حين تعلن دولةٌ خليجية أنها لن تعترف لطلابها بدرجة الدكتوراه التى يحصلون عليها من الجامعات المصرية وتضع قائمة بعدة دول من بينها مصر لا يوصى بتسجيل الدكتوراه فى جامعاتها.. وحين يحدث ذلك للمرة الثانية عقب قيام دولة خليجية أخرى فى العام الماضى بمنع ابتعاث طلابها لتسجيل درجة الدكتوراه فى بعض التخصصات العلمية .. حين يحدث ذلك فإننى أفترض أن كثيرين فى مصر (أشخاصاً وجهات ) مدعوون للتحقق من هذا الأمر، وما ومن الذى أوصلنا إليه ؟ أفترض أن هناك أشخاصاً وجهات معنيةٌ بالغش الذى يصم منح أرفع الدرجات العلمية فى بلادنا. هذا الغش الذى يحدث فى ظل لوائح وقرارات إدارية تشبه الأكروبات التى يؤديها لاعبو السيرك. قسوة التعبير تؤلمنى لكن هل هناك ما يؤلم أكثر من أحوال التعليم فى مصر ؟ ليس هناك أقل من كلمة أكروبات إدارية لوصف عملية منح درجات رأفة لطلاب جامعيين أدت إلى حصولهم على أكثر من عشرين درجة من عشرين بحجة تحقيق المساواة بين عموم الراسبين والناجحين ؟! ليس هناك أقل من كلمة أكروبات إدارية لتبرير نجاح (أو بالأحرى إنجاح) طلاب حصلوا على درجتين فقط من عشرين درجة ؟! لم يتحرك شخص أو جهة للتحقق من هذا الذى ذكرته فى مقالة الأسبوع الماضي. نحن فى ظل هذا الواقع الأكاديمى أمام أحد فرضين : أولهما أن هناك بالفعل لوائح وقرارات تسمح بهذا الغش العلمى (الناعم) فيجب معرفة من أصدرها ووضع عليها توقيعه الثمين، فإذا لم يعد هذا الشخص موجوداً فإن الذين طبقوا هذه القرارات/ الأكروبات ودافعوا عنها سواء لمصلحة شخصية (وهو افتراض قائم) أم حتى لغير مصلحة شخصية يجب تنحيتهم من مناصبهم. الفرض الثانى إذا لم يكن هناك لوائح وقرارات تسمح بهذه الأكروبات لكن البعض ألصقها باللوائح أو نسبها لمجلس جامعة الإسكندرية فإن القانون هنا يتكفل بتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها. لم يكن غريباً إذن أن تقودنا هذه الأوضاع التى أصبحت مقبولة بحكم الأمر الواقع إلى استكمال العبث العلمى نفسه ولكن فى مرحلة الدراسات العليا، وهى مرحلة تندرج (أو هكذا يُفترض) تحت مفهوم البحث العلمى وليس مفهوم العملية التعليمية التى تتم فى قسم الليسانس أو البكالوريوس. مرة أخرى لست فى وارد التعميم لأن واقع الالتزام العلمى واحترام المعايير يتفاوت من كلية إلى أخرى، وفى داخل الكلية الواحدة يختلف من قسم علمى إلى آخر. لكن المؤكد أن ظاهرة الانفلات فى منح درجتى الدكتوراه والماجستير تكشف فى جميع مراحلها المختلفة عن نوع من أنواع الغش (الناعم) الذى يختلف عن الغش (الخشن) لكنه يبقى فى كل الأحوال غشاً لا يُنسب فقط إلى الباحث بل يُنسب أبضاً إلى من تواطأ معه ووافقه وأجازه . جزءٌ من المأساة وربما الحيرة فى هذه الظاهرة أن الجامعات مستقلة أكاديمياً وعلمياً فلا يملك وزير التعليم العالى مثلاً ولا رئيس الجامعة التدخل فى التقييم العلمى لأحد الأساتذة بشأن أحقية حصول باحث على درجة الدكتوراه . بالطبع ثمة حالات يتم فيها اكتشاف غش مادى فاضح مثل نقل أجزاء من رسالات أو مؤلفات علمية أو سرقة أعمال بأكملها، هنا قد يتصدى بعض الغيورين على الشأن العلمى داخل المجالس الأكاديمية ، وقد يؤدى ذلك بالفعل إلى حجب منح الدرجة العلمية . لكن حتى فى ظل هذا الفرض (على ندرته) فإن الأمر لا يخلو من وساطات تحاول تقديم الاعتبارات الانسانية على المقتضيات العلمية، وهو خلط يضر بأكثر مما ينفع، ويضرب فى مقتل مبادئ النزاهة والجدارة والإنصاف ، بل اننا بذلك نخالف مبدأ تكافؤ الفرص حين نضع على قدم المساواة الباحثين الجادين والمُجدين (وهم موجودون فى جامعاتنا وأغلبهم من المعيدين) وبين الباحثين الغشاشين أو الهزليين غير الجديرين بأرفع درجة علمية تمنحها الجامعات المصرية. مبعث المأساة والحيرة إذن فى هذه الظاهرة الخطيرة أن للغش والصورية فى منح درجتى الدكتوراه والماجستير صوراً وأشكالاً شتى مقنّعة لا يدركها سوى المشرف الذى وافق على صلاحية الرسالة. ثم من الذى يستطيع من عموم الأساتذة أعضاء المجالس العلمية أن يفحص رسالة علمية لاكتشاف ما فيها من غش أو صورية إذا كان هناك نحو ثلاثين رسالة دكتوراه أو ماجستير تعرض فى الاجتماع الواحد للمجلس العلمى كل شهر ؟ وإذا كنا اليوم نعانى من ظاهرة تضخم الجهاز الإدارى فى الدولة سواء فيما تلتهمه من مرتبات وأجور الموازنة العامة للدولة، أم فيما تمثله هذه العمالة الفائضة من بطالة مقنّعة وتعويق لسير العمل .. أقول إذا كنا نعانى من ذلك فإننا نعيد المعاناة مرة أخرى بصنع أيدينا بمنح درجات علمية رفيعة فيها من الغش والركاكة والصورية ما يجردها من أى قيمة علمية، وبدون الالتزام بمتطلبات الإشراف العلمى النزيه والجاد لتكون النتيجة هى هذه الأعداد الغفيرة من الحاصلين على هذه الدرجات العلمية. يتجلّى وبالأرقام الموثّقة المدى الذى بلغته هذه الظاهرة . فقد بلغ عدد الحاصلين على درجتى الدكتوراه والماجستير وفقاً لتقارير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء 161623 (مائة وواحد وستون ألفاً وستمائة وثلاثة وعشرون) خلال الفترة الزمنية 2000إلى 2013 . وإذا أضفنا إلى ذلك أعداد الحاصلين على دبلومات الدراسات العليا المتخصصة فإن العدد يقفز خلال الفترة الزمنية نفسها إلى 655502 ( ستمائة وخمسة وخمسون ألفاً وخمسمائة وإثنان) أى أن العدد يناهز الثلاثة أرباع (3/4 ) مليون بإضافة الأعوام الثلاثة الأخيرة. السؤال الذى لا يجب أن نهرب منه هنا هو هل تقدم البحث العلمى فى مصر بما يتناسب مع الأعداد الهائلة للحاصلين على هذه الدرجات العلمية الرفيعة ؟ هل يعبر هذا العدد الذى يتجاوز واقع البحث العلمى ومعاييره عن طفرة علمية بحثية حقيقية شهدتها مصر؟ هذا سؤال على وزير التعليم العالى الإجابة عليه. لست أود الخوض هنا فى الملابسات والتفاصيل والحكايات التى تروى عن منح هذه الدرجات العلمية، فما يهمنى وما يهمنا جميعاً هو القضية وليس الأشخاص. لكنى أنتظر من وزير التعليم العالى ورئيس جامعة الإسكندرية الاهتمام بهذه الظاهرة، على الأقل لنعرف ما هى الأقسام العلمية التى قدمت لمصر وللبحث العلمى وللإنسانية كل هذه المنجزات والإضافات العلمية دون أن ندرى! أطالب وزير التعليم العالى ورئيس جامعة الإسكندرية بالتحقق مما إذا كانت بعض الدول العربية قد امتنعت عن ابتعاث طلابها إلى مصر للحصول على الدكتوراه فى بعض التخصصات أو بعض الجامعات أم لا ؟ وإذا كان هذا صحيحاً فما الأسباب التى أوصلتنا إلى هذا الدرك؟ هل تدنينا وهانت علينا سمعتنا العلمية والأكاديمية إلى هذا الحد ؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم