بعد سنوات من تجارب الفوضى الخلاقة فى منطقة الشرق الأوسط، ومع مستجدات الصراع بين القوى العالمية فى آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، يبدو أن هناك رؤية جديدة تتبلور فى مراكز الفكر الاستراتيجى فى واشنطن ،لمايجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط. ظهرت ملامح هذه الرؤية بوضوح فى دراسة مستفيضة نشرتها «ذا ناشيونال انترست» ل»جيمس جاى كارافانو»، نائب رئيس مؤسسة هيريتدج، والمشرف على أبحاث الأمن القومى والعلاقات الخارجية بالمؤسسة. يقسم «كارافانو» المراكز الحيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية فى العالم إلى ثلاث مناطق هى أوروبا، والشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهندي-الباسيفيكي. ومن وجهة نظره، فإن الشرق الأوسط هو الأهم بين تلك المناطق لعدة اعتبارات، منها أنه المعبر الجوى والبحرى للسفر والتجارة مع مناطق العالم الحيوية الأخري، وأنه مخزن للطاقة، وهو العمود الفقرى لشبكات التعاملات المالية وجسر الانتقال لموجات الهجرة البشرية.ولأن رخاء أمريكا وأمنها يتحقق لأقصى درجة عندما يسود الاستقرار الشرق الأوسط، كما يقول «كارافانو» ، فمن الضرورى أن يكون استقرار الشرق الأوسط الكبير، بما فى ذلك شمال إفريقيا جزءا أصيلا من أى استراتيجية جادة للسياسة الأمريكية لما بعد 2020. ورغم أن أهم ملامح سياسة ترامب الخارجية تتمثل فى أن أمريكا ليست معنية بتغيير النظم أو إعادة بناء الدول، وأن على الدول الأخرى تحمل نصيبها من تكلفة إدارة هذه العلاقات، فإن الخطر الإيرانى وخطر الجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة عاملان يسهمان فى توجيه هذه السياسة. ويبدو الباحث راضيا عن أداء أمريكا فى هذا الصدد، بمافى ذلك إلغاء «خطة العمل المشتركة الشاملة» المعروفة بصفقة إيران. يرى أنها خطوة أولية ضرورية لتقليص التمدد الإيراني، والحد من الدعم الذى تقدمه إيران للمجموعات المسلحة التى تزعزع استقرار المنطقة، كجماعة الحوثى والميليشيات الشيعية فى العراق. وبحسب الباحث فإن هناك عقبات تعترض سبيل سياسة أمريكا فى المنطقة، منها استمرار الحرب فى اليمن، واستمرار الخلاف بين دول الخليج «عزلة قطر»، والعلاقات الملتبسة مع تركيا. وفى الخلاصة، يقدم كارافانو خمسة عناصر مقترحة للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط. يتضمن أولا إقناع دول المنطقة بأن تكون جزءا من تحالف عسكرى يتعدى مجرد التعاون أو العلاقات الثنائية، ويكون أكثر هيكلية على غرار شبكة الأمن الأمريكى فى جنوب شرق آسيا. ثانيا، تعزيز الاستقرار فى شمال إفريقيا للارتباط الوثيق بين استقرار الشرق الأوسط بال»حديقة الخلفية» للمنطقة ممثلة فى مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب. ثالثا، استمرار الضغط على إيران من خلال تصعيد العقوبات الاقتصادية، مع ضرورة بقاء قوات أمريكية فى المنطقة لردع اعتداءات إيرانية محتملة. رابعا، مواصلة الحرب ضد داعش والضغط على الحكومة العراقية لمكافحة الفساد والتوصل لتسوية فى سوريا لإنهاء الاقتتال وعودة اللاجئين. ويتعلق العنصر الخامس بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فبالرغم من التلويح والترويج لما يسمى بصفقة القرن للتوصل إلى حل سلمى لهذا الصراع، يرى الباحث أن الوقت غير ملائم لإبرام معاهدة سلام شامل ودائم بسبب أنشطة حماس العدائية، ورفض السلطة الفلسطينية لتلك الصفقة. وبدلا من حل الصراع، لن يكون على واشنطن فى ظل هذه الرؤية سوى إدارته لأطول فترة زمنية ممكنة لتحقيق هدفين هما تحسين أوضاع الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية، وتحقيق أمن إسرائيل التى حصلت بالفعل على أبعد مما كانت ستحصل عليه من أى معاهدة سلام.