د. أحمد عاطف دره ما إن بلغ جيل كامل سن الرشد على وسائل التواصل الاجتماعى ، فقد بدأت العلاقات الافتراضية تحل محل الاتصالات البشرية الواقعية بشكل عنيف. ووصل ذلك بالصين إلى حد لا يمكن تصوره عندما أصبح البث المباشر عبر الانترنت أكثر وسائل الترفيه شعبية لمئات الملايين. ويقدم الفيلم الصينى جمهورية الرغبة الشعبية رحلة استثنائية فى هذا الكون الرقمى، حيث يكسب مضيفين شبابا ما يصل إلى 150 ألف دولار شهريًا لتقديم فقرات ساذجة أو برامج حوارية للجماهير الحية والتفاعلية. من بين هؤلاء المعجبين الصينيين فقراء جدا وأغنياء للغاية، والاخيرون هم الذين يشترون كل ليلة هدايا افتراضية باهظة لمضيفيهم المفضلين حيث تذهب أربعون بالمائة من الأموال المدفوعة إلى المضيفين والباقى للموقع او التطبيق. يتابع الفيلم ثلاث شخصيات فى أثناء بحثهم عن الشهرة والثروة والتواصل البشرى فى البث المباشر. نلتقى أيضًا بعائلاتهم وأولئك الذين يديرون المواهب عبر الإنترنت وأولئك الذين يملكون المال ويتحكمون فى مصير هذه المواهب وراء الكواليس . تتركز القصة على المسابقة السنوية الغريبة على الإنترنت بين المضيفين، حيث يمكن للأغنياء شراء عدد غير محدود من الأصوات لمضيفيهم المفضلين. هناك تدرك شخصياتنا أن المال وحده يتحكم فى كل خيوط اللعبة فى هذا الكون الافتراضى ، وأن التواصل البشرى والسعادة الشخصية يظلان فى منتهى الصعوبة على الإنترنت كما هو الحال فى العالم الحقيقى. ليس من المستغرب أن تترسخ ثقافة المشاهير الافتراضية فى بلد مثل الصين ، التى يبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة. فقد دفع الشعور بالوحدة نصف مليار فرد من مشتركى تلك التطبيقات ليصبحوا مراقبين لهؤلاء المضيفين الذين يبثون حياتهم مباشرة على الإنترنت. أو كما قال أحد المتابعين: فى الحياة الواقعية ، قد تكون الأمور بعيدة عن متناول يديك، لكن عبر الإنترنت ، كل الاحلام ممكنة. أعطت أماكن التجمع الافتراضية على 400 تطبيق مثل واى واى وبيجو وغيرها أى شخص الفرصة ليصبح نجمًا للجمهور المعجب. يتتبع الفيلم الصعود النيزكى والانهيار السريع لنجمين من هذا القبيل. شين مان، 21 سنة، ممرضة تعانى الانهيار الاسرى تحولت إلى مضيف ويب تتغازل وتغنى وتقوم بأشياء اخرى سنعرفها لاحقا. وبيج لى، 24 عامًا، يمثل كل شخص يعانى زيادة الوزن تزوجته احدى مديرات تطبيق وى وى وتتطلق منه عندما يخسر المسابقة. إنهم مثل الاراجوزات الذين يفعلون أى شيء تافه يطلبه متفرجوهم ممن يدفعون لهم المال حيث لا يلزم موهبة حقيقية. لكن هذا لا يمنع الآلاف من المعجبين المخلصين من التدفق إلى أبوابهم الافتراضية. يمنح المستفيدون الأغنياء للمضيفين هدايا مفضلة مقابل صيحات على الهواء من الفقراء، وأحيانًا وهذا هو الأخطر تقام علاقات جنسية بين المضيفين وبين دافعى الاموال فى اللعبة.اى انها نخاسة فى صورة حديثة اكثر تشويقا من البيع المباشر لتلك الخدمات الممنوعة. اصبح هؤلاء المضيفون اثرياء بدورهم لان الواحد منهم يربح ما يصل إلى مائتى الف دولار فى الأسبوع ، مع حصول الوكالة على نصف الأرباح. بشكل عام ، كان من المتوقع أن تحقق تلك الصناعة إيرادات بقيمة 6 مليارات دولار فى عام 2020..تلك التطبيقات والمنصات أكثر خطورة من تويتر وانستجرام بسبب عناصر التفاعل الملونة وتأثيرات الجرافيك التى تجمل شكل المضيفين وتعطى انطباعات بالاشباع والتنافسية وصرف الاموال الوهمية ومشاهدة الاثرياء ينفقون بهيستريا والاعجاب بنماذج مشوهة من خلال لعبة اشبه بالتنويم المغناطيسى لكن حميمة وثرثارة. فالبطلة ليست صاحبة موهبة نادرة أو جمال مدهش، ورغم ذلك انفجرت شعبيتها المصطنعة وكرستها كوثن لجيل بائس من الشباب والشابات الذين يستميتون من اجل تصديق أحلامهم. مثل يونج، وهو من متابعى تطبيق واى واى، ويعمل عامل تقديم مشروبات. إنه فى المستوى السفلى من تلك اللعبة البائسة والذى يبدو سعيدا بانفاق امواله القليلة عليها. لكن الشرير الاكبر فى هذا الفيلم هم الوكالات ذات الثروة الكبيرة التى تصنع هؤلاء النجوم ثم تأخذ اموالهم لاحقا ثم تخلق نجوما جددا يرضون فضول المتابعين الذين يصيبهم الملل.ان هذه التطبيقات هى نفسها التى حاولت فتاة كلية الآثار المصرية المقبوض عليها حاليا اغراء الفتيات للاشتراك فيها مقابل أموال تصل الى 36 الف دولار فى الشهر كما اعلنت. وهى طبعا مجرد وسيط لان الوكالات وملاكها اباطرة. هذا فيلم كئيب عن تحول البشرية السريع جدا من الحقيقى إلى المساحات الافتراضية لتصبح واحدة من أكبر الهجرات فى القرن الحادى والعشرين. هجرة مأساوية ومرعبة كبوابة مظلمة فى مستقبلنا الجماعى.