أثارت مقالة الأسبوع الماضى ردود فعل كثيرة زاد منها تعليق الأستاذ سليمان جودة عليها يومى الثلاثاء والأربعاء الماضيين فى عاموده اليومى الشهير بصحيفة المصرى اليوم. وقد طلب منى أو بالأحرى أبلغ رسالة من وزير التعليم العالى بتقديم البيّنة على ما تضمنته المقالة بشأن تطبيق ما يُعرف بقواعد الرأفة على طلاب كلية حقوق الإسكندرية وما ترتّب على ذلك من نتائج بالفعل لا يصدقها عقل. ولا أعتقد أن المطلوب أو المجدى الآن هو الدخول فى محاججات ومقارعات ليس هنا بالتأكيد مكانها. الأكثر أهمية وجدوى أن نستخلص بهدوء وتواضع الدروس المستفادة مما جرى إذا كنا حقاً نريد الإصلاح. فلا يُعقل أن نكتفى بمشاهدة تراجع صرح أعرق وأنجح جامعاتنا فى الوقت الذى يشهد فيه التعليم الأساسى قبل الجامعى فى بلادنا أكبر ثورة تعليمية حقيقية فى تاريخنا الحديث. ولو أننى كنت مكان المسؤول عن التعليم العالى لقمت ببساطة بتشكيل لجنة لفحص القرارالإدارى رقم 15 لسنة 2017 فى جامعة الإسكندرية باعتباره سبب ومصدر كل النتائج والتداعيات المثيرة للجدل، وآخرها حكم محكمة القضاء الإدارى بالاسكندرية فى الدعوى رقم 23332 لسنة 2018 إعمالاً لنص هذا القرار والذى ترتب عليه إنجاح طالبة حاصلة على (صفر) من عشرين!! ومعرفة من أصدره، ومن طبقه، ومن توسع فى تفسيره. لا يعقل أن يكون بلا صاحب، القرار الذى أجاز وقنّن منح درجات رأفة فى المقررات التى تقل فيها نسبة النجاح عن 70% من المتوسط العام لإنجاح أعداد كبيرة من الطلاب حصلوا ليس فقط على درجتين أو أربع درجات من عشرين بل لطلاب حصلوا على (نصف درجة من 20) بموجب تفسير (أكروباتي) كان يمنحهم الرأفة على مرحلتين الأولى تسمى الرفع حتى ثمانى درجات، والثانية تسمى الرأفة لرفع ال 8 إلى 10 للوصول إلى الحد الأدنى للنجاح!! لو كنت مكان المسؤول عن التعليم العالى لطلبت ببساطة وبحكم صلاحياتى من الجامعة المعنية معرفة بأى معيار أو منطق تم منح درجات الرأفة لعموم الطلاب بحيث أن من كان حاصلاً على 18 درجة من 20 يحصل أيضاً على (بونس) فتضاف إليه ست درجات للرأفة ليصبح مجموعه 24 درجة من 20. فى أى جامعة فى الكرة الأرضية يحدث هذا الذى حدث حتى نتائج امتحانات يونيو 2018. لست أود بالطبع التطرق إلى الأبعاد الشخصية التى غلّفت مثل هذه القرارات، وكانت وراء التوسع فى تفسيرها، ولن أفعل هذا أبداً. فما يهمنى دائماً هو القضية وليس الأشخاص، وما يجب التوقف عنده من أجل صالح التعليم والمجتمع ودور الأهرام التنويرى والوطنى هو استخلاص الدروس المستفادة مما جرى. الدرس الأول هو أن هذه القرارات غير الرشيدة بإنجاح الطلاب لن نحصد منها سوى جيل لا يؤمن بمثابرة أو اجتهاد أو اتقان لعمل أو مهنة. لا يعيبنا أبدا أن نراجع أنفسنا وننتقد ونصوّب ما يستدعى التصويب، فلا وجود لمدينة فاضلة. أما التزام الصمت والتجاهل فى مواجهة حقائق وأوضاع كُتب عنها مراراً فأمر لا يليق. آن أوان تغيير نمط تفكير إدارى يعتبر ويفتخر أصحابه أن أفضل وأذكى مواجهة لحل مشكلة هى تجاهلها والسكوت عنها حتى يطويها النسيان، وربما لو تصدينا لهذه الأوضاع وعالجناها من قبل لما تراكمت وتعقدت واستفحلت إلى هذا الحد، ومن بينها أزمة نظامنا التعليمى وغيره من الأزمات. ماذا يضير وزير التعليم العالى أو رئيس جامعة الإسكندرية لو أنهما اعترفا بأنه كانت هناك بالفعل قرارات غير صائبة تم العدول عنها منذ أشهر بعد اكتشاف تطبيقاتها المنفلتة التى لا يقرها عقل أو منطق؟ هذا يرفع من شأنهما ولا ينقص منه. الدرس الثانى هو ضرورة البدء فورا بإجراء مراجعة لمظاهر موازية أخرى من الانفلات الأكاديمى فى منح درجات الدكتوراه والماجستير شبه الصورية فى بعض كليات الجامعة، والتى وصلت لكثرتها حد أن يُعهد إلى الطلاب أنفسهم بكتابة تقارير الصلاحية لأنفسهم! أليست تقارير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء تعد بيّنة مقبولة بشأن منح 86 ألف درجة دكتوراه وماجستير ودبلوم فى جامعة الإسكندرية خلال خمس سنوات فقط؟ لن يحتاج المسؤول عن التعليم العالى إلا لمجرد الإطلاع على محضر الاجتماع الشهرى لمجلس إحدى كليات الجامعة فى أى سنة تعجبه من 2012 حتى الآن ليعرف (بالبيّنة) كم عدد رسالات الدكتوراه والماجستير التى يتم تسجيلها أو منحها شهريا والتى تفوق قدرة أى كلية أو كائن بشرى للإشراف الفعلى عليها كما توجب أصول وأخلاقيات البحث العلمى. الدرس الثالث أن وجود سلبيات مؤسسية لا ينتقص بالضرورة من المناقب الأخلاقية ولا الكفاءة العلمية لدى الكثير من القيادات الجامعية والمسؤولين عن التعليم العالى فى مصر. ففيم تكمن المشكلة إذن؟ المشكلة هى أننا نفتقد الروح الإصلاحية الحقيقية فيما توجبه من التصدى الشجاع والغيور للسلبيات والتناقضات ومظاهر الخلل فى نظام التعليم العالى، ونسارع بديلاً عن ذلك إلى النفى الفورى بشكل نمطى أو التشكيك فى أى خطاب نقدى مؤسساتى. ثم إن وزير التعليم العالى ليس مسؤولاً بحكم استقلال الجامعات عن أى قرار يخص جامعة بعينها ما دام أنه لم يعرض على المجلس الأعلى للجامعات، وبالتالى كان عليه بكل بساطة أن يتوجه بالسؤال إلى الجامعة المعنيّة طالبا منها صورة القرار رقم 15 لسنة 2017، والحكم القضائى، ومحضر اجتماع لجنة الممتحنين فى كلية الحقوق الذى اعترض عليه بعض الأساتذة الغيورين على مصلحة العملية التعليمية وسمعة الكلية. هنا (البينّة) التى يبحث عنها السيد الوزير أعانه الله وأعاننى. لمزيد من مقالات د. سليمان عبدالمنعم