إن المغالين في التعامل مع الفقه والشريعة يرفضون الالتزام بمذهب من المذاهب الأربعة التي توارثتها الأمة جيلاً بعد جيل يقولون: هم رجال ونحن رجال. الرد علي هؤلاء المتطرفين هل كلامهم هذا يتفق مع عموم الناس؟! كلامهم هذا لا يتفق مع عموم الناس فهناك العامي والعامي لا يصح له مذهب ولا يلزم بالرجوع إلي امام بعينه دون سواه وإنما يستفتي من اتفق ممن يثق في علمه ودينه ومذهبه مذهب من أفتاه. ولا يجب عليه الالتزام بمذهب معين بل له أن يعمل في مسألة بقول أبي حنيفة مثلاً. وفي أخري يقول مجتهد آخر للقطع بأن المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يستفتون مرة واحداً ومرة غيره غير ملتزمين مفتياً واحداً وعلي ذلك لو التزم مذهباً معيناً كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي لا يلزمه تقليده في كل مسألة لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله. ولم يوجب الله ورسوله علي أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب واحد معين من الأئمة فيقلده في دينه فيأخذ كل ما يأتي ويذر. قول المتطرفين في رفض الالتزام بمذهب من المذاهب الأربعة "هم رجال ونحن رجال". هذه الكلمة تقبل من المجتهدين وهذا لا يكون إلا بعد تأمل في النصوص. ومقابلة بين الآراء والتعرف علي أدلة كل فريق ثم يكون الترجيح بعد ذلك. وهذا يحتاج إلي أهلية وأدوات لا تتاح لكثير من المعاصرين المتعلمين فكيف نقبل قول أحد من العلماء للناس إذا استفتيت عالماً في مسألة من المسائل فاطلب منه أن يذكر لك كل الآراء لتختار أنت واحداً من هذه الآراء هل كل الناس يعلمون أدوات الترجيح لكي يختاروا رأياً من هذه الآراء ؟ وعموماً فكلمة "هم رجال ونحن رجال" إن جاءت من أهلها فهي مقبولة بل هي الأصل الذي لا معدل عنه أما إن جاءت ممن لا يملك أهلية النظر ولو كان جزئياً فهي مردودة فهذا يفتح باباً إلي الجرأة علي الدين. والتطاول علي أئمة المسلمين قول المغالين والمتطرفين بأنهم لا يكادون يستفتون إلا أئمتهم وأمراءهم. هذا القول مردود لأن الحق ليس وقفاً علي فئة بعينها دون فئة ولا فريق بعينه دون فريق وهو ضالة المؤمن أينما وجده التقطه. والاقتصار في الفتوي علي فريق دون فريق لا يربي عالماً ولا تحقيقها ولا مجتهداً فإن من شروط الاجتهاد العلم بمواقع الاجتماع ومواقع الاختلاف العلم بمواقع الاختلاف: العلم بمواقع الاجماع حتي لا يفتي بخلاف ما انعقد عليه الإجمال. والعلم بمواقع الاختلاف حتي لا يرد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه فإن من لم يعرف الاختلاف فليس بفقيه كما قال أبوحنيفه: أو لم يشم الفقه بأنفه كما روي عن قتادة رحمة الله . إصرار المستفتين علي طلب الدليل من المفتين الاصرار علي طلب الدليل هو الأحوط في الدين وهو الذي كان يتحراه الصحابة والتابعون والائمة شريطة أن يكون السائل أهلاً لفهم هذا الدليل فهذا الإيراد إلي الأدلة ليس شرطاً لا سيما إذا كان السائل من العامة. قال الآمدي في الاحكام: وأما الإجماع فإنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الاحكام الشرعية والعلماء منهم يبادرونهم إلي اجابة سؤالهم من غير اشارة إلي ذكر الدليل ولا يتهمونهم عن ذلك من غير فكان اجماعاً علي جواز اتباع العامة للمجتهد مطلقاً "الاحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/.226