عملت بالصحافة ما يقرب من العقود الثلاثة خلال إقامتى بفرنسا ومن خلال تدفق المعلومات والتسريبات ازداد يقينى بأننا فعلا شعب يستحيل فك شفرته، حيث لا يزال مساء التاسع من يونيو 1967 لغزا محيرا لأعتى خبراء العلوم البشرية فى مختلف المجالات.. لقد كنت فى مصر إبان هزيمة يونيو وأنا أتنقل بين إذاعتى صوت امريكا وتل ابيب، وأسمع نفس الكلام وكأن المذيع هو نفسه فى المحطتين.. كنت ظهر ذاك اليوم، أنزع صور جمال عبد الناصر من على الجدران وأمزقها، وبعد الاستماع الى الاذاعتين توجهت الى زوجى الكاتب الراحل على الشوباشى وقلت له إن واشنطن وتل أبيب اعدائى وهما يهاجمان عبد الناصر، فإذن هو حبيبي.. نظر الى على والدموع تلمع فى عينيه وقال: ان نفس سيناريو محمد على يتكرر.. وكانت تنتابنى ثورة عارمة وانا أتابع سموم الاذاعتين ومحاولاتهما بأن: نفوق من غيبوبتنا وان نمشى جنب الحيطة، وأننا هُزمنا هزيمة لا خروج منها!.. وما ان أعلن عبد الناصر تنحيه الا وأسرعت باتجاه الخروج وعندما جذبنى على من ثوبى يسألنى اين أذهب أجبت بحسم لا مجال لمعارضته: الشارع.. ما يمشيش... نزلت ومعى زوجى باتجاه شارع طلعت حرب الذى كان على بعد خطوات وكأن الدنيا قد فرغت من الناس، ومرت دقائق معدودة، ثم بدأ التدفق بقوة، حتى خالجنى يقين بان الارض تُخرج ناسا وكذلك الجدران والسماء ونحن نحبس انفاسنا وهدير مدوٍ يزلزل الارض تحت أقدامنا: ناصر، ناصر... وتلا ذلك هتافات بمنزلة رسائل لأمريكا وكل حلفائها: مكتوب على قلوبنا، عبد الناصر محبوبنا، مكتوب على سلاحنا، عبد الناصر كفاحنا، ارفض ارفض يا زكريا، عبد الناصر مِية المية، أنور أنور يا سادات، احنا اخترنا جمال بالذات, ومن أروع ما صدر من اعماق قلوبنا ما وجهناه للزعيم: إحنا الشعب أصحاب الحق، لأول مرة نقول لك لأ...ولم نعد الى منازلنا إلا عندما تأكدنا أننا هزمنا الهزيمة!. ولا يستطيع ان ينكر أحد ان مساء التاسع من يونيو كان اول خطوة فى حرب الاستنزاف ومن ثم أول خطوة فى طريق العبور.. فمن الواضح ان ذلك المساء أفسد المخطط تماما وانتابت الحيرة واضعوه فأخذوا يراجعون نظرياتهم المستقرة، اى ان هزيمة عسكرية ساحقة، تعنى سقوط النظام ورحيل القائد، فكيف اذن هزم شعب مصر هزيمة عسكرية رهيبة بعد ساعات من وقوعها ودون أسلحة تقليدية، انما بسلاح يستعصى عليهم؟.. وخلال إقامتى فى فرنسا اطلعت على العديد من التحليلات التى كانت فى معظمها تساؤلات عن كيفية سقوط نظرية امريكا بان رحيل عبد الناصر كان مؤكدا، وان الشعب المصرى سيقبل بأشكول فى قصر العروبة، ويتضح جليا ان قدرة شعب مصر على هزيمة الهزيمة جعل العدو يبحث عن سبل اخرى، فأطلق كل أسلحة التشويه والتشكيك والافتراء والكذب، للنيل من ثورة يوليو التى غيرت مفاهيم ونظريات كانت شبه مؤكدة، بشن حملات شرسة ودون اى تورع ولنحو نصف قرن بعد رحيل الرجل الذى أحبه، ليس المصريين فحسب، بل والعرب وكذلك كل شعوب العالم الثالث، وقد ظل مثلا وقدوة مما يؤكد انهم ما زالوا يتجرعون مرارة الهزيمة والتى فشلت كل أسلحتهم لعبورها حتى الآن.. ويكفى ان نتطلع الى بعض الصحف التى يخصص بعضها مقالات يومية للهجوم على ثورة يوليو وقائدها، والبرامج التليفزيونية والشهادات التى تؤكد مقالة الاستاذ الراحل محمد حسنين هيكل: لست من انصار الشجاعة الهائلة امام القبور والتى يقابلها نقص هائل فى الشجاعة امام القصور... وهو ما أكدته نبوءة الشاعر العربى السورى الكبير نزار قباني: تضيق قبور الميتين بمن بها، وفى كل يوم ،أنت، فى القبر تكبر. لمزيد من مقالات فريدة الشوباشى