وزير الداخلية يهنئ الرئيس السيسي وقيادات الدولة بمناسبة عيد الأضحى المبارك    بالصور.. جامعة طيبة تناقش مشروعات تخرج طلاب "تكنولوجيا التصنيع الغذائي"    برنامج تدريبي توعوي لقيادات وزارة قطاع الأعمال العام والشركات التابعة لها    القوات المسلحة توزع كميات كبيرة من الحصص الغذائية بنصف الثمن بمختلف محافظات    تقرير: حزب الله يواجه إسرائيل ب مليون صاروخ    خالد البلشي: الصحافة الفلسطينية قدَّمت أكثر من 150 شهيدا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة    10 آلاف طن يوميًا.. ملياردير أسترالي يقترح خطة لإدخال المساعدات إلى غزة (فيديو)    اليونيسف: 3 آلاف طفل معرضون للموت في غزة بسبب سوء التغذية    مبابي: أحلم بالكرة الذهبية مع ريال مدريد    عرض خرافي ينتظره محمود كهربا من الرائد السعودي    مدرب ألمانيا يعوض نجم دورتموند عن إحباط نهائي الأبطال    أكاذيب إخوانية.. مصدر أمني يكشف حقيقة فيديو الإساءة لإجراءات الأمن بمطار القاهرة    التعليم: رصد حالة غش واحدة في امتحان مادة الاقتصاد وحالتين بالاحصاء باستخدام الهاتف المحمول    رد فعل حسام حبيب على نبأ خطوبة شيرين عبدالوهاب.. القصة الكاملة    ثقافة المنيا تقدم عروضًا فنية وأنشطة ثقافية وترفيهية متنوعة خلال أيام عيد الأضحى المبارك    فحص 1349 مواطناً في قافلة طبية مجانية بقرية بساتين بركات بالشرقية    بدون زيادة.. «التعليم» تحدد المصروفات الدراسية بالمدارس الحكومية للعام الدراسي الجديد    مصرع طالب تمريض صدمه قطار عند مزلقان كفر المنصورة القديم بالمنيا    الرئيس السيسى يهنئ الملك تشارلز الثالث بذكرى العيد القومى    رئيس حزب الاتحاد: التنسيقية تجربة فريدة انطلقت من أرضية وطنية تضم مختلف التوجهات    ل برج الأسد والحمل والقوس.. ماذا يخبئ شهر يونيو 2024 لمواليد الأبراج الترابية؟    حقيقة وفاة طفل أثناء أداء مناسك الحج    البورصة تستقبل أوراق قيد شركة بالسوق الرئيسى تعمل بقطاع الاستثمار الزراعى    ما هي أسعار أضاحي الجمال في عيد الأضحى ومواصفات اختيارها؟ (فيديو)    مواعيد تشغيل القطار الكهربائي الخفيف ART خلال إجازة عيد الأضحى 2024    ضبط أحد العناصر الإجرامية بالقاهرة لحيازته كمية كبيرة من الأقراص المخدرة بقصد الإتجار    الرئيس التنفيذي لهيئة الاستثمار والمناطق الحرة يشارك في الملتقى الأول لبنك التنمية الجديد في مصر    الأكثر لعبًا للمباريات الافتتاحية.. ماذا يفعل المنتخب الألماني خلال بدايته في «اليورو»؟    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    المفوضية الأوروبية تهدد بفرض رسوم على السيارات الكهربائية الصينية    بعد طرحه أغنية «القاضية» في «ولاد رزق 3».. إسلام شيندي يستعد لعقد قرانه    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    «الصحة» تنظم ورشة عمل لتعزيز قدرات الإتصال المعنية باللوائح الصحية الدولية    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    "مواجهة الأفكار الهدامة الدخيلة على المجتمع" ندوة بأكاديمية الشرطة    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    الأرصاد تكشف عن طقس أول أيام عيد الأضحي المبارك    محافظ الغربية يتابع مشروعات الرصف والتطوير الجارية ببسيون    الجنائية الدولية تطلق حملة لتقديم معلومات حول جرائم الحرب فى دارفور    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح العام الأولي لشركة «ألف للتعليم القابضة» بقيمة 515 مليون دولار في سوق أبو ظبي للأوراق المالية    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    نصائح لمرضى الكوليسترول المرتفع عند تناول اللحوم خلال عيد الأضحى    مسئول أمريكي: رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار يحمل استفسارات    الولايات المتحدة تعتزم إرسال منظومة صواريخ باتريوت أخرى إلى أوكرانيا بعد مناشدات من كييف    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تصدقوا الكتاب

‏(1)‏ تماما‏,‏ مثلما يحدث في الأحلام عادة‏.‏ أجدني عاجزا عن التعبير عما يخالجني‏..‏ عاجزا عن كتابة قصة قصيرة من ثلاث صفحات علي الأقل‏.‏ ربما أفكر في إحساس قارئ
افتراضي‏..‏ كيف يمكنني التعبير عن هذا الخواء الهائل الذي استوطن الأعماق فجأة؟ هل يمكنني كتابة نص‏,‏ وأنا في هذه الحالة النفسية المتردية كصباح خريفي مزمجر ؟ عزيزي القارئ‏,‏ أتشاركني بعض جنوني ؟
‏(2)‏
فكرة قديمة راودته منذ مدة‏,‏ وليس مهما إن بدت مهترئة كثوب بال‏..‏ ليس مهما الشكل الفني الآن‏,‏ وليذهب النقاد والحقاد إلي الجحيم‏!.‏
تخيلوا شخصا افتقد سكينة الدواخل‏,‏ مدججا بحزن غامض استبد بروحه في صباح ربيعي صحو‏,‏ وهو يحدق في أشجار الأوكاليبتوس عبر نافذة القطار‏.‏
غادر البيت مرفرفا‏..‏ الشارع خال‏,‏ عيناه تبحثان عن سيارة أجرة‏,‏ قروي عجوز متوكئ علي عصا‏,‏ يرعي بقرة عجفاء ويهش علي غنمه‏.‏
أشعة الشمس تلسع عينيه المحتقنتين‏..‏ لم ينم سوي أربع ساعات‏.‏ تمطر سماء عينيه وهو يلمح امرأة مع بقراتها وحقولا صفراء تنتظر سنابلها الحصاد‏..‏ المرأة منهمكة في غزل الصوف لا تبالي بعبور القطار وصريره المزعج‏..‏ يندلع بين جوانحه حنين جارح إلي طفولة بعيدة‏,‏ أشجار الأوكالبتوس تضاعف كآبته‏,‏ تتدفق الدموع‏,‏ يغطي وجهه بقبعته‏..‏ امرأة تربت علي صغيرتها‏,‏ بعد أن استلمتها من يدي أبيها‏,‏ وتذوب الصغيرة في خدر النعاس اللذيذ‏.‏
يحس فراغا وجدانيا موحشا‏..‏ يفكر بشكل أعمق في معني الفراق‏..‏ الوحدة‏..‏ الألم‏..‏ الخداع‏..‏
أقاربه الأصغر سنا كانوا يسخرون من نشيجه عند انتهاء العطل المدرسية‏.‏ كانوا يرون في القرية أشغالا شاقة لا تنتهي‏,‏ ومساكن بلون التراب‏,‏ حقولا تتلون مع فصول السنة‏,‏ وليال موحشة سرمدية تفرض سطوتها مبكرا‏.‏
في المدينة نساء كثيرات وحلوات‏,‏ وروائحهن تخدر كل الحواس‏.‏
صاح الخال مبتهجا‏.‏
‏(3)‏
توقف عن القراءة‏,‏ رفع رأسه الأصلع‏,‏ رمقه من وراء نظارتيه وهو يرمي بالورقة علي سطح مكتبه الفخم‏..‏
ما هذه الخزعبلات ؟
لا أعرف‏,‏ أظنها كتابة يصعب تجنيسها‏....‏
في صحيفتنا لا ننشر مثل هذه السخافات‏,‏ أرسلها إلي محرري تلك الجرائد التي لا تقرأ‏(‏ وبحزم استطرد‏)‏ انظر إلي هذه الصورة‏..‏
انحني‏,‏ والتقطها‏..‏
هذه صورة ذلك الحصان الذي قتل السائس‏.‏
أريد تحقيقا صحافيا شاملا عنه‏,‏ يكون جاهزا للنشر في العدد القادم‏.‏
‏(4)‏
يذوب وسط أمواج أناس غير عابئين ببعضهم‏..‏ يمشي منكس الرأس شارد اللب غارقا في أفكاره‏,‏ يفكر في شئ واحد فقط‏:‏ كيف يمكنني كتابة قصة تسرق إعجاب ناقدتي الأدبية رائعة الجمال‏,‏ المشرفة علي الملحق الثقافي بتلك الجريدة ؟‏...‏ بدل هذه الرسائل المتكررة التي لا ترد عليها ؟‏.‏
وأنت تغادر مبني العمارة‏,‏ تلمح امرأة شمطاء غزت وجهها ويديها التجاعيد‏.‏ كل مساء تلتقيها بجلبابها الوحيد الرث المتسخ‏,‏ علي كتفها تسترخي سلة قديمة تخفي ما يجود به المحسنون‏,‏ حيث ترابط كل يوم عند بوابة المسجد الكبير‏,‏ تحس شيئا يخز قلبك‏,‏ وتتساءل‏:‏
هل يمكن أن ينتهي بي المطاف مثلها ؟‏.‏
يعاتبك صديقك‏:‏
أنت حساس أكثر مما ينبغي‏..‏ كلنا نتألم لرؤية وجوه بشرية بائسة‏,‏ لكن لم تفكر في الأمر طويلا‏,‏ لست وزيرا ولا مسئولا ؟‏..‏
ولكن الانكسار في أعينهم وكلماتهم‏...‏ أخشي أن يكون كل هذا التعب لا يساوي حتي ثمن الأوراق‏,‏ صرت شبه مقتنع بلاجدوائية الكتابة‏...‏
ما هذه الخرافات ؟
تلوذ بالصمت‏,‏ وطيف الناقدة بمحياها الصبوح وشعرها الذهبي يغمر كيانك‏:‏ سأحاول أن أكتب هذا التحقيق بلغة أدبية منمقة‏,‏ حتي لو سبق ورفضت موادي من طرف تلك المجلة الأجنبية‏,‏ بسبب أسلوبي الأدبي‏..‏ لكن لم لا تنشر لي أستاذتي الحلوة ؟ ليس مهما إن خسرت مالا‏,‏ المهم أن أثبت لها أني جدير بأن تقرأ هلوساتي‏,‏ وليذهب كل النقاد الحقاد إلي الجحيم‏,‏ وفي مقدمتهم رئيس التحرير الذي لا يحب القصص ولا القصائد‏.‏
‏(5)‏
لفظتهما الحافلة‏,‏ يتأففان من سحابة النقع التي خلفتها عجلاتها‏.‏ المكان غارق في صمت سرمدي‏..‏ جل مبانيه قروية بائسة متناثرة كحفنة حصي بعثرها نزق طفولي‏,‏ تجاورها مقبرة مهجورة‏,‏ وفي أعلي التلة ضريح‏,‏ يفصله شارع إسفلتي عن متاجر ودكاكين ومساكن يطوقها صخب أليف يغري بالتسكع بين أزقتها الضيقة‏.‏
علي الرصيف‏,‏ يتحلقان حول طاولة امرأة تجلس تحت مظلة فقدت ألوانها الأولي‏,‏ يحدق في المرأة المتشحة بالسواد‏,‏ نعلها البلاستيكي‏,‏ جلبابها الأسود الملطخ ورائحة تزكم الأنوف تنبعث من سوائل النفايات فوق سطح عربة يجرها حمار عجوز مكدود‏,‏ وأمامها تتسابق كلاب‏.‏
يلعن في سره مدينته وسكانها‏,‏ وهو يتطلع في وجوه منشرحة مثل قلوب أهالي البلدة يستوقفون بعضهم‏,‏ ويتبادلون الكلام والابتسام‏.‏
‏(6)‏
استأنسنا جلسة بائعة‏(‏ الحريرة‏),‏ لكزني صديقي والمرأة تصب بعض الحريرة في إنائي‏:‏
حريرتك بردت‏...‏ ألم يعجبك طبخي ؟
أعتذر مرتبكا‏.‏
تشير المرأة إلي فتاتين تبرز سراويلهن الضيقة تفاصيلهن السفلي قائلة‏:‏
يمكنك أن تربط عليهما‏(‏ الكارو‏)‏ وتنقل التبن‏.‏
لا بل أكياس الذرة‏,‏ التبن أخف وزنا‏.‏
كم أتوق إلي ولادة بنت‏..‏ بنت واحدة‏.‏
ألازلت تلدين ؟
سألها الكهل في شبه سخرية‏..‏
ولم لا؟ أريد بنتا ترعاني في شيخوختي‏,‏ تصبن ثيابي‏,‏ وترتب فراشي‏.‏
أقبل متشرد في العشرين من عمره‏,‏ تنبعث منه رائحة كحول‏,‏ يلح علينا أن نعطيه مالا لشراء طعام‏,‏ تشير إليه المرأة أننا مازلنا طالبين‏,‏ وبحركة يده يدعوه الكهل أن يجلس جانبا‏.‏
نسمع شتائمها ودعواتها عليه‏,‏ ثم تناوله إناء الحريرة‏:‏
خذ يا ولدي‏!.‏
آه‏,‏ لو كان معنا حسن‏!!.‏
قالها صديقي متحسرا‏,‏ فأحسست أن شيئا ما ينقص رحلتنا‏.‏
‏(7)‏
ونحن في بلدته‏,‏ أحس برغبة جارفة في مجالسة صديقنا الخمسيني هنا‏,‏ وأن انهل من معين تجاربه في الحياة‏.‏
جلس طاويا ساقيه تحته‏,‏ وبخشوع ينهر الشباب وهو يحدثهم عن عذاب القبر‏,‏ نراقب حركات يديه‏,‏ كما لو كان يغطي شيئا بتراب وهمي‏,‏ نقرأ تعابير وجهه وهو يضم ساعديه أسفل بطنه‏:‏
حين يدفنونك‏,‏ يقف علي رأسك ويقول لك‏:‏ السلام عليكم‏.‏ ماذا كنت تفعل في دار الدنيا؟‏.‏
ينحرف مسري الكلام‏,‏ ونتحدث عن بلدة صديقنا‏,‏ وكمن يعترف بذنب أقر أحدهم بلقائه مع امرأة من أولئك النسوة‏..‏
متطاوسا هتف صديقنا الكهل‏:‏
أنا لم أعط في حياتي لأية امرأة مالا‏,‏ فقط ما يلزم من أكل وشرب‏..‏ أليس عرقا بعرق وجهدا بجهد ؟
واحدة قضت معي أربع سنوات‏...‏
اقترب صبي علي مشارف المراهقة فاغرا فاه‏,‏ مستندا بيديه إلي ركبتيه‏,‏ فرماه حسن بفردة حذاء‏:‏
سير تسرح نعاجكم‏.‏
آه‏,‏ لو كتبت هذه الاعترافات يا حسونة في نص وقرأته ناقدتي‏,‏ ستحقد علي إلي الأبد‏.‏
أكتم ضحكي‏,‏ وفي صدري أينع ربيع قبل أوانه‏...‏
أشار صديقي رفيق الرحلة بطرف عينه إلي جارتنا الثلاثينية وابنتها المراهقة وهما تغادران البيت‏,‏ فامتقع لون حسن وعلق في أسي‏:‏
في الصيف كانت عجيزة البنت أكبر من أمها‏.‏
في سري‏:‏ حتي هذه انتبهت لها يا ابن الذين‏...‏
كيف يمكن أن تتخيل أن تفكر فيك هذه المهرة ؟‏.‏
هذا الأحد‏,‏ لمحتهما في السوق الأسبوعي‏,‏ لكن الزحام لم يطاوعني‏,‏ لكي أحتك بجسدها‏...‏ وبيده جسد حركته المجهضة بزهو وهو يسحبها من الخلف‏,‏ من بين فخذيها حتي‏...‏ وسأله صديقي‏,‏ بطريقته التي تجعله يبوح بما يخالجه‏:‏
من ؟ الأم‏!..‏
هل جننت ؟ تلك عجوز شمطاء‏.‏
وضج المكان بالضحك‏.‏
‏(8)‏
نسمع صليل قيد حديدي‏,‏ فنلتفت جميعا‏..‏ يتهادي حصان يقوده شاب‏,‏ حركات قوائمه منسجمة كأنما يمشي علي إيقاع موسيقي خفية‏,‏ يخلب الأبصار بسواده اللامع وضخامته‏...‏ اختلج قلبي‏,‏ انتبهت إلي أن عينه اليسري مفقوءة‏..‏ بحركة سريعة أخرج صديقي آلة التصوير من حقيبته الصغري‏,‏ وشرع في التقاط الصور من زوايا متعددة‏,‏ وعيناي لا تفارقان حوافره المفلطحة‏..‏ وقف بعيدا عن الحصان‏,‏ وأشار إلي الفتي شاهرا بطاقته‏..‏
كان سيعدم رميا بالرصاص‏,‏ لولا تدخل الخبير النصراني‏.‏ يعرفون أنه حصان شرس‏,‏ لكن الكل يتباهي بأن الجياد التي من صلبه تحصد كل جوائز السباقات‏.‏
وسألت الكهل باهتمام‏:‏
ولم كانوا سيقتلونه ؟
عض السائس من قفاه حين انحني لتقييده‏,‏ ولم يتركه حتي لفظ أنفاسه الأخيرة‏.‏ جن جنون الحصان لأنه لم يشبع‏...‏
وغمز بعينه حتي ندرك المقصود بالكلمة الأخيرة‏,‏ وتراجع رأس الكهل إلي الوراء مقهقها‏,‏ وانتبهت إلي ملابسه الصوفية الثقيلة‏,‏ التي يرتديها في هذا الجو الحار‏.‏
أتسلي بتأمل الأشياء والموجودات والناس من حولي‏.‏ اقترب رجل علي مشارف العقد الرابع‏,‏ منظره يوحي بخبله‏,‏ في يده قصبة يضرب بها أعداء وهميين‏..‏ أحاول التركيز علي كلماته‏,‏ ونبراته الحادة المتوعدة‏...‏ صعد فوق حاوية الأزبال‏,‏ أشار بقصبته مادا ذراعه في الهواء‏;‏
أنت‏,‏ احرس تلك الجهة‏,‏ وأنت لا تغادر مكانك‏..‏ سنري من سيضحك في الآخر يا ولدي‏,‏ يا عامر‏.‏
قفز وأقبل ناحيتنا‏..‏ دعاه الكهل لاحتساء كأس شاي مداعبا‏:‏
ألم تعثروا عليه بعد ؟
ربما يكون قد مات‏.‏
تنهره المرأة‏:‏
دع الرجل في سلام‏.‏ قل‏:‏ الله يستر‏.‏
مد رجليه فوق الرصيف رافضا الجلوس فوق الكرسي‏.‏ أنشغل بالنظر إلي حركات قدميه الحافيتين‏,‏ ونظراته الشاردة تتقافز يمنة ويسرة‏.‏ اقترب صديقي متفقدا آلة التصوير‏,‏ تهلل وجه المخبول مبتسما في وجهه في حبور طفولي‏:‏
صورني مع حصان أبي عامر‏.‏
دنا مني الكهل وهمس في أذني‏:‏
هذا ابن المرحومة الزوجة الأولي‏,‏ وقد طرده عامر بعد أن تزوج واحدة من المدينة‏.‏
وكيف يتركه أبوه وإخوته علي هذا الحال ؟
إنه يهرب من البيت‏,‏ يحاولون حبسه في البيت‏,‏ لكنه يبدأ في الصراخ والسباب‏,‏ فيذعنون لرغبته‏..‏
التهم طعامه في شراهة‏,‏ أخذ ينظر إلينا في بلاهة‏,‏ وكأن الكلام عن شخص آخر‏..‏ ناولها الإناء وركض مثل طفل ممتلئ بالحياة والدهشة البكر وهو يصرخ‏:‏ يا عامر‏,‏ يا ابن الحرام‏..‏ إن كنت رجلا اخرج وقابلني‏.‏
‏(9)‏
أحاول مقاومة هذا الإحساس الجارف لكن عبثا‏..‏ أجدني مدفوعا إلي ملاحقة البنت‏,‏ عيناي لا تفارقان محياها‏,‏ وقلبي يخفق بشدة‏..‏ لو لم تكن ترتدي ثيابا بدوية لجزمت بأنها قاتلتي‏,‏ تلك الناقدة التي لا ترد علي رسائلي الإلكترونية‏,‏ وأقضي الليالي ساهرا في قراءة كتاباتها‏,‏ أنتبه فجأة إلي أني في عالم له تقاليده الخاصة‏,‏ تفاديا لما لا تحمد عقباه‏..‏ أدركت البنت‏,‏ أني أتعقب خطواتها‏,‏ فرمتني ببسمة فتكت بما تبقي من صمود داخلي‏,‏ وهوت بعصاها علي أتانها التي تئن تحت ثقل حمولتها‏:‏ أيمكن أن يكون لها شبيهة وامتداد في هذا الكون ؟‏.‏
حدق في الملامح المتدفقة عذوبة تخدش مرايا قلبه‏,‏ وهتف لنفسه بابتهاج‏:‏ وأخيرا‏,‏ وجدت القصة القصيرة التي كنت أتمني أن أكتبها منذ زمن‏....‏
أسرعت البنت في خطواتها‏,‏ أبطأ مشيه‏..‏ أدرك أنها اقتربت من ديارها‏..‏ ناجي الطيف الحبيب‏,‏ انعطفت الأتان‏,‏ ولمح ذيل ثوبها الملون قبل اختفائها‏,‏ توكأ علي الجدار الحجري‏,‏ أحس بالدوار وعيناه تصطدمان بقاع الهاوية‏...‏ خمن أن المكان كان مقلعا قديما للأحجار‏,‏ ابتعد متراجعا إلي الخلف‏,‏ وقد راودته فكرة أن ينهار الجدار بغتة وتلك الصخور الناتئة‏:‏ كيف يمكن لهؤلاء العيش وسط هذه النفايات المعدنية ومخلفات المصانع ؟‏,‏ في الأعلي لمح قطيع أغنام تقتات علي بقايا المزبلة‏.‏ انحدرت البنت وأتانها في الممر المواجه له في اتجاه القاع‏,‏ تفادي النظر إليها‏,‏ وانشغل بالتحديق في بعض المساكن الصفيحية المتآكلة‏.‏ داهمته رائحة كريهة‏,‏ غادر المكان مغالبا رغبته في القيء وعيناه تبصران جثث كلاب نافقة متفسخة‏.‏ أغمض عينيه وانحني مفرغا ما بجوفه‏...‏
وأحس كأن شيئا قويا لطمه‏,‏ فتهاوي من فوق الجدار القصير وانطلقت من أعماقه صرخة أخيرة متحشرجة‏,‏ قبل أن يرتطم بالقاع غارقا في دمه‏...‏
‏(10)‏
اختلط الحابل بالنابل‏,‏ ساد الهرج في البلدة‏,‏ تدافع الأهالي متفرقين مبتعدين عن طريق الحصان المندفع هائجا متوحشا‏.‏
في البيدر‏,‏ داعبه المخبول‏,‏ وفكر في أن يشفق عليه ويحرر قائمتيه من القيد الحديدي‏,‏ والجواد هادئ منهمك في العلف‏,‏ رفع الحصان ذيله ليهوي بها علي حشرة لسعته‏,‏ فلطم بقوة‏,‏ خد الرجل وهو يفك رباطه‏.‏ انتصب واقفا مزمجرا‏,‏ امتدت يده إلي سوط تحت عربة بالجوار‏,‏ وهوي بقوة علي ظهره‏,‏ فانطلق الحصان مثل السيل‏...‏
من بعيد‏,‏ لمحوه يمر بمحاذاة الطريق الزراعية المشرفة علي جرف المقلع القديم‏,‏ وبعد لحظات‏,‏ تناهي إليهم صياح نسوة يتعالي مستغيثات‏.‏
‏(11)‏
طال الانتظار‏,‏ ركب رقم صديقه وهمس لنفسه‏:‏ هذا المعتوه‏,‏ يبدو أنه اندس في أحد بيوت اللذة هنا‏!!.‏
اقترب صبي يرعي الغنم من الجسد المسجي‏,‏ شبه مخدر ناحية الرنين المتصاعد‏,‏ فتش الجيوب بسرعة وابتعد بغنيمته‏.‏ تفقد حافظة النقود‏,‏ دس الأوراق المالية في جيب قميصه ورمي ببقية محتوياتها بين النفايات‏.‏
وكأنما يخاطب أحدا وهو يبتعد عن بائعة الحريرة‏,‏ في اتجاه الحافلة القادمة‏:‏
سأحاول أن أجرب الاتصال به مرة أخري‏,‏ وإن لم يرد فسأعود من دونه قبل أن تتبخر المواصلات‏...‏ لا أعرف لم لا يرد هذا البائس‏!‏
تميز غيظا وصوت أنثوي رقيق يعلن‏:‏ الهاتف المتنقل الذي تطلبونه غير مشغل أو خارج التغطية‏.‏ الرجاء‏,‏ إعادة النداء لاحقا‏.‏
أطفأ هاتفه‏,‏ دسه في جيبه في حنق‏,‏ وأشار بيده إلي سائق سيارة أجرة تتأهب للانطلاق‏,‏ وهو يسرع في خطواته‏.‏
‏*‏ كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.