جامعة القناة يؤكد على ضرورة الالتزام بضوابط الامتحانات والتواجد ومتابعة سير العملية الامتحانية    طلب إحاطة بشأن تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    محافظ القليوبية يعقد اجتماع المجلس التنفيذي للمحافظة لمناقشة المشروعات الجاري تنفيذها    تنفيذاً لمبادرة "وياك".. حياة كريمة توزع 1228 هدية على طلاب جامعة بني سويف    نائب رئيس نادى السيارات: مسيرات للدراجات النارية ومسابقات سيارات بالعلمين أغسطس 2024    الجنائية الدولية: نسعى لإصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو والسنوار بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب    الإسماعيلي يهنئ الزمالك بالتتويج بالكونفدرالية في خطاب رسمي    اليوم.. مصر تواجه بوروندي في بطولة أمم أفريقيا للساق الواحدة    تحرير 118 محضر مخالفات خلال حملات تموينية وتفتيشية بمراكز المنيا    تأجيل محاكمة «طبيب الإجهاض» بالجيزة    الحبس 3 سنوات لعاطل بتهمة النصب على المواطنين في الأميرية    الرعاية الصحية: 45 منشأة حققت 120% من مستهدفات حملة التوعية بضعف عضلة القلب    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    تراجع مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات جلسة الإثنين    تطوير المزلقانات على طول شبكة السكك الحديدية.. فيديو    رئيس النواب: التزام المرافق العامة بشأن المنشآت الصحية لا يحتاج مشروع قانون    وزير خارجية إيطاليا: حادث تحطم مروحية رئيس إيران لن يزيد التوتر بالشرق الأوسط    ضبط المتهمين بسرقة خزينة من مخزن في أبو النمرس    غرة شهر ذى الحجة الجمعة 7 يونيو ووقفة عرفات 15 / 6 وعيد الأضحى 16/ 6    كان بين المصابين.. ضبط سائق أتوبيس الموت ب«دائري شبرا الخيمة»    تحرير 142 مخالفة ضد مخابز لارتكاب مخالفات إنتاج خبز بأسوان    «ست أسطورة».. سمير غانم يتحدث عن دلال عبد العزيز قبل وفاتهما    ستاكس باورز تبيع عملات نادرة ب 23 مليون دولار في مزاد هونج كونج    إكسترا نيوز تعرض تقريرا عن محمد مخبر المكلف بمهام الرئيس الإيرانى.. فيديو    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    محمد ثروت يوجه رسالة رثاء ل سمير غانم في ذكرى وفاته    عمر الشناوي: فخور بالعمل في مسلسل "الاختيار" وهذه علاقتي بالسوشيال ميديا    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    محافظ أسيوط: التدريب العملي يُصقل مهارات الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل    مجلس النواب يوافق نهائيًّا على مشروع قانون المنشآت الصحية -تفاصيل    موجة الحر.. اعرف العلامات الشائعة لضربة الشمس وطرق الوقاية منها    عاجل.. كواليس اجتماع تشافي ولابورتا| هل يتم إقالة زرقاء اليمامة؟    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    وزير الري أمام المنتدى المياه بإندونيسيا: مصر تواجه عجزًا مائيًّا يبلغ 55% من احتياجاتها    22 مايو.. المؤتمر السنوي الثالث لطلاب الدراسات العليا فى مجال العلوم التطبيقية ببنها    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    من هو وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان الذي توفي مع الرئيس الإيراني؟    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    معرض لتوزيع الملابس الجديدة مجانًا بقرى يوسف الصديق بالفيوم    مجلس النواب يستكمل مناقشة قانون إدارة المنشآت الصحية    مصرع عامل على يد عاطل أثناء اعتراضه على سرقة منزله في قنا    قائمة البرازيل - استدعاء 3 لاعبين جدد.. واستبدال إيدرسون    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    تداول 146 ألف طن بضائع استراتيجية بميناء الإسكندرية    تشاهدون اليوم.. بولونيا يستضيف يوفنتوس والمصري يواجه إنبى    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    السوداني يؤكد تضامن العراق مع إيران بوفاة رئيسها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    أول صورة لحطام مروحية الرئيس الإيراني    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فعلها «العقاد» إذن..
محمد بين العبقرية والنبوة
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 05 - 2019

«وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدا عظيم فى كل ميزان.. عظيم فى ميزان الدين، وعظيم فى ميزان العلم، وعظيم فى ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون فى العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا فى الطبائع الآدمية، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهى خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء. إن عمل محمد لكاف جد الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء»
هذه الفقرة الواردة فى مقدمة كتاب «عبقرية محمد» تصلح للإشارة إلى مقصد مؤلفه المفكر الكبير عباس محمود العقاد من كتابه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكتب العقاد كتابه هذا، الذى صدر عام 1942، عن النبى عليه الصلاة والسلام من منطلق سرد سيرته من خلال عرض المؤلف حسب منهج يتبعه، لتكون هذه السيرة والدروس المستفادة منها هى المبتغى الوحيد من إصدار هذا الكتاب.
ذلك لأن العقاد صرح فى أكثر من مرة فى عبقرياته بأنه لا يكتب ترجمة للشخصية التى يتعرض للكتابة عنها بالشكل المعتاد ف»هى ليست تاريخا لمن يطلبون التراجم والتاريخ».
وقد أحدث العقاد بتناوله الشخصيات الكبرى وفى العقائد والتاريخ على السواء ما لم يسبقه إليه الأوائل، متحليا بشجاعة تصل لحد المغامرة بالتعرض بالتحليل لشخصيات وأحداث مقدسة عندما يكتب عن الأنبياء مثل إبراهيم الذى أصدر عنه كتاب «أبو الأنبياء» وعيسى «عبقرية المسيح» ومحمد «عبقرية محمد».
كذلك تناول شخصيات تقترب من دوائر القداسة خاصة لدى الناس لأدوارهم الكبرى التى قاموا بها فى الديانات خاصة فى العبقريات التالية «عبقرية عمر» و«عبقرية الصديق» و«عبقرية الإمام» و»عبقرية خالد» وغيرها من الكتب التى لم تحمل فى عنوانها كلمة «عبقرية» مثل كتبه عن عثمان وعائشة وبلال والحسين.
وقبل العقاد لم تكن الكتب الصادرة عن الأنبياء والصحابة تتخذ هذا النحو، غير أنه مع النهضة الفكرية التى شهدتها مصر مع مقتبل القرن العشرين والتى كانت ثمارا مباشرة للبذور التى ألقيت فى القرن التاسع عشر من كتابات رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، بدأت دوائر الفكر تتجه نحو إعادة صياغة الرؤى تجاه التراث والشخصيات التاريخية بما يتناسب مع تطور العصر واستثمار ما شهدته مناهج العلوم فى التاريخ والاجتماع وعلم النفس من تطور.
والتعرض لشخصية بحجم وأهمية محمد صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر الهين، خاصة مع موجة هجوم، حيث ذكر العقاد فى مقدمة كتابه أسباب تأليفه وبين غرضه، قائلا: «وليس الكتاب شرحًا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعًا عنه، أو مجادلة لخصومه، فهذه أغراض مستوفاة فى مواطن شتى، يكتب فيها من هم ذووها ولهم دراية بها وقدرة عليها. إنما الكتاب تقدير ل «عبقرية محمد» بالمقدار الذى يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذى يثبت له الحب فى قلب كل إنسان، وليس فى قلب كل مسلم وكفى.. فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين فى المناقب التى يتمناها المخلصون لجميع الناس.. عظيم؛ لأنه على خلق عظيم.. وإيتاء العظمة حقها لازم فى كل آونة، وبين كل قبيل، ولكنه فى هذا الزمن وفى عالمنا هذا ألزم منه فى أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد، أحدهما: أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة.. ولن يتاح لمصلح أن يهدى قومه وهو مغموط الحق، معرض للجفوة والكنود، والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة فى زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها، فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسًا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة.. والمساواة هى شرعة السواد الغالبة فى العصر الحديث».
«تهمة العبقرية!»
لكن برغم ذلك لم يسلم العقاد من الطعن الذى وصل بالبعض من أصحاب العقليات الجامدة إلى التشكيك فى عقيدته، بل شط البعض أخيرا ومنهم من صرح بتكفيره ولكن لم يجد هذا الهراء أى صدى لدى جمهور العقاد الذى ما زالت كتبه تتصدر المكتبات وتتنافس على طبعها وتوزيعها كبريات دور النشر.
ولم يكن ذلك سوى لاعتراضهم على وصف العقاد النبى وبعض صحابته ب»العبقرية» باعتبار أن العبقرية القائمة على الإبداع مضادة عندهم للنبوة القائمة على الاتباع، فكأن وصف العقاد النبى محمد بالعبقرى نوع من الطعن غير المباشر فى نبوته وهو تعسف فى الرؤية ولى للحقائق كعادة هؤلاء القوم الذين لا هم لهم إلا الطعن فى دين غيرهم والتسفيه من آرائهم لأنهم لا يتبعون خطاهم التى يحسبونها الحق وما دونها الباطل!.
وكأن هؤلاء لم يقرأوا هذه السطور التى كتبها العقاد بقلمه:
«كان تقدير محمد بالقياس الذى يفهمه المعاصرون ويتساوى فى إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعًا فى هذا الزمن الذى التوت فيه مقاييس التقدير.. إنه لنافع لمن يقدِّرون محمدًا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه؛ لأنه فى عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغى الجهلاء إلا كما نال منه بغى الكفار.. وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدًا بالشواهد والبينات التى يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجرى على مجراه فيها.. لأن مسلمًا يقدر محمدًا على هذا النحو يحب محمدًا مرتين: مرة بحكم دينه الذى لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التى يشترك فيها جميع الناس».
وعندما ستنتهى من قراءة كتاب «عبقرية محمد» سوف تكتشف بنفسك خداع ذلك التضاد الوهمى والتناقض المصطنع ما بين العقل باعتباره موجها رئيسا لوعى الإنسان ومنسقا عاما للحقائق الكونية المحيطة، وبين العقيدة باعتبارها عملا إلهيا خالصا ارتبطت عند البعض بفهم خاطئ بأن أول شروطها إهمال العقل وربما معاداته.
إن هذا الفهم المتعسف بالتناقض بين العقل الذى كان منارة العقاد فى «عبقرية محمد» وبين العقيدة التى سعى لنصرتها بالعقل، لن يصر عليه سوى واحد من فريقين وهما الفريق الذى يحاول فرض وصية على العقيدة باعتباره مرجعا لها دون غيره الذى أفرط فى استبعاد التفكير العقلى فيراه منزلقا للبدعة التى تؤدى إلى الكفر أو فريق يقرر استبعاد العقيدة ويسخر منها مستكبرا عليها ويحاول فرض نفسه للوصاية على العقل باعتبار أنه الفريق المناصر للعقل وهو لا يقل تعسفا ولا جمودا عن الفريق الذى يبدو مناقضا له.
ولذلك اجتمع هؤلاء وأولئك على رفض العقاد وكتاباته لاسيما هاتين النوعيتين، فهؤلاء لا يرون المنهج العقلى يصلح للإيمان وأولئك لا يرون الإيمان مناسبا للعقل ولذلك لا يقبلون من العقاد هذه العبارة التى وردت فى فصل تحت عنوان «عبقرية الداعى» «إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته.. فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل، أو إلى علة عوجاء يلتوى بها ذوو الأهواء، فهى أوضح شيء فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهى أقوم شىء سبيلا لمن استقام».
«عبقرية الفارس»
تحدث العقاد كثيرا عن الشبهات التى يثيرها أعداء العقيدة الإسلامية سواء من المنكرين للأديان أو غيرهم من مدعى العلمانية ومتعصبى الديانات الأخرى والتى تدور حول انتشار الإسلام بالسيف وتعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم.
والعقاد وغيره تصدوا للرد على مثل هذه الشبهات فى كتب أخرى، غير أنه فى «عبقرية محمد» عقد فصلا مهما عن «عبقرية محمد العسكرية» التى اتخذها عنوانا للفصل ولم يبد عليه فى هذا الفصل أنه يهتم كثيرا بدحض ما يتردد ولكنه لم يمر سريعا، حيث عرض ست حقائق كانت كافية لتقويض تلك الادعاءات ثم راح يقارن بين الخطط الحربية للنبى صلى الله عليه وسلم وبين كبار القادة العسكريين فى تاريخ الحروب، ويضرب أمثالا من الغزوات والمعارك التى خاضها النبى عليه الصلاة والسلام غير هياب لما يلقى من افتراءات ويثار من شبهات، فالعقاد يرى أن التقصير كل التقصير فى ألا يستخدم السيف فى مواجهة السيف والإسلام واجه السيف عندما لم يجد سواه ولعل المنطق الذى يتخذه المعتدى بالسيف يكون أولى به الذى يدافع عن نفسه.
وهو يقول: «لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبى رجلا مقاتلا يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب فى اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء؛ لأن القيادة الحسنة هى القيادة التى تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع، وهى التى تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام».
وها هو يعقد فى رؤيته للعبقرية العسكرية للنبى «صلى الله عليه وسلم» مقارنة بخطط نابليون فتراه يقول بعد استعراض خطط النبى عليه الصلاة والسلام فى الغزوات والسرايا: «تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التى سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح.. لم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها - كما أسلفنا - إلا لدفع غارة واتقاء عداوة، فإذا كان مع هذا يُتْقِن منها ما يتولاه مدفوعًا إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة التى تعلمها وعاش لها، ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن فى منفاه، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمى بين رمال الصحراء.. ولقد كانت خبرة النبى ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال، فكانت طريقته فى اختيار المكان والغرض، أو فى اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلًا يحتذى فى جميع العصور، لاسيما العصر الحديث الذى كثرت فيه ذرائع التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة، فكثرت فيه - من ثم- حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال الأعداء».
ولعل المضحك فى نقد المنغلقين لعباس العقاد أنهم رفضوا هذه المقارنة وجعلوها اجتراء منه على الرسول الكريم لأن العقاد أجرم بمقارنة نبى الإسلام بنابليون الصليبى!.
ويختم العقاد حديثه عن العبقرية العسكرية للنبى «صلى الله عليه وسلم» قائلا: «إن عبقرية محمد فى قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب، وترضاها المروءة، وترضاها شريعة الله والناس، وترضاها الحضارة فى أحدث عصورها، ويرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء».
«حديث الزوجات»
السيف والمرأة هما المطعنان اللذان لا يمل من ترديدهما الطاعنون ولعلك تدرك أن من بين جميع ملوك الأرض المحاربين ومتخذى الزوجات بأعداد كبيرة لا تجد من يهبط عليه الاعتراض واللوم والتشكيك والطعن مثلما حدث مع محمد رسول الله، ولقد نبهنا المؤلف منذ السطور الأولى متحدثا عن كتابه «فكتبناه ونحن نستحضر فى الذهن تبرئة المقام المحمدى من تلك الأقاويل، التى يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية، ونظرنا اتفاقًا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية».
وبعد أن عرض العقاد لما كان يعامل به محمد عليه الصلاة والسلام النساء عامة وزوجاته خاصة وموقفه المثالى فى حديث الإفك قبل أن ينزل الوحى ببراءة عائشة، تجده ينتقل إلى تعدد الزوجات وتشعر أن العقاد يحس بانتظار قارئه مخلصا أو مترصدا، فيعرج لمناقشة هذه القضية لا على سبيل دفع الشبهة فقط، فالأمر أمر تناول عبقرية زوج فى إدارة شئون حياته الخاصة فى مسكنه ولكن كان لابد من إشباع نهم القارئين فيقول عن تعدد الزوجات فى حياة النبي: «وهكذا نبحث عن الرجل الذى توهمه المشهرون من مؤرخى أوروبا فلا نرى إلا صورة من أعجب الصور التى تقع فى وهم واهم!.. نرى رجلا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه ونرى رجلًا تألَّبَت عليه نساؤه لأنه لا يعطيهن الزينة التى يتحلين بها لعينه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه!.. ونرى رجلًا آثر معيشة الكفاف والقناعة على إرضاء نسائه بالتوسعة التى كانت فى وسعه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه!.. ذلك كلام لو شاء المشهرون أن يرسلوه كلامًا مضحكًا مستغربًا لأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح. أو لعله أقبح فلاح!.. ويزيد فى غرابته أن الرجل الذى توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط فيه الظنون ذلك الخبط الذريع. فمحمد كان معروفًا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة. كان معروفًا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس فى ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه عن أهون الهنات: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى الذى كان من شأنه مع النساء كيت وكيت، يدعوكم اليوم إلى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات.. كلا.. لم يقل أحد هذا قط من شانئيه وهم عديد لا يحصى ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل.. ولما بنى بأولى زوجاته - خديجة- لم تكن لذَّات الحس هى التى سيطرت على هذا الزواج؛ لأنه بنى بها وهى فى نحو الأربعين وهو فى نحو الخامسة والعشرين، ونيف على الخمسين، وأوتى الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها، ولا من رغبة فى الزواج بأخرى.. ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء للذات حس أو ذكرى متاع جميل لأنه فضلها على عائشة فى صباها وهى أحب نسائه إليه، وكانت عائشة تغار منها فى قبرها فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها».
وكذلك يقول عن أسباب التعدد: «ولو كانت لذات الحس هى التى سيطرت على زواج النبى بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع النبى إليه تسعًا من الفتيات الأبكار اللائى اشتهرن بفتنة الجمال فى مكة والمدينة والجزيرة العربية، فيسرعن إليه راضيات فخورات، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التى لا تعلوها مصاهرة».
لابد من التذكير بأن كتاب «عبقرية محمد» لم يضعه العقاد فى الأساس لتصدى للشبهات ودحضها ولكن لبيان مواقع العبقرية فى شخصية خاتم الأنبياء وإن جاء الرد على الشبهات فسيجيء فى إطار هذا القصد. وارجع إلى مقدمة الكتاب التى يقرر فيها: « فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدى معناه فى حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التى حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها فى هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار فى هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد».
«مزيد من العبقرية»
وشرح العقاد فى مقدمة يتلوها 14 فصلا جوانب عديدة فى حياة محمد النبى والعبقرى تحدث فيها عن عبقريته الإدارية وكزوج وأب وسيد وعابد وغير ذلك من جوانب يسلط عليها العقاد ضوءه المبهر، فيكشف لك ما ليس تقرأه فى الكتب التى تناولت محمدا حسب المناهج التقليدية القديمة والحديثة للكتاب المؤمنين بدعوته أو غير المؤمنين بها، الذين أنصفوا أو الذين أفتروا أو خلطوا بين هذا وذاك، لكنه يعترف، رغم ما عرف عن العقاد من مدى قوة اعتداده بنفسه عند تصديه لقضية ما، بأنه لم يوف النبى العظيم صلى الله عليه وسلم حقه فيقرر: «واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدى القراء لا نقول إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذى توخيناه».
وها هو يختم كتابه فى الفصل الأخير تحت عنوان «محمد فى التاريخ» قائلا: «أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدًا فى عبقريته، أو محمدًا فى نفسه، أو محمدًا فى مناقبه التى يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية ومن لا يدين له برسالة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.