هذا فى رأيى ومن واقع تجربتى، أقرب وصف للزعيم الخالد جمال عبدالناصر. وتبدأ حكايتى مع ثورة يوليو بإحدى أهم ذكرياتى، وهى زغرودة أمى رحمة الله عليها، عندما قررت الثورة إلغاء الألقاب..ولم أكن أفهم بالضبط معنى الألقاب، سوى أنها تعنى مثلا منعى من السير فوق رصيف بيت أحد الباشاوات فى مدينة حلوان. كنت أشعر بالقهر وأنا أتمرد على هذا المنع، فيلاحقنى أحد الحراس بعصاه وحمدًا لله أننى كنت أسرع منه فى الجرى.. وكانت ردة الفعل الأولى عندى أن مشيت وببطء شديد، فوق رصيف بيت الباشا وأنا أشعر برد اعتبار لإنسانيتى، رغم أننى كنت فى الرابعة عشرة من العمر. وكشف عبدالناصر عن انحيازه للغلابة، خاصة الفلاحين والعمال فتوالت الإجراءات التى نقلتهم إلى حياة كريمة، يكون التقدير فيها حسب ما يقدمه المرء من عمل والتزامه بالقيم والمعايير الأخلاقية. لا يبرح أذنى صوت عبدالناصر يوم تأميم قناة السويس وكذلك خطابه فى الأزهر الشريف إبان العدوان الثلاثى.. وأتوقف هنا عند نقطة أراها فى غاية الأهمية، فعندما أقسم عبدالناصر أننا لن نستسلم قائلا: لقد فُرض علينا القتال ولكن لن يوجد من يفرض علينا الاستسلام.. وبصوت جهورى أكد: سنقاتل..وفور انتهاء الخطاب انفجرت جميع أنابيب النفط من الظهران بالسعودية إلى طرابلس الغرب فى ليبيا. كان هذا الحادث الجلل الذى أصاب المعتدين وحلفاءهم فى المنطقة بالهلع، علامة فارقة فى التعجيل بعدوان يونيو 1967، فعبدالناصر لم يهدد ولم يكن محتلًا للدول النفطية، إنما كانت قوته تكمن فى حب الجماهير العربية له وإيمانهم بقيادته النزيهة. بعد انتصارنا فى بور سعيد، اقترنت بزوجى الكاتب والصحفى والمحامى الراحل على الشوباشى، وقبل مرور سنة على زواجنا تم اعتقاله لانتمائه إلى حزب يسارى سرى.. كان اعتقال على عاملًا هامًا فى ابتعادى عاطفيا عن عبدالناصر، لا سيما أن زوجى كان ممنوعًا من العمل منذ خروجه من السجن فى منتصف الستينيات. رزقنا بابننا نبيل فى نهاية عام 65، ثم حملت فى طفل ثان وكنت فى أوائل الشهر السابع عندما وقع العدوان، مساء التاسع من يونيو، ونحن فى انتظار كلمة عبدالناصر كنت أتنقل بين إذاعتى تل أبيب وصوت أمريكا، وشعرت وكأن نفس المذيع بالمحطتين، نفس الكراهية والغل، وصيحات الانتصار على الديكتاتور جمال عبدالناصر، التفت لعلى وأنا أقول له: إن أمريكا وإسرائيل أعدائى، وبما أن أعدائى يكرهونه إلى هذا الحد فهو إذن حبيبى..لن أنسى مشهد وجه على وعينيه المغرورقتين بالدموع وهو يقول لى نفس سيناريو محمد على بيتكرر. حان موعد الخطاب وأعلن عبدالناصر، أنه يتحمل المسئولية كاملة وأنه يتنحى عن الحكم..صرخت وأنا أعدو نحو باب الخروج، جذبنى على وهو يسألنى عن أين أذهب، صرخت بكل قوتى الشارع ما يمشيش! وكأننى اتخذت قرارًا، أيقنت بعد دقائق أنه كان قرارًا شعبيًا، حيث نزلت الملايين تهدر بأروع تحليل لعلاقة شعب بزعيم آمن به.. «مكتوب على قلوبنا عبدالناصر محبوبنا»، «مكتوب على سلاحنا عبدالناصر كفاحنا»، ولكن أروع هتاف كان «إحنا الشعب أصحاب الحق، لأول مرة نقول لك لأ». منذ صباح العاشر من يونيو، شعرت بفخر، بأننا هزمنا الهزيمة، حيث لم تحقق الهزيمة العسكرية ما توقعه المعتدون وكان مساء 9 يونيو فى رأيى، أول خطوة فى طريق حرب الاستنزاف المجيدة والعبور العظيم. أصبحت واحدة من الملايين التى تضع عبدالناصر فى مكانة خاصة واكتشفت صحة مقولته «إذا لقيتوا أمريكا راضية عنى، اعرفوا أنى ماشى فى الطريق الخطأ».. ويحضرنى بالمناسبة حوار دار بينى وبين إقطاعى من أقارب زوجى، فقد صب جام غضبه على عبدالناصر «ابن البوسطجى!!» الذى جعل للفلاح سعرًا، فقد كنا نربط الفلاح فى شجرة ونطلق عليه الرصاص ويموت مثل القط!! ولا أحد يقول لنا، تلت التلاتة كام...أجبته بعصبية واضحة وأنا أحاول ألا تفر دموعى: تصور يا عم فلان، إن السبب الذى من أجله تكره عبدالناصر، هو تحديدا السبب الذى من أجله أنا، والملايين معى، نحبه، وهو أنه جعل للفلاح سعرًا. ولم أحزن فى حياتى كما حزنت يوم الرحيل، وكان عملى فى فرنسا فرصة كبيرة جعلتنى أطلع على تفاصيل كثيرة تتعلق بكراهية أعداء مصر لجمال عبدالناصر والمؤامرات العديدة التى حاكوها ضده بهدف التخلص منه، وهو ما يفسر إلى حد كبير، ظاهرة استمرار الهجوم عليه وكأنه لا يزال فى الحكم، ويطرح سؤالاً ملحًا.. هل مات عبدالناصر أم أنه سيبقى حيا فى قلوبنا لنظل نهتف مع الخال الجميل عبدالرحمن الأبنودى: يعيش جمال عبدالناصر حتى فى موته.•