هكذا كان شأنه كل يوم لكن فى رمضان الوضع يختلف، لأن عمليات التأمين تزداد كثافة مع ساعات اليوم منذ الصباح وحتى موعد السحور، المرور، البحث الجنائى، الحماية المدنية، الكمائن الثابتة والمتحركة. ووقت وقوع الحادث قبل رفع آذان المغرب، كان اللواء شكر على الطريق الصحراوى الغربى فى مركز القوصية يتابع عمل الكمائن المرورية واعتاد الإفطار فى الطريق شأن كل يوم لكنه كان على موعد مع الشهادة بعدما لقى مصرعه فى حادث انقلاب سيارته قبل كمين القوصية على طريق الصعيد الصحراوى الغربي. ليس هذا شأن مدراء الأمن فقط، بل هو شأن كل فرق العمل من الضباط والأفراد بكل الرتب النظامية بوزارة الداخلية فى 27 مديرية أمن على مستوى الجمهورية ولكن على رأس كل فريق، ضابط من قيادات الوزارة تم تكليفه بأن يكون مديرا للأمن. وفى رحلته الأخيرة لم يعبأ باقتراب غروب الشمس، فمنذ اليوم الأول من رمضان لم يجلس فى ساعة انطلاق الأذان، اللواء جمال شكر مدير أمن أسيوط، على مائدة إفطار مع أسرته، ففى رمضان يتضاعف الجهد وتبلغ ذروته مع اقتراب موعد الإفطار، حيث يبدأ الجميع فى التحرك وغير مسموح بأى ارتباك يمكن أن يصيب الحركة وفى الوقت الذى يتناول فيه الناس طعام إفطارهم أمام شاشات التليفزيون، حينئذ يبلل مدير الأمن ريقه بقطرات ماء ثم يطمئن على سير الحركة ويذهب ليتلقط بعض الطعام قبل أن يستعد مرة أخرى لمزاولة العمل ليلا. الشهيد اللواء جمال شكر لعلها ساعتان أو ثلاث على الأكثر هى التى يسمح فيها لنفسه أن يسلم جسده للراحة بعد عمل مضن متواصل، فيومه يبدأ قبل أى مواطن آخر، فهو ليس موظفا يقترن عمله بدخوله مكتبه والبقاء فيه بل ساعات عمله مفتوحة طوال اليوم فطبيعة عمله حرمت عليه أن يخلد إلى النوم وقد أغلق هاتفه المحمول أو فصل الحرارة بشكل مؤقت عن هاتفه الأرضى الرابض بجوار سريره. هناك أيضا جهاز التقاط الإشارات اللاسلكية من النجدة وهو جهاز غير قابل للإغلاق بسبب أهمية ما يبث عليه من الإخطارات بالأحداث الصغيرة والكبيرة فى 12 مدينة وعددلا يحصى من القرى والنجوع والعزب تابعة ل 11 مركزا تمتد على مساحة 120 كيلومترا على جانبى النيل فى صعيد مصر، بجانب المهام الأخرى التى لا يتوقف سريانها كل يوم. يأتى دور الاجتماعات المهمة مع مديرى الإدارات التابعة للمديرية لمتابعة الجهود والخطط وتنفيذ التكليفات ومواجهة ما يستجد من أحداث. هناك التقارير السرية ومتابعة سير العمل فى فرق البحث الجنائى والتنسيق مع بقية الإدارات التابعة للوزارة والمديريات والجهات الرسمية الأخرى. فحتى تجلس على مائدة إفطارك وتتمتم بدعاء الإفطار ثم تقلب قنوات التليفزيون، لابد أن يؤمن جلستك هذه فريق عمل كتب عليه كل يوم أن يفطر فى الشارع بعد يوم عمل منهك فى حرارة شمس صيف لا يعرف الرحمة. إن كانت هذه وظيفتهم وقد أدوها بنجاح، فقد وجب الشكر، فاللواء شكر قد دفع حياته وضحى بكل ما نستمتع به من متع اقترنت بالشهر الفضيل، فرمضان لديه لم يكن صياما بأجواء احتفالية ومتابعة المواد الإعلامية والدرامية التى تبثها شاشات التليفزيونات، غير مسموح فى يومه أن يعزم أفراد أسرته فضلا عن غيرهم من الأقارب أو الأصدقاء، لتناول الطعام على الإفطار أو السحور. طبيعة عمله عامة لا تسمح، عمله فى واحدة من أهم مديريات الأمن على كل المستويات لايسمح، الأخطار المحدقة به من جانب طيور الظلام من جماعات الشر لا تسمح، اقتراب موعد الإفطار وضرورة «التتميم» على الكمائن والطرق لا تسمح اقتراب عيد الفطر المبارك وضرورة تأمين كل شبر فى محافظة أسيوط لا يسمح، ضميره المهنى بضرورة الاطمئنان بنفسه على كل صغيرة وكبيرة لا يسمح. وتوقيت ومكان الحادث الذى نعرف جميعا تفاصيله يوم الأربعاء الماضى، يؤكدان أنه مهموم بأن يفطر الناس فى بيوتهم، فلم يكن ليبلغ استراحته المخصصة لإقامته فى مدينة أسيوط أو أى مكان معد للإفطار، قبل ساعة ونصف الساعة على الأقل. كان همه أن يستمتع الناس فى بيوتهم بإفطارهم ثم تكملة بقية شعائر وطقوس الليالى الرمضانية. كانت أكثر كلمة محببة لأذنه وهو يضعها على الهاتف أو يلتقطها من جهاز اللاسلكي تمام يا أفندم.. هدوء الحالة لا يهدأ حاله إن لم يسمعها ويبذل كل جهد حتى يصل إليها بالأوامر والتكليفات والانتقال بنفسه إذا لزم الأمر وهاهو قد هدأ إلى الأبد على اثر الحادث الأليم الذى أصيب فيه مدير المباحث وضابط آخر بإصابات طفيفة ولكن إصابته كانت قاتلة، فشلت معها جهود الأطباء فقد لبى اللواء الشهيد نداء ربه لينفذ آخر أمر صدر إليه تلقاه من السماء لتعد روحه مقدما المثل الأعلى لعمل رجل الأمن المخلص الذى يعمل حتى النفس الأخير ليبقى الناس فى بيوتهم آمنين.