رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 9-6-2024 في البنوك    التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    زعيم المعارضة الإسرائيلية: على حزب جانتس الانسحاب من حكومة نتنياهو الفاشلة    لابيد: حكومة نتنياهو تسمح بإرسال شاحنات المساعدات إلى غزة ثم يرسل الوزراء ميلشياتهم لاعتراضها في خروج كامل عن القانون    البحرية البريطانية: اندلاع النيران في سفينة جراء إصابتها بمقذوف في خليج عدن    ردا على إطلاق بالونات القمامة.. كوريا الجنوبية تستأنف البث الدعائي عبر مكبرات الصوت    «أبرزها إهانة إمام وجائزة القرن».. 9 قضايا أشعلت ظهور ميدو والقيعي    القنوات الناقلة لمباراة السنغال ضد موريتانيا في تصفيات كأس العالم    فرش وتجهيز لجان امتحانات الثانوية العامة 2024.. صور    «الأرصاد»: انكسار الموجة الحارة على محافظات شمال ووسط الصعيد    إصابة شخص بسبب حريق شقة سكنية فى حلوان    أبرز لقطات البرومو الرسمي لفيلم "عصابة الماكس"    «مجدى يعقوب» و «السبكى» يشهدان توقيع بروتوكول تعاون لتدريب الأطقم الطبية بالهيئة    اليوم.. مغادرة آخر أفواج حج الجمعيات الأهلية إلى مكة المكرمة    السعودية تلغي تصاريح بعض حجاج الداخل بسبب اللقاحات وتوجه رسالة للوافدين    تامر عبد المنعم عن صفعة عمرو دياب: كل واحد يلزم حدوده ومليون دولار لن تكفي لرد الكرامة    أسعار الفراخ والبيض اليوم 9 يونيو "خيالية".. الكل مصدوم    وصفات طبيعية لعلاج قشرة الرأس، أبرزها الزبادي وزيت شجرة الشاي    «البترول»: خططنا لتلبية احتياجات الكهرباء من الغاز أو المازوت    البنك المركزي يعلن معدلات التضخم في مصر بنهاية مايو.. الاثنين    عاجل: حدث ليلا.. الغضب يشتعل ضد نتنياهو واحتجاجات عنيفة أمام البيت الأبيض    حزب الله يعلن قصف مقر قيادة كتيبة السهل في ثكنة بيت هلل الإسرائيلية براجمة من صواريخ فلق 2    جدول مواعيد امتحانات الثانوية العامة 2024.. تنطلق غدا    «التعليم»: اتخذنا إجراءات غير مسبوقة لمنع تداول امتحانات الثانوية    «زي النهارده».. 9 يونيو 1967 تنحي الرئيس عبدالناصر بعد نكسة 67    طلاب «إعلام المنوفية» يطلقون حملة «إعلامنا» للتعريف بالكلية ومميزات الدراسة بها    مناخ «الزراعة»: الموجات الحارة تؤثر على الفواكه والخضروات    فضل الدعاء في هذه الأيام المباركة.. لا يرده الله    للحجاج والمعتمرين.. محظورات لا يجب فعلها أثناء الحج    «مين هيقدر يديره؟».. القيعي يكشف سبب رفضه لتعاقد الأهلي مع ميدو    أمم أوروبا 2024.. المنتخب الإنجليزي الأعلى قيمة سوقية ب 1.78 مليار يورو    ما سبب الشعور بالصداع عند الاستيقاظ من النوم؟.. «السر في التنفس»    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. «هيئة الدواء» تسحب أدوية جديدة من الصيدليات.. انفراد..النيابة العامة تحيل «سفاح التجمع» لمحاكمة عاجلة أمام «الجنايات».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأحد: 48 ساعة قبل عودة الغليان (تفاصيل)    بايدن مخاطبًا ماكرون: شراكة الولايات المتحدة وفرنسا «لا تتزعزع»    تحرك عاجل من السعودية بشأن الحج بدون تصريح    أسامة كمال: الحكومة المستقيلة لهم الاحترام.. وشكل الوزارة الجديدة "تكهنات"    ليلى عبد اللطيف تكشف حقيقة توقعها بعيد أضحى حزين في مصر    كوميديا وإثارة وظهور مُفاجئ ل السقا وحمو بيكا..شاهد برومو «عصابة الماكس» (فيديو)    10 سنوات إنجازات | طرق وكباري و3 محاور رئيسية لإحداث طفرة تنموية في قنا    مقتل 45 شخصا على الأقل جراء صراع عشائري في الصومال    ياسر إدريس: لا ينقصنا لاستضافة الأولمبياد سوى إدارة الملف    طارق سليمان: كنت مع مشاركة شوبير في نهائي إفريقيا على حساب الشناوي    «القومى للمسرح المصري» يحتفي بدورة «سميحة أيوب»    جامعة العريش تطلق مبادرة شاملة لتأهيل الخريجين لسوق العمل    مع بدء رحلات الحج.. خريطة حدود الإنفاق الدولي عبر بطاقات الائتمان في 10 بنوك    خبير مائي: سد النهضة على وشك الانتهاء من الناحية الخرسانية وسيولد كهرباء خلال سنتين    النديم: 314 انتهاك في مايو بين تعذيب وإهمال طبي واخفاء قسري    ما أهم الأدعية عند الكعبة للحاج؟ عالم أزهري يجيب    طارق قنديل يتحدث عن.. سر نجاح الأهلي ..البطولة الأغلى له.. وأسعد صفقة بالنسبة له    ليلى عبداللطيف تتسبب في صدمة ل أحمد العوضي حول ياسمين عبدالعزيز (فيديو)    إصابة 6 أشخاص في تصادم سيارة وتروسيكل بالإسماعيلية    مصرع طفل عقب تعرضه للدغ عقرب فى جرجا بسوهاج    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بعيادة الجلدية ووحدة طوسون الصحية    حظك اليوم برج الحوت الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عاجل.. انفراجة جديدة في مفاوضات بن شرقي وحقيقة عرضين الخليج ل "الأخطبوط"    ما هي أيام التشريق 2024.. وهل يجوز صيامها؟    عقوبة تصل ل مليون جنيه.. احذر من إتلاف منشآت نقل وتوزيع الكهرباء    انتصار ومحمد محمود يرقصان بحفل قومي حقوق الإنسان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عفاريت الأحلام المكسورة
نشر في صباح الخير يوم 19 - 10 - 2010

حين تخرج من شارع حدائق الشلالات بالإسكندرية لتتجه إلي الكورنيش، لا مانع من أن تنظر يمينك لتجد عمارة حمراء من ثلاثة طوابق، تطل علي حديقة صغيرة ويقابلها من الناحية الأخري مبني إدارة جامعة الإسكندرية.
ولن تستطيع عيناك أن تتعرف علي سكان الطوابق الثلاثة، ولكن يمكنك تمييز البيت بدوره الأرضي، الذي يحتله محل بقالة وآخر للخردوات وثالث للكتب الجامعية. وأنت لن تلتفت إلي البيت لسبب بسيط هو أنك مشغول بما يخصك من أحوال الدنيا، وطبعا لن تعرف أني صاحب هذا المنزل ومالكه الوحيد علي الرغم من أني أبحث لنفسي عن شقة، ولم أجد لنفسي فرصة للحصول علي مسكن من المحافظة.
ولابد لك من أن تعلم أني عشت لشهور غارقا في الإحساس بالقهر الذي يستبد بي كل يوم، لأني لا أجد لنفسي بيتا أعيش فيه مع من خطبتها منذ ثلاث سنوات، ويتم النظر إلينا من كل المحيطين بنا علي أننا اثنان من المجانين، فأمي ترفض تماما أن أقيم معها، لأنها تفضل أن تقيم معها ابنتها الصغري شقيقتي الصغري، وطبعا لن أطلب من شقيقتي الكبري التي تزوجت في الدور الثالث أن تزوجني معها، وهكذا لم يعد لي مكان سوي حجرة في الشقة التي تسكن فيها أمي ومعها شقيقتي الصغري. وطبعا يستبد بي الإحساس بالقهر. ومن الرائع أن حبيبتي تتحمل الانتظار لواحد من ثلاثة أمور، إما أن تموت أمي لا قدر الله، أو تموت طنط عايدة جارتنا التي تسكن في الدور الأول والتي أعتز أنا بها كأنها أمي الثانية تماما، وإما أن تأتي لنا البعثة إلي باريس، حيث إني معيد بالجامعة قسم فلسفة، وهي معيدة بقسم اللغة الفرنسية. وسواء جاءت البعثة لها أو لي فقد اتفقنا علي أن نسافر معا في أي من البعثتين.
وطبعا ينظر إلينا صاحب المكتبة التي في أسفل منزلنا كاثنين من المجانين، فقد عرض علي أن أقوم بتلخيص الكتب المقررة علي قسم فلسفة الذي أعمل به، وسوف يعطيني عدة آلاف من الجنيهات تساعدني في حياتي. بل وعرض أيضا أن تقوم حبيبتي بتلخيص قواعد اللغة الفرنسية لطلبة الثانوية العامة، وأنه سوف يسهل لها مواعيد دروس للطلبة من كافة أنحاء الإسكندرية، وطبعا صدمه رفضها لتلك اللعبة.
••
قررت أن أذهب إلي إدارة الإسكان بالمحافظة لأعلم لماذا رفضوا طلبي للحصول علي شقة، وضحكت إلي حد الرغبة في البكاء حين قالوا لي إنهم بحثوا حالتي فاكتشفوا أني صاحب عقار وأني مقيم مع والدتي. وأخذت أضحك أنا وحبيبتي علي خيبة الأمل الهائلة. ولنركب واحدة من عربات البيجو التي تنقل الجمهور من أمام مبني الكليات النظرية لجامعة الإسكندرية، لنصل إلي المكس، فهناك كوخ من الأسمنت تم إعداده ليكون غرفة كهرباء، وسيأخذ الخفير مني خمسة جنيهات، وسيبتعد عن الكوخ، ليعود بعد ساعة زمن، فإيجار الكشك للعشاق هو خمسة جنيهات في الساعة.
كنت أحس أني مدهوس بأقدام غليظة لا أعرف منها فكاكا، فقد فعلت كل ما يمكن أن يفعله شاب السادسة والعشرين من المذاكرة والاجتهاد حتي وصلت إلي درجة المعيد بالجامعة. وطبعا قمت بإقناع الحبيبة بتأجيل أحلام الزفاف القريب إلي أن يتم حصول أي منا علي شقة، أو أن تأتي البعثة لها أو لي، وهنا سوف نسافر معا، فإن جاءتها البعثة قبلي سأسافر معها، وسنتحايل علي حكاية ضرورة عدم الزواج للدارس للماجستير أو الدكتوراه أثناء البعثة. وقد أستقيل أنا أو تستقيل هي، فالمهم هو أن نوجد معا.
ومن الرائع أن أيا منا كان يرفض بشدة أي فكرة للبحث عن العمل في ليبيا أو في الخليج، فنحن من المؤمنين بأن الخروج من الإسكندرية إلي أي بلد من الأقطار العربية المحيطة قد يمنحنا إحساسا أشد وطأة بقلة القيمة من هذا الإحساس الذي يغمرنا منذ تخرجنا ومنذ عملنا، هي كمعيدة بقسم اللغة الفرنسية وأنا كمعيد بقسم فلسفة. ومازال أمامنا مشوار طويل من الماجستير والدكتوراه، ولم يكن أمامنا سوي الذهاب إلي هذا الكوخ الأسمنتي لنعيش معا لحظات من الحب المخطوف، هذا الحب الذي يغمرنا طوال الوقت كعاصفة قادرة علي أن تخلعنا من الأرض.
وفي هذا اليوم لم تكن بي رغبة في احتضانها هذا الاحتضان المسروق، وحين دخلنا إلي الكوخ الأسمنتي، اكتفيت بأن أمسك يديها، لعل طمأنينة الحب تقتل هذا الإحساس الداهم بقلة القيمة، من فرط التأجيل لحلم وجودنا معا في بيت صغير. واقترحت عليها أن نعود بأفكارنا إلي عمر الرابعة من العمر وتعود هي إلي نفس العمر لنلهو معا _ بالخيال _ في حديقة روضة الأطفال، وكنت ألمس بشرة خدها بأصابعي، وأقول لها «لعل وجود هذا الكوخ الأسمنتي يتيح لنا شقة قادمة في عمارتنا الصغيرة، بأن تموت طنط عايدة جارتنا، فتخلو لنا الشقة، فنستريح من عذاب البحث عن شقة». وطبعا لم أكن أجرؤ علي التفكير في موت أمي، فهي التي تدعو لي كل صباح، كما أن شقيقتي الصغري هي التي تقوم برعايتها، وبشكل محترم كأستاذة في الطب.
وطبعا كنت أكره الدوامة التي يضعني فيها الحلم بأن تموت طنط عايدة، فهي أرملة مدير مكتب البريد في حي محرم بك ولم تنجب أطفالا.
وأنا أحب هذه السيدة كثيرا. ومازلت أتذكر كيف ساهمت مع قريبها المسئول الحزبي الكبير ليتدخل في نقل أبي من وظيفته الصغيرة في إدكو، بعد أن مات الشيخ العجوز الذي كان يسكن الشقة التي سكنتها أسرتي. ومنذ أن انتقلنا من إدكو إلي الإسكندرية، وهي تعاملني كابنها الذي لم تنجبه. وتهديني في أعياد ميلادي نقودا كثيرة، وتصر كل عام علي أن تشتري لي ملابس الأعياد. ورغم أن والدي كان يصر علي دفع ثمن ما تشتريه لي طنط عايدة، إلا أنها كانت تعطيني النقود من خلف ظهره، بعد أن رأتني أدخن السجائر.
وما أن يدهمني حلم موت طنط عايدة حتي أشعر أن العالم سيكون مقفرا حقيقة إن ماتت هذه السيدة التي كانت والدتي تخشي أي تقارب بيننا وبينها خوفا من أن تزوغ عيون والدي، فيتزوجها، خصوصا أنها كانت تصغر أمي بسنوات كثيرة. ومات الزوج دون أن تنجب طفلا.
••
وفي داخل الكشك الأسمنتي كنت أعاني من الإحساس بالإهانة لأني لا أفترق بهذا السلوك عن المعلم سكر الذي تزوج من خادمتنا عزيزة. وأن حبيبتي دارسة الأدب الفرنسي لا تختلف عن عزيزة ذات العين التي لا تبصر. وأني سأقضي الساعة مع الحبيبة مثلما كان المعلم سكر يمضي بعضا من الوقت مع عزيزة في كشك أسمنتي بجانب بحيرة إدكو، ثم بعد أن كانا يفرغان من عناق الحب تعود عزيزة لتحملني علي كتفها وتعود بي إلي منزلنا المطل علي البحيرة.
وعلي الرغم من صغر عمري إلا أنه لم يغب عن رأسي أبدا ما كانت عزيزة وسكر يفعلانه في الغرفة الأسمنتية المهجورة والتي قيل لي إنها كانت غرفة تحرس مدخل مطار بحري لطائرات الجيش البريطاني أثناء احتلال إنجلترا لمصر.
وقيل أيضا إنها بيت لعفريت اسمه زنطح، وكان زنطح «شحاذ» في قطار أبو قير ثم مات في حادث قطار. وبقي عفريته يسكن الكوخ الأسمنتي.
ومازلت أتذكر مخاوفي من هذا العفريت عندما كنت طفلا. ولعل حبي لطنط عايدة هو أنها سعت لنقل أبي من إدكو إلي الإسكندرية فور خلو الشقة المتسعة في العمارة، التي كان هذا الأب يملكها، وكتبها كلها باسمي، لأنه خاف من أن تبيعها أمي، فضلا عن أنه قام بتزويج شقيقتي الكبري في الشقة التي في الدور الثالث، بعد أن ماتت الأسرة التي تسكنها في حادث سيارة كبيرة وبقيت شقتنا وشقة طنط عايدة التي ندين كلنا لها حين سعت لدي قريبها المسئول الحزبي الكبير فنقل أبي من إدكو إلي الإسكندرية، ولنواصل التعليم في مدارس المدينة. ومازلت ممتنا لها بسبب ما رواه لي أبي بأنها أسرعت بإبلاغه عندما مات العجوز الذي كان يسكن الشقة التي نملكها، وانتقلنا إليها. وأنها هي من أبلغت الشرطة والنيابة وتولي قريبها عملية تسهيل تسليمنا الشقة، التي لم يظهر لمن كان يسكن فيها أي قريب أو وارث.
ودائما أذكر أمي بأنه لولا طنط عايدة لما كان لنا مكان في الإسكندرية. وورثت أنا البيت عن أبي بعد أن كتبه باسمي كاملا بعد أن زوج الابنة الكبري في الشقة التي تعلونا، وزوجت أمي شقيقتي الصغري معها في نفس الشقة، وأعلنت لي أني إن أردت الزواج فلابد لي من البحث عن شقة خارج العمارة، بعد أن زوجت شقيقتي الصغري لتسكن معنا في نفس الشقة، فالبنت في نظر أمي هي التي تقدر علي رعاية الأم أكثر من الابن. وهكذا صرت أقيم في غرفة واحدة من هذه الشقة، ولم أستطع إقناع أمي أن أتزوج فيها، فهي لن تقبل دخول امرأة غير شقيقتي إلي الشقة التي نقيم فيها. ولم يعد لوالدتي سيرة سوي الدعاء علي طنط عايدة بالموت، ففي هذا راحة لي ولها. وكنت أرفض هذا الدعاء، رغم أني أفكر فيه ليل نهار.
••
أثناء وجودي في الكوخ الأسمنتي الذي دفعت إيجاره لمدة ساعة للخفير، أخذت أنا وحبيبتي في تبادل ذكريات الطفولة. و لم يكن من اللائق أن أخبر الحبيبة أن عزيزة كانت بعين واحدة، فعينها الأخري قالت عنها أمي «عينها كريمة» وهو التعبير المهذب عن العين التي لا تبصر. ولم يكن من اللائق أيضا أن أخبر الحبيبة بأن «سكر» هذا لم يكن أيام حبه لعزيزة سوي عامل بوفيه محطة قطار إدكو قبل أن يصبح صاحب مقهي، وكتمت عنها رغبتي في أن أحكي لها عن خوفي من محطة قطار إدكو خصوصا أن عفريت الشحاذ زنطح كان يملؤني بالرعب وكان الليل هو وقت المخاوف التي تسيطر علي كل وجودي لقرب المنزل من الكشك الأسمنتي الذي كان يلتقي فيه سكر مع عزيزة في النهار.
وقد سألت نفسي: تري أي عفريت يسكن في الليل هذا الكشك الأسمنتي الذي يؤجره هذا الخفير بالساعة لأي اثنين من العشاق؟. وطبعا لم أجد إجابة.
ولن أنسي كيف ظللت أخاف من ليل إدكو لسنوات علي الرغم من أن أي نهار بها يهبط علي إدكو كنت أقضيه في صيد السمك البوري من بحيرتها المتسعة. وكنت أرقب علي حرف البحيرة المقهي الذي امتلكه سكر الذي تزوج من خادمتنا عزيزة. وظلت المحبة بيني وبين عزيزة قائمة.
وأدمن مشاكستها كلما زارتنا، أو أشاكس المعلم سكر، فأذكر أيا منهما بما كانا يفعلانه حين كانت عزيزة تتركني بجانب الكوخ الأسمنتي علي حرف البحيرة.
ولكن أيام سكر وعزيزة اختفت من حياتي بعد أن انتقلنا إلي الإسكندرية من منزلنا المطل علي بحيرة إدكو الغنية بأسماك البوري.
••
أخذت الحبيبة تحكي لي ونحن في الكوخ الأسمنتي بعضا من حكايات طفولتها في مدينة دمنهور حيث يعمل والدها مهندسا في الإصلاح الزراعي كمدير مكلف برعاية آلاف الفدادين التي آلت إلي الدولة من أملاك الملك فاروق الذي طردته الثورة. حكت لي الحبيبة عن ذلك اليوم الشرس في حياتها، حين أخطأ سائق سيارة المدرسة الفرنسية التي تتعلم فيها إلي حي الفقراء المسمي «وكالة عطية» والذي كتب عنه الروائي خيري شلبي روايته الرائعة وكالة عطية، وأن جميع متسولي ومدربي القرود في دمنهور اقتربوا من أتوبيس المدرسة وقاموا بسرقة الحلق الذهبي المعلق في أذن كل بنت، إلي أن صرخت هي بأن عمها هو حكمدار المدينة؛ وأنها سوف تبلغه بالسرقة، فأخرج اللصوص كل حلقان البنات وصار علي كل طفلة أن تنتقي الحلق الخاص بها، بعد أن قالت واحدة من اللصوص «لو أطلق علينا الحكمدار عساكر الهجانة الذين يركبون الجمال ويمسكون بكرابيج قادمة من السودان، فلن تنجو واحدة منا من علقة بالكرابيج السودانية التي تكفيها سنوات التوجع والألم، وقد يفقد المضروب بالكرباج عينيه أو قطعة من أذنه، أو يغوص الكرباج رقبته ليخنقه، وإن سلط علينا الحكمدار رجال الأمن المركزي فلن يتركوا واحدة منا سليمة لا لأنهم أقوياء، ولكن لأنهم مدربون تماما علي احترام النظام»، وهكذا عادت الحلقان إلي أيدي البنات.
••
جاء الخفير بعد مرور ساعة إلا ربعا، وقال كلمته المشهورة «ياستار يارب» فعلمت أن وقت إيجار الكشك قد انتهي، وأصبح علي أنا والحبيبة مغادرة المكان، علي الرغم من أن شفاهنا لم تتلامس، فقط تبادلنا أحاديث مخاوف الطفولة.
سألت الحبيبة عن رأيها إن قررنا زيارة طنط عايدة معا، فسألتني «وماذا سنقول لها؟ هل سنسألها عن موعد موتها؟» أجبت الحبيبة: حين أكون معك أتمني أن تموت، لتخلو لنا الشقة. ولكن لو قال أحد غيرك هذا الكلام لقلت له «حرام عليك إنها جارة طيبة». سألتني الحبيبة: وماذا نقول لها عن سبب الزيارة؟ قلت: سنطلب منها أن تؤجر لنا غرفة في شقتها كغرفة مفروشة، وسأعفيها من إيجار الشقة، لأني مالك البيت بعد موت أبي.
••
طبعا كانت عائلة حبيبتي تكرهني تماما بسبب ما أعلنته لوالدها ووالدتها، بأنها لن تتزوج غيري، وأن أي عريس يتقدم لها هو كائن مجنون، لأنها لن تقبل الزواج إلا بمن تحبه.
وكنت أري في عيون الأب رغبة أكيدة في أن تنشق الأرض لتبتلعني، فمن أنا حتي أجعل ابنته في حالة انتظار للفرج الذي لن يأتي أبدا، وهو سفرها إلي بعثة أو سفري إلي بعثة.
وكنت أري في كلمات والدتها نوعا من التقريع المستتر، وهي تحكي عن بنات العائلة التي تزوجت واحدة منهن مديرا في شركة استثمارية واستأجر لها شقة في حي الفراعنة، حيث يسكن كبار رجال القوم بالإسكندرية. وتتابع الحديث عن زميلتنا التي خطفت عريسا صاحب مشروع استثماري هائل وأهداها شقة باسمها تطل علي الكورنيش في أحلي منطقة بالإسكندرية وهي جليم، وأهداها عمارة هائلة تؤجرها كلها إيجارا جديدا لتصرف علي نفسها. وأنها حصلت منه علي الطلاق أخيرا بعد أن قرأت أن مصروف يد المطربة المقتولة سوزان تميم كان ثلاثمائة ألف دولار شهريا. وهنا رويت لها كيف لم أستطع أنا الحصول علي شقة من إسكان المحافظة؛ واستطاع زميل لي يحترف الدروس الخصوصية أن يبني بيتا من ثلاثة أدوار في مشروع «ابني بيتك» وكلفه مائة وخمسين ألف جنيه فقط لا غير.
وهنا قالت حماتي: لماذا لم تفعل مثله؟ وأجابتها حبيبتي بأني أنا وهي قد قررنا أن نكونا من أهل الخيبة، فلا نبيع علمنا في الدروس الخصوصية.
••
حين زرت طنط عايدة، استقبلتني بهالة الشعر الأبيض المضيء كتاج جميل فوق رأسها. وقالت «أعرف أنك تفكر في ميعاد موتي. وقد سمعت خناقتك مع والدتك حول هذا الموضوع. وأنا أريد أن أقول لك كلمتين فقط لا غير. هما «يمكنك أن تحصل لي علي بيت للعجزة والمسنين لأقيم فيه بشرط واحد هو أن تقسم علي المصحف أن تزورني كل أسبوع. وأن تسمي ابنة من بناتك علي اسمي، وإن جاء لك ولد تسميه علي اسم زوجي المرحوم أحمد.
ولابد لي من أن أعترف بأن عيوني امتلات بالدموع، حين طلبت مني طنط عايدة أن أنادي علي بائع أثاث قديم ليشتري أثاث بيتها ليخلو لنا البيت. ولكن نظرة واحدة من حبيبتي لأثاث بيت طنط عايدة كشفت لها أنه أثاث لا نظير له في هذا الزمان. وقررت شراءه بعشرة آلاف جنيه.
••
لا أريد أن أقول أني بكيت حين أودعت طنط عايدة بيتا للمسنين في حي كفر عبده أرقي أحياء الإسكندرية .
ولا أريد أن أقول إن أمي لم تعد تنظر لي الآن بريبة بعد أن ظنت أني قد أحلم بموتها.
وأحيانا أصحو من النوم لأسمع صوت العفريت زنطح وهو يوشوش في أذني «إياك أن تنسي طنطك عايدة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.