمري أؤمن بالتشاؤم والنحس، ولم أنتبه أبدًا أني اخترتُ يوم الجمعة 13 للسفر.. يا للغباء!

كنتُ أُنصِتُ للمذيعين والمذيعات وهم يتابعون الهرج والمرج والإسعاف ونقل الجرحى للمستشفيات، والدماء والخوف الذي أصبح حالة عامّة: "باريس تتعرّض لأكبر عملية إرهابية منذ الحرب العالمية الأولى"، "أعداد القتلى والجرحى غير معقولة". "الضربات في أكثر من مكان"، وهناك 1500 شخص محتجزون في أحد المسارح.
فتحتُ الحقيبة بسرعة، وأخرجتُ حقيبة الأدوية الصغيرة، وعبثتُ بها حتّى وجدتُ العقار المسكّن للصداع. لم أجد زجاجة مياه في الغرفة، فنزلتُ إلى الاستقبال. فلم يكن في مقدوري الجلوس أكثر من ذلك.
(6)
في منطقة الاستقبال بالفندق، وجدتُ الكثيرين في هذه المرّة يقفون أمام ال "كاونتر"؛ حيث مازالت الفتاة الموظّفة تقف في مكانها لتخليص إجراءات وافدين جدد، أو تجديد حجز بعض مَنْ تبيّن لهم عدم قدرتهم للخروج إلى مطار في مثل هذه الظروف. سيّدات ورجال كبار في السّنّ، ملامحهم أجنبية، من اللكنات كنتُ أتكهّن بجنسيّاتهم: إسبان، إيطاليون، إنجليز، وغيرهم. وبعض الواقفين كانوا شبابًا من الجنسَيْن.
كانوا أشبه بمجموعة بشر في سوق. جدال وصخب. والملامح تجمع الغضب بالخوف، والسّيّدات يبكينَ بمرارة، وهنّ يُمسكنَ بمناديل بيضاء. والبعض من الواقفين يتحدّث في الهاتف. زاد هذاكلّه من إحساسي بالخوف. وارتفع ضغطي، لأن دقّات الصداع في رأسي أصبحت لا تُحتمَل.
سألتُ أحد الواقفين عن مكان المطعم، فأشار باتّجاه ردهة، وجدتُ بها عدّة جلسات وأرائك جِلْدية وثيرة، وكان هناك رُكن، يشبه منطقة الاستقبال في مدخل الفندق، تبيّنتُ أنه بار لتناوُل المشروبات. وخفتُ ألا يكون لديهم ماء أو قهوة. فمشيتُعدّة خطوات أخرى، حتّى رأيتُ باب المطعم.
دخلتُ، فوجدتُ شابًا أسمر نحيفًا يتابع الأحداث على هاتفه النّقّال. وضع الهاتف بجواره، ورحّب بي، وسألني إذا ما كنتُ أرغب في تناوُل العشاء. فقلتُ له إنني أرغب أوّلًا في بعض المياه، والقهوة. أومأ مُتفهّمًا. وبعد دقائق، أحضر لي كوب ماء ممتلئًا. واندهشتُ، فسألتُه: أليس لديكم مياه معدنية؟
وأخذنا نتجادل في حوار عَبَثي لدقائق، فهمتُ منه في النهاية أنه كان بإمكاني استخدام مياه الصنبور للشرب، في الغرفة، وأن السائد لمَنْ يرغب في مياه أخرى تناوُل المياه الغازية. وضحكتُ من غبائي. بلد فيها نهر السين، هل تحتاج لمياه معدنية؟
سألتُهُ عن الأخبار، فأخبرني أن فرنسا كلّها في حالة ذهول، لأن الهجوم كبير ومنظّم، وتمّ في توقيت متقارب في مواقع عديدة، وكثير من الضحايا تمّ قَنْصهم في المقاهي عشوائيًّا، بالإضافة إلى أحداث في ملعب فرنسا الدولي، وفي مسرح كابلان. وقال لي في أسى:
– يبدو أن الشرطة ستقتحم المسرح، لأنهم أُبلغوا أن المجرمين يقومون بقَتْل الناس في الداخل بلا أيّتردّد. أنا لا أفهم مَنْ هؤلاء المجانين؟! وماذا يريدون بقَتْل ضحايا يحضرون حفلًا موسيقيًا أو يجلسون على مقهى؟! هذا أمر مخيف وغبيّجدًّا.

ووجدتُ نفسي فجأة أبكي بلا أيّ مقدّمات. وما إن شعرتُ بدموعي حتّى تحوّل بكائي إلى انفجار، يشبه بكاء الأطفال. تأمّلني الفتى للحظات بارتباك وتعاطف، ثمّ انطلق إلى منضدة قريبة، واختطف من عليها علبة محارم ورقية، ناولني إيّاها. شكرتُهُ. فقال لي:
– اليوم كلّنا فرنسا. هل لديكِ أقارب أو أهل في منطقة الأحداث؟
هززتُ رأسي نافية، ثمّ تذكّرتُ حنين، فقلتُ له باكية:
– لا أعرف، لكنْ .. ربّما.. حنين.. لا أعرف أين حنين.
– لندعو ونصلّي للضحايا وأهلهم. الحدث مؤسف جدًّا.

في هذه اللحظة تمنّيتُ أن أجد بابا أمامي، لأرتمي في حضنه، وأبكي كالأطفال. فلا يمكنني الآن فَهْم أيّ شيء من هذا الجنون. ثمّ أين حنين؟ معقول أن تكون قريبة من هذه الأحداث؟ ومَنْ هم هؤلاء الإرهابيون؟ وماذا يريدون من فرنسا؟ وما ذنب هؤلاء القتلىكلّهم؟ حرام ما يحدث، والله. ما هذا الجنونكلّه؟
سمعتُ الأخبار بالفرنسية حين رفع الشّابّ مؤشّر الصوت:
"أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند – الذي كان ضمن المتفرّجين في ملعب فرنسا الدولي، حيث كانت مباراة ودّيّة بين المنتخبَيْن الفرنسي والألماني – في خطاب مقتضب، ألقاه بعد تفجيرات باريس حالة الطوارئ في أنحاء البلادجميعها، وإغلاق الحدود، وبعض المناطق. وفي السياق نفسه، دعت السلطات الفرنسية سكّان العاصمة إلى عدم الخروج من بيوتهم. كما دُعي الجيش للنزول لحماية العاصمة باريس،والمساعدة في حفظ الأمن.
وألغى فرانسوا هولاند زيارته إلى تركيا للمشاركة في قمّة العشرين بولاية أنطاليا لمتابعة الوضع، وعقد اجتماعًا مع مجلس الدفاع في قصر الإليزيه، لبحث تداعيات الهجوم. وفي السياق نفسه، أصدر الادّعاء العامّ قرارًا بإغلاق المكتبات، والمتاحف، وأحواض السباحة، والصالات الرياضية، والأسواق العامّة، في العاصمة؛ واستُثنيت المدراس فقط".
قلتُ بهلع: يا إلهي! الرئيس الفرنسي كان مُستهدَفًا؟
فقال الفتى: هي عملية مجنونة،بالمقاييس كلّها. هؤلاء المجانين قتلوا 90 شخصًا في المسرح، والآن الشرطة قرّرتْ اقتحام المكان، أيًّا كانت الخسائر.
أشعل الفتى سيجارة، ونظر لي معتذرًا على التدخين، فقلتُ له ألا يعتذر. ولكن قلبي كان قد بدأ يأكلني على حنين. هل هي خارج فرنسا، ولذلك لا تردّ على الرَّقْم الذي أتّصل بها منه؟ ولكني أيضًا أرسلتُ لها رسالة.
انتبهتُ لنسياني الهاتف في الغرفة. كانت الساعة قد اقتربتْ من منتصف الليل. فقلتُ لنفسي إن حنين عادة لا تسهر كثيرًا. واليوم كان لديها يوم عمل بالتأكيد. لعلّها نائمة.
شربتُ القهوة التي قدّمها الفتى، وقلتُ له إنني لم أُغيِّر نقودًا إلى العُملة الأوروبية بعد، فأخبرني أنه سيُضيف ثمن القهوة على الغرفة. شكرتُهُ، واستكملتُ شرب القهوة بسرعة. كانت مُرّة وبلا سُكّر.
رغم إحساسي بالوَنَس هنا، وبوجود بعض الناس الذين اجتمعوا حتّى لو كانوا قلقين وخائفين، لكنْ، كان عليّ العودة للغرفة لإعادة الاتّصال بحنين. شكرتُ الفتى الأسمر، وغادرتُ المطعم. في الردهة، كان أغلب روّاد الفندق قد تجمّعوا، وجلسوا على الأرائك المحدودة، وسمعتُ فتى يبدو عربيًّا يقول لجاره بالعربية:
– الآن فقط تنتبه فرنسا لوجود إرهاب! كلّ يوم يموت آلاف من ضحايا الإرهاب في سوريا والعراق، وفي كلّ مكان.
لكن صاحبه الذي كان يتابع فيديو خبريًّا على شاشة هاتفه لم يردّ عليه.
صعدتُ إلى الغرفة وأنا أدعو الله أن أجد رسالة من حنين.
(7)
بعد انتصاف الليل، وعندما تبيّنتُ إغلاق حنين لهاتفها، وأنه لم يعد أمامي سوى الانتظار حتّى الصباح، خلعتُ ملابسي، ودخلتُ عارية إلى الحمّام الصغير، وألقيتُ بجسدي تحت المياه الدافئة، وأنا أتمنّى أن ينتهي هذا الكابوس على خير.
ارتديتُ بيجاما مريحة، وعدتُ لمتابعة الأخبار. وبجواري رواية دوستويفسكي. التفتُّ لغلاف الرواية، فَمَرّ في ذهني سؤال عابر: كيف كان من الممكن أن يُحلّل نفسية المجرمين الذين قتلوا هؤلاء البشركلّهم في دقائق، ومجانًا بلا سبب، ولا ذنب ارتكبه أيّ منهم؟ ثمّ عدتُ وتذكّرتُ أن راسكلينكوف في تبريره لجريمته كان يستند إلى مبرّرات.

قلّبتُ في صفحات الرواية، حتّى وقعتُ على المقال الذي يفترض أنه كتبه قائلًا فيه: "أمّا الفئة الثانية، فهي تتألّف من رجال يتميّزون بأنهم جميعًا يكسرون القانون، بأنهم جميعًا مُدمِّرون، أو بأنهم جميعًا ميّالون إلى أن يصبحوا كذلك بحُكم ملكاتهم. جرائم هؤلاء الرجال تتفاوت خطورتها، وتتنوّع أشكالها طبعًا، وأكثرهم يريدون، بأساليب متنوّعة جدًّا، تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل، فإذا وجب على أحدهم من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جُثّة، أو فوق بركة دم، فلن يستطيعَ أن يعزم أمره على أن يخطوَ فوق جُثّة، وفوق بركة الدم وضميره مرتاح؛ كلّ شيء رهن بمضمون فكرته، وبما لها من أهمّيّة طبعًا".*
يا إلهي، فكأن دوستيوفسكي قد نفذ إلى عقلية مجرمي اليوم من مكانه هناك على بُعْد عقود زمنية، تفصلنا عنه، وكأن إجرام هؤلاء البشر مُجرّد حلقات متوالية تُغيّر القبّعات، بينما لا تخفي إلا عقلًا إجراميًّا واحدًا.
وانتفضتُ عندما دقّ جرس هاتفي المحمول فجأة. هتفتُ لنفسي: حنين أخيرًا، لكني انتبهتُ لاسم "بابا " على الشاشة.
كان في حالة هلع، ويبدو أن الأخبار الآن أصبحت حديث العالم كلّه. تعمّدتُ أن أبدو هادئة، وافتعلتُ أنني في طريقي للنوم. وقلتُ له إن الأخبار للأسف صحيحة، لكني بخير لأني بعيدة تمامًا عن موقعها. وإن كان قلبي يُحدّثني بأنها قريبة، لأنني كنتُ أسمع أصوات سيّارات الإسعاف بلا توقّف.
لم أُغلق الهاتف إلا بعد أن حدّثتُأمّيأيضًا. وقلتُ لها كاذبة إنني اتّصلتُ بحنين واتّفقتُ على اللقاء معها غدًا، وإنها بخير أيضًا.
أغلقتُ الهاتف، وقلتُ: سامحني، يا ربّ. لكنْ، يكفيني القلق الذي أعيشه هنا، فلا يمكنني احتمال قلق أمّي، وهي على بُعْد آلاف الكيلومترات.
بدأ الصداع يغادر رأسي تدريجيًا، وتسلّل الخدر من التّوتّر والتعب لجسدي. لكن ذهني لم يتوقّف عن العمل.
نهضتُ فجأة حين تذكّرتُ مفتاح الحياة. فتحتُ حقيبة يدي، وتأكّدتُ من وجود السلسلة والأيقونة، وتنفّستُملء رئتَيّ.
هذه السلسلة الذهبية التي أعادت الحياة للكثير ممّاكنّا نظنّ أنه مات للأبد. كشفتْ لنا أسرارًا، لم يكن أحد يعتقد أنه سيصل لمعرفتها يومًا. وهي السبب الحقيقي لوجودي في باريس الآن.
لم يكن أمامي وسيلة لاستعادة هدوئي إلا أن أُغلق التلفزيون، وأُنصِتَ للموسيقى ولو لدقائق حتّى أتمكّن من السيطرة على خوفي ومشاعري.
تذكّرتُ يوم جاءتْ ماريان إلى العيادة، لتطلب لقائي. لم أكن أعرف الاسم، لكني طلبتُ من الممرّضة أن تُدخِلَها لدقائق طالما الأمر شخصي. قالتْ لي إنها جاءت لأمر يخصّ كريستين.
لم أنتبه في البداية، فقلتُ لها: كريستين مين؟
قالتْ: زوجة خالكِ.
دقّ قلبي، وتأمّلتُ الفتاة. كانت جميلة، شعرها البُنّيّ مصفّف بطريقة بسيطة، وترتدي قميصًا أبيض طويلًا على بنطلون جينز، وتضع نظّارة طبّيّة. وحاولتُ أن أتكهّن بمَنْ تكون، لكنّي لم أعرف.
سألتُها إذا كان الأمر الذي تريد أن تُحدِّثني فيه سيستغرق وقتًا، فأومأتْ برأسها. قلتُ لها أن تنتظرني حتّى أنتهي من الحالة الباقية لليوم.
عندما جلسْنا في غرفة العلاج، طلبتُ من الممرّضة ألا تقاطعني أو تفتح الباب لأيّ سبب.
استعدتُ ما قالتْهُ ليكلّه، والذي أُنصِتُ له وأنا فاتحة فمي من شدّة الدهشة. وهو ما حدث لأمّينفسه حين حكيتُ لها تلك التفاصيلكلّها:
كانت أمّي تعرفها، وسمعتْ اسمها عن طريق خالو، وهذا ما قلّل من شكوكي، فأخبرتُها بما قالتْه لي، وهي تؤكّد لي الخبر الذي بدا لي مثل الصاعقة: كريستين زوجة خالي وأمّ حنين حيّة تُرزَق، ولكنها فَقَدَت الذاكرة، ولا تعرف شيئًا، لا عن رامي أو حنين أو أيّ شيء يخصّ حياتها.
سألتْني أمّي بعصبية وفضول:
– إزاي يعني مش فاهمة؟ احكي لي بسرعة من غير ألغاز.
كانت ماريان قد أخرجتْ من حقيبتها سلسلة ذهبية معلّقة، فيها دلاّية على شكل مفتاح الحياة، وقالتْ إنها بفضل هذه السلسلة فهمتْكلّ شيء. أمسكتُ بالسلسلة كأنني أمسك بسرّ غامض. فقالتْ لي إنها وجدتْها بين متعلّقات أبيها موريس، في صندوق صغير فتحوه بعد وفاته. وقد تعرّفت الأمّ؛ زوجة موريس، على السلسلة، وأخبرتْ ماريان بأنها تخصّ كريستين بالفعل.
ماريان التي حاولتْ أن تفهم من أمّها سرّ وجود متعلّقات تخصّ كريستين لدى أبيها، لم تصل لنتيجة واضحة محدّدة. كانت الأمّ لديها شكوك فقط، لكنها ليس لديها معلومات.
قالتْ ماريان:
فبعد إعلان زواج كريستين من رامي، وإعلان تغييرها لدينها، قرّرعمّي جورج وزوجته جورجيت أن يتركا المنصورة هربًا من الفضيحة، خصوصًا بعد إعلان عمّي تبرؤه منها حتّى يموت.
لكنْ، يبدو، كما فهمتُ من ماريان، أن موريس لم يسكتْ، وظلّ يتربّص بها، وخطّط لاختطافها بمعرفة مجموعة، لم يتمكّن أحد من معرفتهم، وبقي أمرهم سرًّا. نجحوا في اختطافها من منزلها في الإسكندرية، بعد تخديرها، في وقت صادف وجود حنين نائمة في فراشها، وخروج خالي رامي من البيت.
كانت القصّةكلّها عجيبة جدًّا، ووجدتُ نفسي أقول لها:
– نعم؟ أفندم؟ ده فيلم ده جاية تحكيه ليا هنا؟

لكن ماريان، وبخجل شديد، قالتْ وهي تتحاشى النظر في عينَي:
– بصراحة أنا المفروض أكون أكتر واحدة مكسوفة وتعيسة من الموضوع ده، لأني باحكي عن أبويا كراجل، أنا شايفة إنه ظَلَم وأجرم في حقّ بنت عمّتي.
سألتُها عن السبب في فقدان طنط كريستين لذاكرتها، فأخبرتْني بأنها ظلّت تبحث في الموضوع، وتسأل أقاربها وأمّها عن تفاصيل تخصّعمّتها جورجيت وزوجها، وتاريخ اختفاء كريستين، حتّى توصّلتْ لإمكانية أن تكون قد أُدخلَت أحد الأديرة. وقرّرتْ أن تبدأ رحلة بحث بمساعدة الكثير من زميلاتها وصديقاتها، وتتبّعت الأديرة التي يمكن أن تكون قد انتقلتْ إليها، ونبشتْ أوراق أبيها كلّها، حتّى وصلتْ إلى بعض الملابسات التي جعلتْها تتوقّع أحد الأديرة كمكان محتمَل لوجود كريستين به.
وقالتْ إنها وفقًا لما تمكّنتْ من معرفته عن الأمر، اكتشفتْ أن الذين قاموا بخطف كريستين تعرّضوا، وهم في طريقهم للدِّيْر، إلى حادث سَيْر، انقلبتْ بسببه السّيّارة، أدّى إلى إصابتها بإصابات عديدة وكسور، لكنْ، عندما أفاقتْ، كانت فاقدة لذاكرتها. وانتهى الأمر بإيداعها الدَّيْر.
كان الأمر كلّه غريبًا جدًّا، وكنتُ أشعر بمشاعر متباينة وأنا أتخيّل لو كان هذا الأمر قد كُشف قبل وفاة خالي، وتأثيره على حنين، ثمّ كيف ستستقبله الآن؟
أخذتْ ماريان تعتذر، وتؤكّد لي أنها من البداية لم تكن تحبّ تشدُّد أبيها وتزمّته. وأنهاعانتْكثيرًا بسبب هذا التّزمّت. وكان عليها أن تعرف الحقيقة، وأن تُخبرنا بها من أجل حنين ابنة كريستين.
كنتُ أهزُّ لها رأسي بتفهّم، وأشكرها بمحبّة على ما فعلتْهُ، لكني وجدتُ نفسي أنهار باكية، وأنهنه مثل الأطفال.
عاشتْ حنين حياتهاكلّها بلا أمّ، وعاش خالي بقية حياته منذ اختُطفَتْ، وهو لا يعرف أهي حيّة أو ميتة، وهي، طنط كريستين نفسها، عاشتْ ربع قرن من حياتها من دون أن تعرف أن لها زوجًا وبنتًا. بينما هذا الشخص المتزمّت ضيّق الأفق، موريس، عاش كاتمًا السّرّ الذي كان يرى به أنه يُنقذ دينه ومعتقداته.

لكني لم أنطقْ بحرف، سوى: "حرام، والله حرام" التي كانت تخرج مع بكائي، بينما كانت ماريان تحاول أن تُهدّئني وهي تعتذر عن تسبّبها في هذا الموقف السخيف.
وبالعكس تمامًا، فقد كنتُ أُقدِّر أمانتها، ووعدتُها أن نصبح صديقَتَيْن، وسألتُها إذا كان بإمكاني أن أحكي ذلك لأمّي، فقالتْ لي إنها استأمنتْني على هذا الخبر من أجل ابنة عمّتها. وقالتْ إنها استعانتْ بصديقة طيّبة في الوصول للدَّيْر الذي تعيش فيه ابنة عمّتها، ولكنها لم ترها بنفسها.
قالتْ: بصراحة كان مستحيل أفكّر آجي أقابلكْ إلا بعد ما اتأكّدتمامًا إنها موجودة في الدَّيْر.
سألتُها، وهل والداها يعرفان شيئًا عن الموضوع، فهزّت رأسها وهي تقول:
– تصدّقيني لو قلتْ لك إننا ما نعرفش حاجة عن عمّتي من يوم ما خرجوا من المنصورة؟ حتّى لمّا عم جورج اتوفّى ما حضرناش الجنازة. فيه ناس بيقولوا إن عمّتي جورجيت هاجرت برّه مصر. بس ما حدش عارف. عمّتي كانت حاسّة إن كريستين ظلمت نفسها، وإنها كانت تستاهل تعيش حياة طبيعية، وتفرح بيها في إكليل زي كلّ الأمّهات. كانت حسرتها كبيرة.
أفقتُ من ذكرياتي التي أخذت تتداعى على صوت رنين الهاتف، فانتبهتُ شبه مذعورة.
(8)
استيقظتُ من النوم. فتحتُ عينَيّ، وللحظات، لم أتعرّف على مكاني. وبعد ثوانٍ أخرى عاد لي وعيي، فتذكّرتُ أنني في فرنسا، وتداعت الأحداث في ذهني، فانتفضتُ. استعدتُ الحُلم الذي رأيتُ فيه حنين تُحدِّثني في الهاتف، وتطلب لقائي، وذهابي لها في مكان غريب، ورأيتُ زحامًا شديدًا، وكنتُ أبحث عنها، وأنادي، ولكني لم أنجح في رؤيتها. وكلّما رأيتُها بين مجموعة من الناس، وأركض باتّجاهها، أراها تركض أمامي، كأنها تهرب منّي. أنادي عليها، فتنادي عليّ. أقف حتّى أعرف أين هي، وما إن أراها حتّى يتكرّر الأمر.
أحسستُ بالانزعاج من الحُلم. كانت أضواء الغرفة مضاءة، ويبدو أنني نمتُ فجأة بينما كنتُ أستدعي قصّة ماريان التي حَكَتْهَا لي.
نهضتُ بعد أن تأمّلتُ الهاتف، فوجدتُهُ مُطفأ تمامًا. أدركتُ أن شحن الهاتف قد نفد. فأسرعتُ للحقيبة الصغيرة، وأخرجتُ الشاحن منها. ووضعتُ الهاتف على الشاحن.
دخلتُ الحمّام، وبمُجرّد خروجي، كانت الحياة قد دبّت في الجهاز الذي كان يرنّ بالفعل. رأيتُ اسم حنين على الشاشة، فرددتُ بسرعة، وأنا أصرخ تقريبًا:
– حنين! إنتي فين، يا بنتي؟ أنا هاموت أعرف أخباركْ من امبارح.
ساد الصمت،ثمّ وجدتُ صوتًا غريبًا لفتاة تقول بلغة عربية مكسّرة:
– أنا آسفة، حنين ليستْ هنا الآن، مَنْ معي؟
– أنا نسرين بنت خالها.
– أهلًا، أهلًا، أنا ناتالي، أختها. أقصد..
– أيوه أيوه بنت عمّو أحمد حسين؟
– أيوه. أنتِ في فرنسا؟
– أيوه، أنا جيت امبارح، وكنت عاملة مفاجأة لحنين.
– في أيّ فندق؟
– ثانية واحدة، وبحثتُ عن أيّ شيء يذكّرني باسم الفندق، ووجدتُ دفترًا صغيرًا، فقلتُ لها اسم الفندق، فقالتْ:
– سأكون عندكِ بعد ساعة تقريبًا، وسوف تلحق بنا حنين.
تنفّستُ بعمق أخيرًا، ولكني كنتُ في حالة فضول لأعرف الأخبار. ارتديتُ ملابسي، وقرّرتُ النزول إلى المطعم، لأفطرَ، وأعرف آخر الأخبار من الموجودين.
كان المكان ضاجًّا بالصخب، وحاولتُ أن أثرثر مع أكبر عدد ممكن، وأنا في طريقي للحصول على القهوة. لم أشعرْ بشهية للطعام. لكني تناولتُ بعض قِطَع الأجبان، وقطعتُ شريحة خبز من "باجيت" كبيرة، وتوجّهتُ لإحدى المناضد.
كانت الأخبار التي تناقلها البعض من حولي مخيفة، 128شخصًا تعرّضوا للقتل، والجرحى بالمئات، وفرنسا تُغلق حدودها، وتُعطِّل العمل في المنشآت الحيوية والمدارسكافّة. والمجلس الوطني يجتمع بوجود الرئيس الفرنسي لمناقشة الأوضاع. قلتُ لنفسي لو فرنسا تخوض الحرب، فلن يكون الأمر أقلّ من هذا، لكنْ، أيّ حرب التي تخسر فيها 130 روحًا، بينما الخصم مجموعة أشباح؟
كانت النادلات وبعض نزيلات الفندق يبكينَ بكاءً صامتًا، والبعض منهنّ تماسكنَ، وارتسمتْ على وجوههنّ آثار حزن شديد.
أنهيتُ الإفطار، وخرجتُ من المطعم للبحث عن جريدة، لكي أفهم منها أكثر. وتناولتُ القهوة معي، وخرجتُ إلى باحة الاستقبال في انتظار حنين وناتالي.
بعد قليل شاهدتُ رجلًا، له ملامح عربية، شَعْره الأنيق يفيض باللون الأبيض. كان يرتدي جاكيت بُنّيًّا وبنطلونًا أزرق. ويضع نظّارة شمس أنيقة، وأخذ يتلفّت في المكان، واقترب منّي. أحسستُ بالخوف. سألني بالعربية:
– إنتي نسرين؟
نظرتُ إليه بتردّد، وقلتُ: أيوه، بس حضرتك تعرفني منين؟
قال: أنا أحمد حسين..
انتفضتُ واقفة، وسلّمتُ عليه بترحاب، وأخبرتُهُ أنني سمعتُ عنه كثيرًا من المرحوم خالي ومن حنين.
أخبرني أن خالي كان أعزّ أصدقائه، وأن حنين ابنته بلا أيّ مبالغة/ وشعرتُ بصوته يختلج قليلًا.
سألتُهُ:
– أُمّال ناتالي وحنين فين؟
خلع نظّارته، ورأيتُ عينَيْه محمرَّتَيْن وهو يقول بأسى:
– للأسف،ناتالي لمّا كلّمتِك ما حبِّتْش تقول لك. بَسْ حنين كانت موجودة امبارح في الحفلة اللي….
وصرختْ من دون أن يُكمِل كلامه:
– لااااااااااااااااا. لا، يا عمّو لااااااااااااا ماتقولش.
مسح عمّي أحمد دمعة من على وجنته غافلتْهُ، وقال لي بهدوء مصطنع:
– حنين في المستشفى، والأمل كبير في ربّنا. ناتالي وسيسيليا سبقوني على هناك. أنا جيت علشان تشوفيها.
أحسستُ بأن الدنيا تُظلم من حولي، كانت ملامح عمّي أحمد تتحوّل إلى ضباب وهلام، والوشيش الغامض يملأ سَمْعي. وتهاويتُ، وأنا لا أعرف أين ذهب العالم فجأة.
(9)
لم يسمحوا لنا بالدخول لغرفة العناية المركّزة. رأيتُناتاليلأوّلمرّة. احتضنتُها بقوّة كأني أعرفها منذ عمر طويل. كانت طويلة بشكل لافت، وشَعْرها الأشقر ينسدل حول كتفَيْها، ملامح وجهها، الممتلئ بالنمش، جميلة، لكن عينَيْها الزرقاوَيْن كانتا حزينَتَيْن بشكل مخيف. احتضنتْني، وقالتْ لي همسًا:
– نحن جميعًا نصلّي من أجلها.
هتفتُ من أعماقي: ياااااااا رب!
طنط سيسيليا كانت قد غادرتْ، على أن تعود في المساء مرّة أخرى، وتُحضر بعض المستلزمات لها ولناتالي.
كان عمّي أحمد قد شرح لي الحالة في السّيّارة، وأخبرني أنهم استخرجوا رصاصَتَيْن من صدرها وفخذها، والحمد لله أنها لم تكن قريبة من القلب، لكنها أُصيبت بصدمة عصبية في الوقتنفسه، وتعرَّضتْ لشبهة ارتجاج في المخّ، بسبب التدافع بعد تعرّض المكان للهجوم.
لم يكن ينقصني إلا أن أسمع هذه الأخبار.. معقول؟ هذا الألمكلّه!. كيف يمكن لأيّ إنسان احتمال هذه المصائبكلّه؟ ومن أجل ماذا؟ لأن بشرًا أغبياء يعيشون بيننا، ويريدون أن يرسموا لنا الطريقة التي يرونها لحياتهم؟
شعرتُ بقلبي ينتفض، كأنه يخفق خفقات زائدة من شدّةالتّوتّر والحزن. وراودني شعور بأنني سأموت لو لم أُلقِ نظرة على حنين. لكن الأطبّاء أخبرونا بأن الزيارات ممنوعة، بسبب عدد الجرحى المنتقلين للمستشفى، وخطورة الكثير من الحالات.
لم يكن لديّ أيّ استعداد لمغادرة المكان حتّى لو قتلوني. أين سأذهب وحنين هنا بين الحياة والموت؟ بين الحياة والموت هو الوصف الحقيقي لكلّ ما عاشتْه حنين منذ مولدها تقريبًاوحتّى اليوم.
بدت المستشفى كأنها ملتقى الناس في يوم الحشر، تضجّ بوجوه باكية ومفزوعة. امرأة تحتضن شابّة، لا تستطيع التّوقّف عن النهنهة. امرأة سمراء على الأرض منهارة، ولا تقوى على الاستجابة لدعوة شابَّتَيْن شقراوَيْن لإيقافها. أطفال يدخلون على كراسي متحرّكة، بينهم صبيّ تغطّي ضمادة بيضاء كبيرة منتصفَ وجهه، بينما عينه المكشوفة متورّمة، ومحاطة بسجحات. الأصوات المسموعة ليستْ إلا بكاءً أو نحيبًا. الممرّضات المرتديات لزيّ التمريض الأخضر الفاتح، يتحرّكنَ بسرعة وبحماس، بوجوه محايدة، ترتسم الجدّيّة عليها. وبين آنٍ وآخر ينفتح الباب، وتدخل على سرائر الإسعاف المتنقّلة حالة من الحالات التي تظهر آثار الدماء عليها بشكل ما، بينما يركض الممرّضون حولها، باتّجاه غرفة العمليات أو الطوارئ.
أُغمضُ عينَيّ، فأجد ذاكرتي تُعيد استرجاع هذه الوجوه الموجوعة كلّهامرّة أخرى. الصبيّ الصغير ذو العينَيْن المتورّمَتَيْن، خصوصًا، والفتاة التي تحتضن أمّها وهي لا تتوقّف عن البكاء.
توافدت بعض الشّابّات والسّيّدات اللائي رحنَ يُسلّمنَ على ناتالي، ويسألنَها عن حنين. وفهمتُ أنهنّ زميلاتها في الجامعة. ثمّ توافد شباب أصغر عمرًا، فهمتُ أنهم من طَلَبَتها.
كان الجميع يُمسكون بباقات ورود، وارتدت الكثير من الفتيات الباكيات اللون الأسود. ولم أتمالك نفسي، فخرجتُ بسرعة بحثًا عن باب المستشفى، لأنني كنتُ أعرف أنني سأنهار مرّة أخرى.
تنشّقتُ الهواء البارد بعمق، وتأمّلتُ السماء الرمادية التي خبّأت الشمسَ، ودعوتُ الله أن يُنجّينا من هذه المحنة. كانت الساحة أمام المستشفى تضجّ بحركة غريبة. يتوافد البعض هلعين، والبعض يتحرّك في عصبية، وسيّدات كنّ يُقبلنَ على المستشفى وهنّ يبكينَ بحرقة.
رأيتُ فتاة ثلاثينية نحيفة، تقترب من المستشفى بسرعة، وقبل أن تدخل مباشرة توقّفتْ، وأدارت ظهرها للبوّابة، وأمسكتْ يَدَيْها المعروقَتَيْن ببعضهما بعضًا، ورأيتُ وجهها يتقلّص بالخوف والرجاء، وبدأتْ تبكي، وتنظر إلى السماء. بينما التقت شابّتان مراهقتان أمام المستشفى، وسرعان ما راحتا تصرخان، وتحتضن كلّ منهما الأخرى، وتبكيان بكاء مؤلمًا.
ورحتُ أبكي بلا توقّف، وأنا أستعيد ما يحدث كأنه كابوس لا يمكن لأحد أن يُصدِّق حدوثه في الحقيقة. ولا أعرف ماذا حدث، فقد مرّ شريط حياتي كلّه في لحظة، حبّي الأوّل، خالد، الذي هاجر من مصر، بعد قصّةحبّ رومانسية، بدأت من عمر المراهقة. ورفعت الذي عَدَدْتُهُ سرّ حياتي، ولم أُخبر أحدًا عن قصّتي معه. سرّي الذي مرّعليّ كحُلم جميل، أحيانًا لا أُصدِّق أنني عشتُهُ.
تذكّرتُ حياتي التي انقلبتْ من طفلة لأمّ صغيرة لأمّي التي عانت وتعاني من أنها كانت توأم ذهني لأخيها، خطبتي الساذجة لشخص متخلّف لمُجرّد الانصياع لقِيَم مجتمع، يتوهّم أن الزواج يعني البحث عن زوج مرموق وميسور الحال، بِغَضِّ النظر عن التناغم العاطفي والعقلي. لا أعرف كيف كان من الممكن أن أُخبره بسرّي، سرّي الذي أخفيتُهُ عن الجميع، لأنني أردتُ أن أكون متّسقة مع ذاتي، ومع مشاعري. سرّي الذي أعرف اليوم أن أفكار حنين وأسلوب حياتها لهما تأثير كبير في أن أتمتّع بالجرأة لاتّخاذ مثل هذا القرار.
وبغتة، وبلا سابق إنذار، مرّ في ذهني خاطر، كرهتُ نفسي لأني فكّرتُ به:
– معقول، يا ربّي، بدلًا من أن آتي إلى هنا لأزفّ لحنين خبر حياة طنط كريستين، أعود للأمّ بخبر وفاة ابنتها؟
وخز قلبي إحساسٌ بالألم، كأن يدًا حديدية وساخنة اعتصرتْهُ، وكادت تزهق روحي، ولم أكن أعرف أين يمكن لي الهروب من هذه المشاعر السوداءكلّها؟ أردتُ أن أدقّ رأسي في الجدار، لأوقف هذه الخزعبلات في رأسي، أو لأشعر بالمعنى الحقيقي للألم!
(10)
بعد مرور ثلاثة أيّام، من التّرقّب والانتظار، والتّنقّل بين الفندق والمستشفى، كنتُ أجلس في الغرفة التي نقلوا إليها حنين أخيرًا. عيناي مسلّطتان عليها وهي تتمدّد على الفراش، وأجهزة التّنفّس الصناعي حولها، و"الكانيولا" مزروعة في ذراعها، لتصل لها المحاليل بينما يدخل أنفَها أنبوبان دقيقان لمساعدتها على التّنفّس. واختبأ شَعْر رأسها خلف ضمادة كبيرة من الشاش، وُضعتْ على جانب من جبهتها.
استمرّت في غيبوبة، لم تخرجْ منها منذ وصلتْ للمستشفى. انتهى الجرّاحون من مهامّهم، أخرجوا الرصاصَتَيْن، وعالجوا النزيف، وأعادوا ما ثقبتْهُ أيادي المجرمين إلى ما كانت عليه، والآن لم يبقَ إلا أن ننتظر عودتها واعية إلينا.
اقتربتُ منها، وتأمّلتُ وجهها العذب، كان شاحبًا ومُجهَدًا، وأحسستُ بأن جفنَيْها المغلَقَيْن منتفخان قليلًا. كان حاجباها مزجَّجَيْن بشكل أنيق كالعادة. وهمستُ لنفسي: يا جميلة!
لعلّ هذه الغيبوبة هي التي تُتيح لها للمرّة الأولى الغياب عن الشعور بالألم الذي لم تعرف غيره في حياتها.
مسحتُ على شَعْرها، وانحنيتُ على أذنها، لأناديَ عليها، وأُحدِّثَها، وأعتذرَ لها على أنني لم أُخبرْها عن الزيارة مبكّرًا، وأطلب منها الاستيقاظ، لكي تسمعَمنّي الخبر الذي حملتُهُ لها معي عن حياة طنط كريستين.
قلتُ لها: لا يهمّني إذا رغبتِ في رؤيتها أو لا. هذا قراركِ في النهاية. ما يهمّني أن تعرفي فقط أنها تعيش. أنها موجودة ولم تمتْ. لا يهمّني حتّى إذا رفضتِ العودة معي إلى مصر. فلا أحد يمكن أن يجبرَكِ على شيء. ربّما يكون وجودكِ سببًا في استعادة طنط كريستين لذاكرتها، وقد لا يكون. فكلّ ما أهتمّ به حقًّا الآن هو رؤية ملامح وجهكِ وأنتِ تتلقّين الخبر.
طُرِقَ الباب، وبعد أن انفتح في هدوء وحذر، ورأيتُ طنط سيسيليا وعمّي أحمد. ابتسما لي، ودخلا صامتَيْن. تأمّلاها في محبّة وألم. اقتربا منها قليلًا، وربّتَكلّ منهما على ذراعها، وأخذت سيسيليا تتأمّل وجهها قليلًا، واقتربتْ منها مقرّبة وجهها منها حتّى تبيّن لي أنها تدسّ أنفها في شَعْرها، وتتنشّق رائحتها كأنها طفلة، وحين اقتربتْ منّي، لاحظتُ أنها تأثّرتْ، وأوشكتْ على البكاء.
أشار لي عمّي أحمد أن أخرجَ معه. وفهمتُ أنه ربّما يريد أن يخلي الغرفة من أجل سيسيليا، لكي تبكي، أو تُعبِّر عن مشاعرها براحتها.
سألني إذا ما كنتُ أرغب في تناوُل الطعام، فأخبرتُهُ أنني لستُ جائعة، لكنه أصرّ. اقترح مطعمًا متاخمًا للمستشفى. وبمُجرّد خروجنا للهواء البارد، تذكّرتُ الأجواء التي تعمّ فرنسا. التّرقّب والحذر. الخوف والغضب. أيقونات العَلَم الفرنسي التي رسمها أغلب الفرنسيّيْن على وجوههم. باقات الورود التي تتراكم في الأماكن القريبةكلّهاحتّى من موقع الأحداث.
لاحظتُ أن المطعم لا يبتعد أكثر من دقائق عن المستشفى. اخترْنا منضدة، وطلبْنا طعامًا خفيفًا. كان يريد أن يطمئنّ على أخبار العائلة، وخصوصًا ماما، وجدّي وجدّتي.
– أخبار عمّي حسين وطنط سلوى إيه؟
ابتسمتُ، ولم أردّ بسرعة لانتباهي لأنني لم أسمع اسم جدّي وجدّتي كثيرًا بصراحة، ولأنني أدركتُلأوّلمرّة تشابه اسم جدّي مع والد عمّي أحمد، ثمّ ابتسمتُ قائلة:
– جدّو وتيتة؟ آه، الحمد لله، كويسين. بَسْ اضطرّوا يسيبوا بيت العِيلة بعد وفاة خالو الله يرحمه.
قال لي إنه كان صديق طفولة لعائلة بابا، وكان يزور بيت العائلة كثيرًا في زمن الطفولة قبل أن يهاجر مع أهله لبريطانيا مبكّرًا قبل الانتقال إلى فرنسا. وأخبرني ضاحكًا أن الكثيرين كانوا يظنّون أنه وخالي رامي شقيقَيْن لتشابه اسمَي والدَيْهما. قال لي إن اختيار حنين لاسم "حنين حسين" كاسم ولقب في أوراقها الرسمية كان يجعل البعض في فرنسا يظنّون أن أحمد حسين هو والدها.
حكيتُ له ما حدث لأمّي ولهما منذ موت خالي رامي. وتردّدتُ في أن أخبره عن موضوع طنط كريستين.
عدتُ لأحكي له عن دراستي لطبّ الأسنان وعملي كطبيبة. وعلّق قائلًا إنه يعدّها مهنة رائعة، لأنها تُوفِّر للإنسان عملًا يدويًا، رغم أنها تندرج في الطّبّ.
قلتُ له إنني كنتُأفكّر في الجراحة للسبب نفسه، لكني تردّدتُحتّى لا أنشغل كثيرًا عن أمّي بسبب ظروفها.
وتذكّرتُ "رفعت" الذي نبّهني لضرورة اجتناب زيادة حمض الفوليك في دمي حتّى لا تصاب مفاصل يدي بالتيبّس. وتمنعني عن أداء عملي بإتقان.

سألني عمّي أحمد إذا كنتُ أُفضِّل تناوُل نبيذ مع الطعام، فقلتُ له إنني لا أشرب. وأضفتُ بابتسامة:
– تربية المنصورة، يا عمّو.

لم يُعلِّق على الأمر كأنه أمر شخصي لا يعنيه. وكان يصمت كأنه يستدعي أماكن أو ذكريات،ثمّ يسألني عن تفاصيل وشوارع وأماكن، لم أسمع عنها من قبل. وأسماء لناس، أغلبهم لم أكن أعرفهم، وابتسم قائلًا إن المنصورة التي يعرفها تقريبًا لم يعد لها وجود إلا في خياله. المدينة التي تحمل أجمل اسم: "جزيرة الورد" المُطلّة على النيل، وعروسه، الهادئة جدًّا والرومانسية جدًّا. ابتسمتُ وقلتُ له إنني لا أفضّل أن أصف وضع المنصورة الحالي بعد الزحام الشديد، وفوضى الأبراج الشاهقة، والفوضى والعشوائية التي طالت حتّى الأحياء الراقية القديمة، حتّى لا أُغيِّر له الصورة الجميلة في خياله.
قال لي إن حنين بعد زيارتها الأولى للمنصورة، تكلّمت عنها بحُبّ شديد. وإنها أحبّتْها.
قلتُ له إنها رغم كلّ شيء مدينة لها غواية. ويقع الناس في غرامها بسهولة. لكنها تغيَّرت للأسف. تشوّهتْ مثل أشياء كثيرة في بلدنا الجميلة.
أحسستُ بأنه يحاول أن يُخفِّف عنّيالتّوتّر الذي أعيشه منذ عرفتُ بالخبر التعس. لكني سألتُهُ عن الوضع في فرنسا بعد الحادث. قال لي إن العالم كلّه يتغيَّر، وليس المنصورة فقط. حتّى فرنسا تتغيَّر، والآن تتشوَّه بوجود هؤلاء الإرهابيّيْن الذين احتضنتْهم فرنسا.
استطرد قائلًا:
* هذا ليس الحدث الأوّل في فرنسا، لكنه الأكبر والأكثر تحدّيًا حتّى للسلطة الفرنسية، لأن التهديد وصل للرئيس نفسه، وعدد الضحايا كبير جدًّا بالنسبة لأيّ عملية إرهابية في العالم حتّى، وليس فقط في فرنسا.

ثمّ أضاف أن فرنسا كلّها تشعر بالغضب الشديد والخوف أيضًا. البعض يردّد أن فرنسا لم تعد بلدًا آمنًا، وهذا بقَدْر ما هو مخيف، بقَدْر ما يُعبِّر عن إحباط الفرنسيّيْن من حجم الضربة التي وُجِّهَتْ لهم، خصوصًا وأغلب الضحايا مُجرّد بشر، لا علاقة لهم بأيّ شيء. والمشكلة أن بينهم أيضًا سيّاح أجانب من أوربا.
أخبرني أنه لم يرَ ابنته ناتالي في حالة غضب مثل التي تمرّ بها هذه الأيّام، وأيضًا لم يرها مكتئبة إلى هذا الحدّ.
قلتُ له إن حنين حَكَتْ لي عن مدى ارتباطهما الشديد، وحتّى انتقالهما من البيت معًا في الثامنة عشر وحياتهما معًا لفترة قبل أن تستقلّكلّ منهما تمامًا. وهزّ رأسه قائلًا وهو يضحك إن زوجته رفضتْ فكرته عن إنجاب طفل آخر، بسبب العلاقة القوية التي جمعتْ بين ناتالي وحنين منذ طفولتهما. وبملامح وجه حنونة جدًّا قال لي:
* ما اعتقدش إن كان ممكن يكون عندي بنت في جمال حنين.
صمتْنا قليلًا، وسألتُهُ فجأة:
– تفتكر حنين هترجع لنا تاني؟
عبرت وجهَهُ ملامحُ تقلُّص طفيف، وسرعان ما سيطر عليها، وقال مبتسمًا:
– خلّي أملك في ربّنا كبير زيّي، يا نسرين.
– ونعم بالله، يا عمّي.
(11)
أخذ موضوع انفجارات باريس بُعْدًا عالميًّا، ولم تكن هناك وسيلة لإخفاء الأخبار عن أهلي في المنصورة. أمّي بدأتْ تتّصل بي كلّ ربع ساعة حتّى بدأتُ أشعر بالانهيار،كلّما لمحتُ اسمها أو اسم بابا على شاشة الهاتف.
أكّدتُ لها أن حنين بخير، وأن ما تمرّ به مسألة وقت، بينما أنا في حاجة لمَنْ يردّد لي هذا الكلام، ويُربّت على قلبي الموجوع بألم لم أعرفه من قبل.
أصرّتْ سيسيليا أن آخذ إجازة من جلوسي المستمرّ في المستشفى، لأرتاح قليلًا. قالتْ لي إن متابعتي لحالة حنين تقتضي أن أنام في الفندق أطول وقت ممكن، خصوصًا بعد أن رفضتُ محاولاتهمكلّها للانتقال لديهم في الشّقّة أو عند ناتالي. لم أرغبْ في مضايقتهم، وقلتُ لهم إنني حتّى لم أرغب في مضايقة حنين بالمبيت معها.
مرّتْناتالي عليّ في الفندق، لكي تصحبَني في جولة في باريس. قلتُ لها عن أسماء أغلب الأماكن التي أحببتُ زيارتها: "الشانزلزيه"، "برج إيفل"، وتناولْنا الطعام في "ساحة الباستيل"، كما أنها، رغم البرد الشديد، وفّرتْ لي جولة نهرية في النهر الخيالي، لكي أشاهد باريس من النهر.
أخبرتْني ناتالي أن حنين مرّتْ بفترة سيّئة، بسبب انتحار صديقة مقرّبة منها منذ عدّة أسابيع.
قالتْ لي إنها كانت صديقة طفولة، تعرّفتْ عليها في المدرسة الداخلية. اسمها سيلفي. قالتْ إن ظروف الحياة شغلتْكلًّا منهما عن الأخرى منذ فترة طويلة، ولكنهما ظلّتا على تواصل. حتّى عرفتْ حنين بخبر الانتحار قبل أسابيع. شعرتُ بالحزن الشديد لهذا الخبر، وكنتُ أتخيّل مدى الألم الذي عانتْهُ حنين.
حاولتُ التّذكّر إذا ما كان بيننا اتّصال في تلك الفترة، ولكني لم أذكر. ظروفي بعد التّخرّج أيضًا أصبحت صعبة.

قالتْناتالي:
* حنين كانت متحمّسة للعودة إلى مصر أيّام الثورة، لكنها بعد فترة قليلة، شعرتْبأن الأمر ليس كما كانت تظنّ، وقالتْ لي إن الإخوان سيسيطرون على كلّ شيء. لن يتركوا السلطة أبدًا. وأوضحتْ لي أنها لم تعد مرتاحة للأمر. واختلفتْ معي في تحيّزي لوجودهم في السلطة طالما جاؤوا بالديمقراطية. قلتُ لها إنها لا يمكن أن تأمن للديكتاتورية، ولكنها كانت تتّهمني بأنني لا أفهم شيئًا، والأمر ليس كما أظنّ. ولم تتراجع عن موقفها، بل انخرطتْ هنا في جماعات مَدَنية ضدّ الإرهاب والعنصرية. والآن أظنّ أن معها حقّ. الأمر ليس كما يبدو. لا أعرف.

كنتُ أستمع لها وأنا أستعيد السنوات الخمس أو الأربع التي مرّتْ علينا في مصر، وشاهدْنا خلالها ما لم يكن يخطر على بالنا أبدًا. ثورة عارمة، شعب يخرج في إصرار لا رادع له للإطاحة بديكتاتور عجوز، كلّس البلد، وقزّمها، وأفسدها، ثمّ عشنا لحظة تاريخية، رأينا فيها ديكتاتورًا يتخلّى عن السلطة، ثمّ جيشًا يساند الثورة، وشهدنا وعرفنا حالة من الرعب والخوف، بسبب القتل وأعمال الشغب، والعنف، والرعب، عرفنا أيضًا معنى الانهيار الاقتصادي، وأحسسْنا أخيرًا بتماسك نسبي بعد إحساس الشعب بضرورة طَرْد الإخوان من المشهد.
حكيتُ لناتالي خبراتيكلّها خلال الثورة، الحماس والأمل، الخوف والرعب، الفزع والمفاجأة، الفرح، ثمّ الإحساس بالفشل والعجز.
ابتسمتُ وقلتُ لها إن الذي عاش هذه الفترة يشعر بأنه مرّ بخبرات عقود، وليس عدّة سنوات. فابتسمتْ، وقالتْ لي إن الثورات كلّهامُجرّد هزّات لمراحل تاريخية، قد تكون بعيدة عن غاياتها. وأردفتْ: الأمر يحتاج للصبر، وإلى زمن طويل.
بالرغم من الحالة العامّة التي كانت تُذكّرنا بالأحداث، لكني شعرتُ بأنني أصبحتُ أهدأ كثيرًا، وأكثر قدرة على التماسك.
تبادلْنا الحديث عن حنين، واستدعتْكلّمنّا مواقفَ كثيرة، جمعتْنا بها، بابتسامات كانت تنتهي بارتعاش شَفَتَي ناتالي في كثير من الأحيان، كأنها تقاوم البكاء بالابتسام. حين نهضْنا من المقهى، اقتربتْمنّيناتالي، واحتضنتْني. شعرتُ بأنها أختٌ ثالثة لي بعد حنين.
أمام النهر، تذكّرتُ وجه حنين بابتسامتها الجميلة، ودعوتُ الله من قلبي أن تعود لها هذه الابتسامة الجميلة مرّة أخرى. وكنتُ أشعر بأن الله قريبٌجدًّا، وأن شفاءها قريب أيضًا. لا أدري لماذا استدعيتُ نهر المنصورة الذي تسبّب في تسميتها عروس النيل. أحسستُ كم أصبح مُهمَلًا ممتلئًا بورد النيل الذي يطفو على سطح النهر، حيث تتجنّبه القوارب التي يؤجّرها بعض الشباب للتّنزّه.
المنصورة كلّها أصبحت مثل ورد النيل، الطافي بعشوائية على سطح النهر، زحام في غير محلّه وإهمال، ولا نظام، وغياب تامّ للطبقة الوسطى. الآن حين أستمع لما يقوله لي جدّي حسين أو "تيتة سلوى" عمّا شهداه في صغرهما، أقول لا بدّ أنهما مصابان بالزهايمر، ويتحدّثان عن مكان آخر، لا أعرفه، ولم أعشْ فيه.
كان ما يحكيان عنه يقول إنها كانت مدينة جميلة جدًّا وأنيقة. واليوم يُفترَض أنها أصبحت مدينة حديثة بها أكبر مراكز طبّيّة في المنطقة، لكنها تفيض بالعشوائية والحجاب الذي يؤكّد لي جدّي أنه لم يكن معروفًا في المنصورة حتّى سبعينيات القرن الماضي.
نفضتُ الذكريات العجيبة من ذهني، وأنا أُمتّع نظري من نهر السين والمدينة الجميلة الممتدّة على ضَفَّتَيْه.
****
عدتُ للمستشفى، وأخبرتُهم بأنني سأبيتُ معها في هذه الليلة.
أمسكتُ بكتاب "الجريمة والعقاب"، وقرأتُ فيه لفترة، وبين آنٍ وآخر، كنتُ أطلُّ عليها. قرّبتُ الكرسيّ منها، وأمسكتُ بيدها. كان تنفُّسها منتظَمًا وهادئًا. يدها دافئة.
قرّرتُ أن أحكيَ لها عن نفسي. ما حكيتُهُ لهاكلّه من قبل، وما لم تعرفه. أعرف أن مَنْ يذهبون في غيبوبة يحتاجون للكلام. نعم، يحتاجون للكثير من الكلام الذي يمكن أن يُعيدَهم للحياة.
في هذه اللحظات، كنتُ أشعر بأن حنين من أقرب الناس لقلبي. لم يكن لي من طرف أمّي أيّ أقارب آخرين سواها. أمّا من جهة أبي، فأغلب أولاد عمّي أكبر منّي في العمر بكثير، ولم تكن علاقتي بهم وثيقة. ولهذا فمنذ عرفتُ بوجودها وحتّى رأيتُها لأوّلمرّةعَدَدْتُها أختي التي حالت الظروف بين وجودنا معًا. وبمُجرّد أن التقيْنا تأكّد شعوري تجاهها.
(12)
حكيتُ لحنين أشياء كثيرة عن حياتي في المنصورة، طفلة تعيش أغلب الوقت مع جدّتها، لأن الأمّ مريضة بالشرود، أو مشغولة بعملها المستمرّ في "مركز الكلى". وكنتُ أتساءل دائمًا كيف مرّتْأيّامها بلا مشاكل مع وجود "الدكتور غنيم" الذي كان معروفًا بشراسته لو ضبط شخصًا مُتلبِّسًا بالخطأ، أيًّا كان مرتكبه: طبيبًا أو ممرّضًا أو عاملًا في المستشفى.
كيف لم يكتشف الدكتور غنيم شرود ماما؟ وأدركتُ أنها ربّما كانت تهرب من مسؤوليّاتها في البيت بحالة الشرود. وأنها كانت تحتفظ بتركيزها فقط في المستشفى.
تخيّلتُ ردّ فعلها لو أخبرتُها بهذا الهاجس، فابتسمتُ، وقلتُ لنفسي لربّما كانت ستُقرّر أن أعيش بقيّة حياتي عند جدّتي.
تخيّلي، يا حنين،أني لم أعانِ من أمٍّ متسلّطة، تمنعني من الذهاب إلى أيّ مكان. ولكني كنتُ أشعر بتأنيب الضمير المستمرّ لو حدث وخرجتُ مع صديقاتي، خوفًا من أن يكون ذلك تقصيرًا في حقّها.
منذ بدأ وعيي وأبي يطلب منّيدائمًا رعايتها: "خلّي بالك من ماما، يا نسرين". أعتقد أني نشأتُ بمشاعر أمومية أكبر من سنّي لهذا السبب. كان عليّ الانتباه للطعام الموضوع على النار. وأن أتأكّد أنها ليستْ نائمة في فراشها، وأن أترقّب خروجها من الحمّام سالمة. أخبرني بابا أنها لو شردتْ وهي تستحمّ "هتفضل واقفة تحت المَايّه لحَدّ ما تبوش". وكان هذا المشهد المُتخيَّل يُثير فزعي، وأقف خلف باب الحمّام، لأنادي عليها كلّ دقيقَتَيْن تقريبًاحتّى تصرخ عليّ من الداخل، لتطلب منّي السكوت.
أعتقد أن طلبها بالجلوس مع جدّتي لرعايتها كما كانت تقول لي، بسبب شفقتها عليّ من هذا الإحساس بالرعب المستمرّ من وجودي معها. وخوفي من شرودها المستمرّ.
لذلك ترتبط طفولتي ببيت "جدو" و"تيتة" أكثر كثيرًا من ذكرياتي في بيت "المختلط".
كانت تيته كالعادة تقضي أغلب وقتها في المطبخ. تبدأ يومها بفَتْح الباب لبائعة اللبن، تخرج إليها بالكسرولة. تأخذ اللبن، وتذهب به للمطبخ لتغليه، وتعدّ لجدّو القهوة والإفطار.
يخرج جدّو للشرفة ومعه جريدة "الأهرام". يقرؤها بعناية. ويُعلِّق بصوت عالٍ على الأخبار التي تسترعي انتباهه. يُدخّن ويتناول القهوة، ثمّ يخرج ليمرّ على بعض أصدقائه في محلات يعملون بها أو في المقهى.
كنتُ أمضي الوقت شاردة أُحدّق في صورة طنط كريستين المعلّقة على أحد جدران الصالون. وأحاول تخيُّل شكلها وهي أصغر من عمرها في الصورة. ربّما كانت في الخامسة والعشرين في ذلك الوقت. جمالها آسر. عيناها خضراوان وشَعْرها كستنائيّ ناعم وجميل.
وأنزل بعينَيّ، لأتأمّل الصالون القديم الذي لا يقلّ عمره الآن عن أربعين عامًا. الكراسيّ المذهّبة والأريكة ذات الأقدام الملتوية الذهبية والنسيج العتيق الممتلئ بنقوش وردية رومانسية. أتخيّل كيف التقى خالي رامي طنط كريستين هنا، ربّما كانت تجلس في مكانينفسه.
ولا يقطع شرودي إلا إذا نادتْني تيتة، لكي أساعدها في غرض ما.
****
ومرّ الوقت، ساعة بعد أخرى. لكنها لم تفتح عينَيْها كما كنتُ آمل. كانت الممرّضات تقطعنَ الصمت، بين آنٍ وآخر، للدخول، لكي تتفقّدنَ مدى امتلاء القسطرة، أو لتغيير أوعية المحاليل التي تتسلّل إلى دمها من الأوعية المتدلّية أعلى رأسها.
وكنتُ، بعد خروج الممرّضات، أعود فورًا، لكي أتحدّث معها، وأقرأ لها فصلًا من "الجريمة والعقاب"، وحين أشعر بأنها ربّما تكون قد ملَّتْ من الرواية، أحاول أن أتذكّر حدثًا لم تعرفه، فأرويه لها.
استعادتْ ذاكرتي الفترة التي جاءتْ فيها لمصر. زيارتها لنا في المنصورة. مقارنتها لبيت العائلة في توريل مع بيتنا في المختلط. ورغبتها في زيارة بيت "تيته دُرّيّة" في السِّكَّة القديمة. يبدو أن خالي رامي كان حدّثها عنه. قالتْ لي إنه أشبه بأسطورة.
تخيّلي، يا حنين، أن "تيتة دُرّيّة" تعيش في هذا البيت بمفردها تمامًا الآن. ولا أعرف كيف. بيت شاسع وأسقفه عالية. في طفولتي، كنتُ أرى البيت شاسعًا بشكل يفوق أيّ بيت آخر، وكانت شقّتنا في المختلط تبدو لي مقارنة بهذا البيت مُجرّد "غرفَتَيْن وصالة". كنتُ أدرك كم هي ضيّقة وخانقة بمُجرّدزيارتي لبيت تيتة "دُرّيّة".
في زياراتي لهذا البيت مع أمّي وأنا طفلة، كان ابنا خالة ماما يذهبان معي للشرفة، لأرى "غيّة" الحمام التي كانا يربّيانها فيها. أقفاص لها أبواب تنزلق، لتكون بمثابة أبواب بيوت الحمام، بالألوان كلّها.
المطبخ كان شاسعًا، حتّى مقارنة ببيت العيلة، ورائحته تتكوّن من خليط غريب، يبدو نفّاذًا، يتسلّل غالبًا من "النملية" الخشبية، التي يحيط إطار بابَيْها الخشبيَّيْن بسِلْك، يتيح لكَ رؤية ما بداخلها حتّى وهي مغلقة. وتتراصّ فيها برطمانات السمن البلدي الضخمة، والعلب الألمنيوم الصغيرة التي تفيض بالبُهارات، وعلب البُنّ والسُّكَّر، وزجاجات الزيت، بينما يتسلّل من داخلها عبق هذا الخليط.
أخبرتْني أمّي أن أغلب عائلات جيل جدّتي كانوا يربّون الدواجن فوق أسطح البيوت.
وكانت زلعة "المِشّ" الفخارية أساسية أيضًا. تظلّ خميرة المِشّ متوفّرة في الزلعة الفخارية، وعلى جدّتي فقط أن تقوم بتزويدها بين آن وآخر، بالحليب، وبقطع الجُبن القريش التي تتحوّل مع الزمن للجبنة القديمة التي لا مثيل لها، ولا حتّى عندكم هنا في فرنسا، يا حنين.
أغلب البيوت كانت توفّر جانبًا كبيرًا من الطعام البيتي.
جدّتي سلوى لا تَكِلّ ولا تتوقّف عن خَبز البسكوت والقُرَص والكحك وال"بيتي فور" في البيت. تطلب من جدّتيدُرّيّة، شقيقتها، أن تحضر إليها، لتعجنا العجين معًا، فلم تكن تثق بأحد غيرها، لأن جدّي حسين أيضًا تصيبه حالة قَرَف، لو قام أحد غير جدّتي بوضع يده في الطعام الذي سيتناوله. ولأجلي كانت تصنع "المحوّجة" أو "اللُّقمة الخضراء"، وهذه هي أجمل المخبوزات التي كنتُ أُفضِّل تناوُلها من يد جدّتي، لم تُسعفها حالتها الصّحّيّة، لكي تعدّها لكِ في زيارتكِ السابقة لمصر. ولكنكِ، بإذن الله، سوف تتناولينها معي في المنصورة قريبًا، إن شاء الله.
وطبعًا بمُجرّد أن أصل إلى البيت لأقضي معها عدّةأيّام، تُسرع لعمل الحلويات التي أحبّها: الكريم كرامل، الجيلي والمهلبية التي لا مثيل لها في أيّ مكان في العالم.
هل تذكرين حين أخبرتُكِمرّة في المنصورة عن مدى جمال مذاق مهلبية تيتة، ولم أجدْ لها وصفًا مناسبًا، فقلت لي:
* أوكي، فهمت.. طعمها كده بيخلليكي تحسّي بأورجازم!
وإلى اليوم أنفجر ضاحكة كلّما تذكّرتُ تعليقكِ، كأنني أسمعه منكِلأوّلمرّة.

كنتُ أضحك، أو بصراحة أُشفق على بابا الذي عاش نصف حياته وهو مضطرّ لتناول إمّا وجبات جاهزة من المطاعم، أو يعدّ بيضًا لنفسه، لأن ماما إمّا مريضة وإمّا مشغولة.
كنتُ أحسد أمّي على طبخ جدّتي، وكانت هي تتأمّلأمّي بحسرة وبابتسامة سخرية، قائلة:
* أُمّك دي أسوأ دعاية لأكلي، يا حبيبتي. طول عمرها نفسها مسدودة.

كان بيت العائلة ملاذي من أكل ماما السّيّئ، ومن الوحدة طبعًا، لأن أغلب وقت بابا وماما ضائع في المستشفيات، لكن الأهمّ أن زيارتي اليومية لبيت العيلة، فرصة لكي أتنعّم بمفاجآت جدّتي التي لا تنتهي، بالإضافة للوجبات الدسمة يوميًا، التي كانت تعدّها خصّيصًا لأجلي، ففي الثلاجة، سأجد أكواب "الكريم كراميل"، أو المهلبية، أو الجيللي.
كنتُ أغتنم الفرصة في زياراتي، لأنام في غرفة خالي رامي. أتأمّل في كُتُبه الباقية في الغرفة، وأتصفّح بعضها، وأقرأ البعض الآخر.
أمّا مفاجأة المفاجآت بالنسبة لي، فتتحقّق عندما أدخل عند تيتة، فأجد أطباق "البِصَارة" الخضراء المرشوش على سطحها رشّة "تقلّية بصل" خفيفة. وأقسم لكِ، يا حنين،أن مذاقها ليس له مثيل في أيّ مكان في العالم. ولا أعرف كيف لم ترثْأمّي مهارة تيتة في الطبيخ؟ يبدو أني أعشق الأكلات الخضراء كلّها: المحوّجة والبِصارة والملوخية.
وفي أيّام بعينها، أعرف أن موسم صناعة المربّى قد بدأ، حين يتسلّل لأنفي من أسفل العمارة عبق القَرَنْفُل الممتزج بروائح أخرى طيّبة ناتجة عن غليان البلح في العسل والقَرَنْفُل.
اليوم حتّى بعد انتقال جدّي وجدتي لشقّة جديدة كثيرًا ما أمرّ على البيت. أفكّر أن فكرة اغتراب الشخص عن مكانٍ ما، يرتبط بوجود شقّة الأب فيه، ولكني لم أشعر أن شقّة المختلط هي "البيت"، بقَدْر ما كنتُ أشعر بهذا الشعور في "توريل".
ربّما لأن الفترة الأولى بعد مولدي ظلّت أمّي تعيش مع جدّي وجدتي. وارتبطتْ طفولتي المبكرّة بالبيت في توريل، وبالمكان. ولفترة طويلة بعد انتقالنا لشقّة "المختلط" كنتُ أشعر بالغربة. ولهذا أيضًا أصرّتْ ماما أن تُنظّف لكِ بيت العائلة، لتقيمي فيه عند زيارتكِ للمنصورة لأوّلمرّة. فشقّتنا في المختلط صغيرة، أشفقتْ عليكِ من الإقامة مع جدّو وتيتة في الفترة الأولى لوجودكِ في مصر.
هل تسمعينني، يا حنين؟ أتمنّىفعلًا أن يصل صوتي لوعيكِ.
(13)
قبل أن أشعر بأنني مُنهكَة تمامًا، وقد أغفو في أيّ لحظة، رتّبتُ الأريكة التي سأنام عليها. وشعرتُ فجأة بأنني مَدينة لحنين بأن تعرف كلّ شيء عن أمّها. بالعكس، فلعلّها لا تحتاج الآن إلى أيّ شيء آخر أكثر من هذا، أن تعرفَ أن هناك ما يربطها بالعالم.
كانت دائمًا تبحث عن سبب يربطها بمصر، ويبدو أن فشل الثورة كان آخر تلك الأمور.
أعتقد أن ظهور طنط كريستين في حياتها، حتّى لو عرفتْ أنها ترهبنتْ بسبب تعرّضها لحادث وفقدانها للذاكرة، سوف يكون خبرًا مصيريًا.
مع ذلك، فضّلتُ أن أبدأ حديثي إليها بالسّرّ الذي عشتُ به وحدي، من دون أن أخبر أحدًا. ولم أجرؤ حتّى أن أُخبرها هي به أبدًا. حكيتُ لها عن رفعت. الرجل الذي أحسستُ معه بمعنى كلمة الرجولة. التقيتُ به بعد دخولي الجامعة. التحقتُ بدورة تدريبية لطَلَبَة طبّ الأسنان، وكان هو الطبيب الذي يقوم بالتدريب. بدا لي وسيمًا، وملامح وجهه متناسقة، وتسلّل صوته لأذني كأجمل صوت ذُكُوري، سمعتُهُ في حياتي. وتجرّأتُ لأطلبَ منه بعد انتهاء ساعات الدورة التدريبية الاستشارة في بعض التفاصيل، لأنني أرغب في التّخصّص في زراعة الأسنان. ورحّب فورًا بلقائي.
أحببتُهُ، يا حنين، بسرعة جدًّا، وبعد لقائي به، شعرتُ أن الشوكة المغروزة في قلبي منذ رحيل خالد وهجرته إلى كندا أصبحت بلا وجود. كأن رؤية رفعت أزالت هذا الإحساس المزعج في قلبي للأبد.
كان متزوّجًا. لم يُخبرني شيئًا عن زوجته، لكنه حكى لي كثيرًا عن ابنه وابنته، الاثنَيْن يدرسان في أمريكا، لكنه مهتمّجدًّا بتعليمهما، ومتابع لتفاصيل كثيرة في حياتهما. شعرتُ أنه يُعوِّضني شيئًا كان ناقصًا في حياتي باستمرار. ورغم أن عمره تقريبًا ضعف عمري، لكني شعرتُ بأنني أُحبّه، وأنني مستعدّة أن أعيش معه لآخر عمري.
لم أستطع أن أحكي لأحد عنه شيئًا، ولا حتّى لصديقة عمري هناء. لم يكن بإمكاني تلقّي النصائح المتوقّعة في الموضوع. كان حبّي له أكبر من الموانع المتوقّعةكلّها في هذه الحالة. كيف تقعين في حبّ شخص في عمر أبيكِ؟ كيف تحبّين شخصًا متزوّجًا؟ إلخ، آخر الأسئلة التي تعرفينها، يا حنين. أغمضتُ عينَيّ، وتعاميتُ عن كلّ شيء. كان كلامه كلّه بالنسبة لي مختلفًا. كان بعيدًا عن نماذج الشباب الذين عرفتُهم، أو زاملتُهم.
بمُجرّد أن يبدأ في الكلام، كنتُ أنسى نفسي. أتابع شَفَتَيْه وأسنانه وهو يتكلّم، وأتأمّل عينَيْه ذاتا الرموش الكحيلة، وأبتسم بسعادة لما يقول أيًّا كان: أخبرني مثلًا عن دراسته أيضًا بأمريكا في صغره، وخبراته الكثيرة التي تكوّنتْ بسبب السفر. وحياته لفترات طويلة خارج مصر، قبل أن يعود ويستقرّ في مصر، ويفتتح عيادة لزراعة الأسنان.
كان بسيطًا جدًّا، وصادقًا جدًّا في كلّ ما يقول. وحتّى حين شعر بأني وقعتُ في غرامه قال لي إنه يشعر بمشاعري، وإنه يستلطفني، ولكنه لا يريد أن أقع في مشاكل، بسبب فارق العمر بيننا. لكني أكّدتُ له مشاعري. سألني إذا كنتُ مستعدّة أن أنام معه في هذه الحالة بلا زواج. فأكّدتُ له بيقين. وقد كان، يا حنين.
لا أعدّ نفسي متديّنة أو متزمّتة، لكني كنتُ متمسّكة كثيرًا بفكرة العذورة طبعًا، وغشاء البكارة، وهذه الأشياء. كان حجابي لا يُعبِّر عن التّديّن، بقَدْر ما يُعبِّر عن شخصيّتي المحافظة، لكن رفعت تمكّن من فَضّ هذه الأوهامكلّها. في الحقيقة هو نفسه كان يرى أنني صغيرة،وربّما جسدي ليس مستعدًّا للتجربة، لكنْ، في أعماقي كان هناك إحساس غامض يقول لي إنني أحبُّ أن يراني هذا الرجل عارية. أحبُّ أن أرى جمال جسدي في عينَيْه الكحيلَتَيْن، وأحبُّ أن أسمع منه ما سيقوله بصوته حين يلمس جسدي.
ربّما لن يمكنني الآن أن أخبركِ عن تفاصيل الهُيام، وليالي الحبّ المسروقة، والأحلام التي عشتُ بها طويلًا، فهذا سنتحدّث فيه بالتفصيل المُملّ. لكني أحببتُ فقط أن أحكي لكِكلّ شيء عن نفسي، كما تفعلين أنتِ معي. الآن أنا لا أُخبِّئ شيئًا عنكِ. هذه قصّةالحبّ التي انتهتْ لأسباب لها علاقة بمرضه واختفائه من حياتي. وربّما كان لها أثر كبير في خطبتي التقليدية لأحمد، وهي العلاقة التي لم أندم على شيء كما ندمتُ على أني مررتُ بها. رفعت وأحمد أثبتا لي أن الخبرات تجعل الفروق والاختلافات بينهما كأنهما عاشا في زَمَنَيْن مختلفَيْن تمامًا. ولولا رفعت ربّما لما انتهت قصّة أحمد بهذه البساطة.
*****
جلستُ بجوارها، قلتُ لها آن الأوان الآن لحكاية أخرى، حكاية تخصّكِ أنتِ، يا حنين ربّما أكثر من أيّ شخص آخر في العالم. نظرتُ في جفنَيْها المغلَقَيْن، ولاحظتُ أنهما مفتوحان قليلًا، ولم أكن متأكّدة إذا ما كان هذا مُجرّد خداع من بصري أم حقيقة، فقد كان تنفُّسها هادئًا ومنتظمًا.
أخبرتُها كلّ ما قالتْه ماريان. لم أقتربْ منها لأهمس، بل رفعتُ صوتي، وتحدّثتُ معها كأنها تُنصِتُ لي. قلتُ كلّ شيء. وأخبرتُها قبل أن أنتهي من الحكاية أنني جئتُ لكي تذهب معي إليها.
لمحتُ طيف ابتسامة على وجهها أخيرًا، عكستْهُ الإضاءة الشاحبة أعلى السرير. كنتُ متأكّدة أنها تسمعني.
ذهب النوم والنعاس عن عينَيّ، كأنني ارتويتُ من وعاء قهوة كبير. امتلأتْ روحي بالأمل، وعدّلتُ وضع الكرسيّ بجوارها، وجلستُ صامتة ومبتسمة ومترقّبة في انتظار حنين.
في انتظار أن تفتح عينَيْها..
في انتظار أن تعود لنا من غيبوبتها، وأن تبتسم لي ابتسامتها الجميلة.. في أيّ لحظة.
وهكذا جلستُ بجوارها مُعلَّقة بالأمل، وأنا أهمس لنفسي وأردّد كَمَنْ أُصيب بوسواس قَهْري، يلحّ على ذهنه:
– لن أعود إلى "جزيرة الورد" من دونكِ، يا حنين. "جزيرة الورد": الاسم الذي تُفضّلينه لمدينتنا الجميلة، صدِّقيني. لن أعود إليها بدونكِ. مستحيل.
وجلستُ أرقب أن تنفتح عيناها في أيّ لحظة. وأن أرى ابتسامتها الجميلة الآسرة. ولمعة عينَيْها البراقة، حتّى يزول هذا الشبح المخيف من حياتي للأبد.
جلستُ في مواجهتها كأنني أتهيّأ لاستقبالها حين تنهض في أيّ لحظة.
ناديتُها بصوت عالٍ. ناديتُمرّة أخرى. انتظرتُ، ولكنها لم تردّعليّ. لم تنبس بكلمة، ولم تفتح عينَيْها.
قلتُ لنفسي: لا بأس، سوف ينتهي وقت النوم بعد قليل. لستُ متعجّلة.
كنتُ أرقب عينَيْها بفضول قاتل وبصبر، ولمحتُ ابتسامة أو طيفها يمرّ على وجهها. شعرتُ أنها فتحتْ عينَيْها، وأنها تبتسم.

لم يدمْ وقت طويل حتّى تبيّنتُ خداع بصري، لي، لكني لم أفقد الأمل.
سأترقّب، وسأنتظر، وسوف تبتسمين، يا جميلة. لن أفقد الأمل.. وسوف نعود معًا إلى المنصورة.
تمّتْ
يونية 2017
هوامش وإشارات
* في رواية "مفتاح الحياة" اعتمدتُ على بعض نصوص الكتاب المقدّس.
* (قصيدة العينان الخضراوان) وبعض نصوص الشاعر الكبير أمل دنقل منقولة عن أعماله الكاملة الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة والفنون.
* كلمات أُغنيّات ماجدة الرومي من أُغنيّة "مطرحك بقلبي" كلمات: مارون كرم، و"أُغنيّة خدني حبيبي" من كلمات: هنري زغيب، من ألبوم (وداع) الصادر 1977.
* كلمات من أغنية "شبابيك" من البوم بنفس العنوان 1981 للفنان محمد منير من كلمات الشاعر مجدي نجيب، ومن أغنية "الناس نامت إلاك" تأليف إبراهيم رضوان، من ألبوم وسط الدايرة 1987.
* مقتطفات من الترجمة العربية لرواية "قصّةحبّ" للكاتب الأمريكي إيريك سيغال التي صدرت عام 1970.
* ثمّة إشارة لأُغنيّة من أُغنيّات عمرو دياب من كلمات تامر حسين، من ألبوم "شفت الأيّام" الصادر عام 2014.
* المقتطَف من رواية "الجريمة والعقاب" من إحدى طبعات كُتُبه، من ترجمة سامي الدروبي من الجزء الأوّل (ص 467-468).
* هناك تفاصيل كثيرة استقصيتُها من أصدقاء وأحبّاء، لأنهم من المنصورة، أو لأن لهم معرفة بالتفاصيل التي سألتُ عنها أو أجريت عنها بحثا، ولذا أتقدّم بشُكْر كبير للصديقة العزيزة "آمال رتيب"، على الجهد، وعلى رأيها في مواضع عديدة من نصّ "مفتاح الحياة"، والشُّكْر موصول للصديقة والقارئة الملهمة "هند عوض"، وللصديق الكبير الدكتور "إيمان يحيى"، الذي استفدتُ من بعض تعليقاته في صفحته بالفيس بوك عن المنصورة. وأشكر الصديقة ساره علام أيضا.
* هذا النصّ روائي وتخييلي بالكامل، وإذا ذُكرَتْ فيه أسماء الأحياء والشوارع الحقيقية، فإن كلّ مَنْ ورد فيها من شخصيات في المقابل، هي مُختلَقَة بالكامل وتمامًا من المُخيّلة. ربّما باستثناء اسم الدكتور محمّد غنيم، بوصفه عَلَمًا، ورد ذِكْره كمدير لمركز الكلى الشهير في المنصورة، وربما بعض الأعلام الآخرين، عدا ذلك، فلو تصادف تشابه بين اسم أيّ شخص ومثيل له في الواقع، فسوف يكون ذلك بمحض الصدفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.