للمدن عطر يشبه عطور البشر ولكل مدينة ملامح والمدن العريقة تحافظ على ملامحها ولا تقبل أن تعبث فيها عمليات التجميل؛ لأنها كثيرًا ما تشوه كل شىء.. وللمدن علامات تميزها قد تكون مباني عتيقة وقد تكون أنهارًا عبرت مئات بل آلاف السنين.. وفي أحيان كثيرة تتحول المدن إلى أرواح مثل أرواح البشر.. وقد تتوحد المدن مع سكانها وتصبح كيانًا واحدًا ما بين الحجر والبشر سواء كانوا موتى أو أحياءً.. والمدن العريقة تضع الموتى قبل الأحياء وقد سكن قدماء المصريين قبورا أكثر جلالا من القصور وهناك فرق كبير بين مدن أسيادها البشر وأخري لا تعرف قيمة البشر ولا الحجر.. منذ سنوات حاول تجار العقارات في باريس إنشاء عدد من الأبراج السكنية وناطحات السحاب وخرج المثقفون وتجمعوا أمام قصر الإليزيه وخرج إليهم يومها الرئيس جيسكار ديستان وقالوا له إن باريس غير كل المدن ولا مكان فيها للأبراج والكتل الخرسانية.. وبقيت باريس كما هي حيث التاريخ والجلال والحضارة ولهذا لم يكن غريبا أن يقول شاعرها العظيم فيكتور هوجو «باريس» عاصمة الكون وبقية الدنيا ضواحيها..أو يقول عميد الأدب العربي طه حسين إن باريس مدينة الجن والملائكة..وفي باريس لا يستطيع أحد أن يهدم جدارا ولا يقيم مثله وحين تشاهد باريس من الطائرة تشعر لأول لحظة انك في باريس لأنه لا شىء يشبهها.. قلت في البداية إن المدن ليست أحجارا ولكنها أرواح بما جمعت من البشر والذكريات والأحداث والأماكن.. والشعوب العريقة تعرف قيمة الناس والأحجار والأحياء والموتى وويل لشعب أذل الأحياء فيه واستباح الموتى.. قلت إن المدن أرواح مثل أرواح البشر تحس وتعاني وتتألم وفي أحجارها أنفاس أحباب رحلوا ونبضات قلوب أحبت هذا التراب وتوحدت معه وذابت فيه وهناك فرق بين مدن صنعت التاريخ ومدن يصنعها السيراميك.. في الأماكن عطر الزمن وهو أغلي ما تملك الشعوب ولكل مدينة ذكريات وهي لا تشتري ولا تباع لأنها كنز لا يعوض.. الأرض ليست ملك جيل يستبيح الصبح في أرجائها ويبيع فيها ما يبيع وليس يسأله أحد ستجيء أجيال تحاسبنا وتصرخ في ظلام قبورنا لم تتركوا شيئا لنا لم تتركوا شيئا لنا..