د. سليمان عبدالمنعم ثلاثة مشاهد بارزة فى مناقشات مجلس الأمن حول قضية سد النهضة يوم الاثنين الماضي. يضم المشهد الأول مداخلات الدول الأعضاء فى المجلس، وقد اتسمت إجمالا بلغة دبلوماسية لم تشأ الاقتراب من مقطع النزاع و حقوق مصر صاحبة الشكوي، حتى من جانب ممثل تونس العربية التى يرأسها أستاذ قانون مفوّه أعطى فى زيارته الأخيرة لفرنسا أمام الرئيس الفرنسى مداخلة بليغة عن الفارق بين الشرعية والمشروعية لدى فقيه فرنسا الكبير جورج فيدل وكان يمكن لشقيقنا التونسى أن يستحضرها فى النقاش لأنها تفرقة كفيلة برد المغالطات الإثيوبية إلى صوابها القانوني. أما مداخلات ممثلى الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وإندونيسيا فكانت أكثر إدراكا للمماطلات الإثيوبية فدعت بوضوح لعدم اتخاذ أى إجراءات أحادية بالبدء فى ملء السد وتشغيله قبل إبرام اتفاق. وبالعموم فقد كانت هذه مجرد جلسة تشاورية لم يكن متوقعا أن تنتهى بإصدار توصية لكن أهميتها أنها أقرت باختصاص مجلس الأمن فى بحث أزمة السد، وأرادت أن تفسح الفرصة لوساطة الاتحاد الإفريقى الذى كان قد دخل على خط الأزمة فجأة قبل أيام معدودة من انعقاد جلسة مجلس الأمن . المشهد الثانى البارز فى اجتماع مجلس الأمن كان مداخلة وزير الخارجية المصرى سامح شكرى والتى بدت أشبه بمرافعة قانونية وسياسية ودبلوماسية رفيعة المستوى وضعت الدبلوماسية المصرية بلا مبالغة فى مصاف دبلوماسيات الدول الكبري. فالمداخلة أظهرت بهدوء وذكاء ورصانة قوة المطالب والحقوق المصرية فى قضية السد الإثيوبي، وحينما اقتضت الحاجة استخدم السيد سامح شكرى كلمات حاسمة وجريئة لكن دقيقة ومدروسة فرضها تسلسل منطق مداخلته لا سيّما حين عاد فطلب الكلمة ثانية بعد محاولة ممثل إثيوبيا أن ينفرد لنفسه بترك الانطباع الأخير قبل انفضاض الجلسة. أما المشهد الثالث، موضوع هذه المقالة، فهو مداخلة ممثل إثيوبيا والتى لا يناسبها سوى وصفها بأنها كانت فى حقيقتها توثيقا بطريق البث المباشر على الهواء فى جلسة أممية للمغالطات و سوء النيّة الإثيوبية المستمرة منذ سنين. وهى مغالطات زادت من انكشاف موقف إثيوبيا أمام العالم بقدر ما أكدت قوة ومشروعية الموقف المصري. ولعلّ أهم دلالة لانعقاد مجلس الأمن أنه لم يعبأ باعتراض إثيوبيا وتصرفها كدولة مارقة خارجة على القانون. اضطرت إثيوبيا أن تبتلع مرغمةً كل محاولاتها السابقة برفض أى وساطة دولية. ففى مرة أولى ذهب المفاوض الإثيوبى مرغما إلى واشنطن آخر العام الماضى لمفاوضات برعاية أمريكية وحضور ممثلى البنك الدولي، ثم سرعان ما راوغ وتملص فى اللحظات الأخيرة من التوقيع على الاتفاق الذى كان يفترض إعلانه فى فبراير الماضي. ومرةً ثانية حين ظل يماطل ويرفض حتى مجرد رفع الأمر إلى رؤساء حكومات دول إعلان المبادئ إثر فشل المفاوضات الأخيرة التى دعا إليها السودان منذ أسابيع، ثم قبلت إثيوبيا فجأة مشاركة الاتحاد الإفريقى حينما أدركت أن مجلس الأمن قد وافق على عقد اجتماع لبحث الطلب المصرى فى محاولة مكشوفة لاستباق خطوة مجلس الأمن وتفويت فرصة انعقاده. وأخيرا اضطر الجانب الإثيوبى مرغما إلى المشاركة فى اجتماع مجلس الأمن الأخير. هكذا وبعد خمس سنوات كاملة سقط العناد الإثيوبى بالتمترس خلف نص المادة 10 من إعلان المبادئ الذى كان يعتقد أنها ستحميه من الوساطة الدولية. وثّق المندوب الإثيوبى سوء نيته أمام العالم أجمع حين استهل مداخلته برفض تدخل مجلس الأمن ناسيا فى غمرة دهشته المصطنعة أن إثيوبيا لو كانت صاحبة حق فى قضية السد كما تزعم ليل نهار لما كانت تخشى شيئا من انعقاد مجلس الأمن. بل لعلّه كان يجدر بإثيوبيا لو صدقت أن ترحب بجلسة أممية تعرض فيها على العالم حججها وتؤكد أحقيتها بدلا من هذا الفزع الذى أصابها ولا يزال من تدويل نزاع هو بالضرورة نزاع دولى حول نهر دولى تحكمه اتفاقيات دولية! الجانب الإثيوبى جهل أو تجاهل كليةً فى اعتراضه على تدخل مجلس الأمن دور وصلاحيات المجلس وفقا لنصوص المواد 33 إلى 38 من الفصل السادس من ميثاق الأممالمتحدة. هذه المواد تنظم بوضوح ثلاثة خيارات متدرجة فى اللجوء إلى مجلس الأمن لحل المنازعات التى تعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر. أولها لجوء أطراف النزاع إلى المفاوضات وصور الوساطة والتسوية المختلفة، والثانى هو اللجوء إلى الوكالات والمنظمات الإقليمية، ولمجلس الأمن دعوة الأطراف إلى تسوية منازعتهم وفقا للخيارين السابقين إذا رأى ضرورة لذلك. أما الخيار الثالث فيسلكه مجلس الأمن بنفسه حال حدوث نزاع أو موقف يعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر فيحق له أن يوصى بالإجراءات المناسبة بما فى ذلك عرض النزاع أمام محكمة العدل الدولية. أما إذا انتقل النزاع من تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر إلى تهديد الإخلال بهما أو العدوان فإنه يحق لمجلس الأمن إصدار توصيات أو قرارات ملزمة قد تصل لحد استخدام القوة لغرض تطبيقها بموجب أحكام الفصل السابع الشهير من الميثاق. حفلت مداخلة المندوب الإثيوبى بالعديد من المغالطات/ السقطات مثل قوله إنه بوسع مصر تحلية مياه البحر وكأنه يرى فى نهر النيل نهرا إثيوبيا لا دوليا، وكذلك مقولته الغريبة التى تستعصى على الفهم والمنطق أن مصر طالما استفادت تاريخيا من مياه النيل دون أن ينتبه أن مصر دولة مصب وليست دولة منبع ولا حتى دولة مرور! والحقيقة أن هذه المقولة التى تكرّرت من قبل تُظهر الجانب الإثيوبى بصورة مشوّشة وتنال بشدة من جدية ومنطقية وقانونية رؤيته لقضية السد! لا يمكن لمغالطات قانونية فجّة سوى أن تنتج هذا الارتباك الذهني. ولأن المندوب الإثيوبى يدرك انكشاف المغالطات الأخرى المتعلقة بإنكار حقوق مصر التاريخية والمقرّرة أصلا فى اتفاقيات كانت إثيوبيا طرفا فيها فإنه لم يشأ ذكرها فى مداخلته وفضّل تجاهلها بعد أن فندها الوزير سامح شكرى وظل المندوب الإثيوبى يلف ويدور بكلمات عاطفية عن حق إثيوبيا فى التنمية التى بدأ وزير الخارجية المصرى مداخلته بتأكيدها، وبالرغم من آراء الخبراء والفنيين بأن المواصفات التى بُنى بها السد تؤكد أنه سد لتخزين المياه بأكثر مما هو سد لتوليد الكهرباء كما تزعم إثيوبيا. ولأن الهدف الحقيقى هو تخزين المياه فى دولة تعتمد فيها الزراعة بشكل أساسى على الأمطار لا يتبقى ثمة هدف آخر سوى تسليع المياه بعد أن يتم فرض الأمر الواقع. فى النهاية ثمة تحليل يرى من منظور براجماتى أنه أفضل لمصر إغراء إثيوبيا بفكرة تبادل المنافع لأنه انطلاقا من سياسة «هات وخد» ليس معقولا أن نطالبها بالتزامات دون أن نعطى لها أى مقابل. هذه رؤية تعكس نهجا واقعيا لتقييم النزاع بين مصر وإثيوبيا لكن المشكلة أن المواءمة السياسية فيها تطغى على الأحقية القانونية التى تمثل مشروعية وقوة الموقف المصري. فالطبيعى أن تكون دولة المنبع فى الأنهار الدولية محمّلة بالتزام عدم الإضرار بدول المرور والمصب، والالتزام هنا لا ينشأ بالضرورة عن اتفاقية عقدية لكى تقرره لأنه ناشئ ابتداء ومباشرة عن واقعة مادية هى بناء السد تتحمل أضرارها ومخاطرها دولة المنبع إذا ما ترتب عليها الإخلال بمبدأ الانتفاع المعقول والمنصف بمياه النهر الدولي، وهو ليس مبدأ نظريا مجردا بل له موجهات ومعايير وضوابط يتوجب استخلاصها من مقارنة الظروف والاحتياجات المائية والاجتماعية والسكانية والبيئية فى الدول المتشاطئة، وكل هذا منصوص عليه بالتفصيل فى المادة 6 من اتفاقية قانون الأنهار الدولية الشهيرة. بالطبع هناك اتفاقيات عقدية لكن هناك أيضا قواعد قانون دولى ترقى لاعتبارها مبادئ عليا للنظام العام الدولى حينما يتعلق الأمر بحق وجودى يهدده الإضرار والتعسف فى استخدام الحق. مفيدٌ ومطلوب دعم تسوية نزاع سد النهضة بكل صور بناء الثقة والتعاون وتبادل المنافع بين مصر وإثيوبيا مثل ما أُعلن عنه من توجه لمشروع ربط كهربائى بين الدولتين. لكن ذلك يجب أن يتم من منطلق أن يكون التعاون وسيلة لبناء الثقة وليس مكافأة من صاحب الحق لمن يضر بحقه وإلا فإننا نشجع من حيث لا ندرى الطرف الأنانى المغالط المارق على غيه وإنكاره حقوقا مصرية كفلتها الطبيعة والاتفاقيات الدولية ومبادئ النظام العام الدولي. نقلا عن صحيفة الأهرام