تحدث تغيرات فى حياة الشعوب وسلوكها نتيجة تغيرات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وتتسلل إلى تلك المجتمعات سلوكيات تتصارع مع القيم القديمة التى كانت راسخة لتظهر قيم جديدة فى تلك المجتمعات. وقد يفطن إلى ذلك من يقود المجتمعات من طبقة السياسيين والمثقفين والعلماء، أو قد لا يهتم أحد فتصبح القيم القديمة تاريخاً قد يراها الجيل الجديد من سمات التخلف بل ويحاربونها أيضاً. وهذا ما حدث فى أوروبا بداية من القرن السادس عشر حتى عصر التنوير والثورات السياسية والاجتماعية. ففى المجتمع الإنجليزى فى القرن التاسع عشر خاضت إنجلترا حروباً شرسة وهجمات على بلاد أخرى بنزعة استعمارية. ولم يكن هذا فقط سلوك حكومات وجيوش، ولكن صار سلوكا مجتمعيا أيضاً، وكانت تلك الفترة صراعا للقوى الكبرى للسيطرة على العالم. ويصف الشاعر محمد عفيفى مطر العالم المتوحش ويقول: أرأيت العالم إذ يمتطى فى صفحات الأطلس، مشقوق الأبعاد ومهترئ الأثواب، تنبض من خرائطه أسوار تتلوها أسوار، أرأيت على جلد الجغرافيا تاريخ القتل، سمعت صراخاً مكتوماً تحت جيوش الغزو، ورعب الموتى تحت هتاف المنتصرين؟! ورق هذا الأطلس أم أكفان، يتنازعها أسياد وعبيد؟! العالم أروقة ودهاليز وصروح لا يهدأ فيها السهر المجنون. فظهرت طبقة برجوازية تحكمت فى الاقتصاد، وكان من نتائج هذا ظهور الأنانية والشراسة فى المجتمع الإنجليزى، وأصبح الفقراء والمشردون لا يجدون ما يجعلهم أحياء. وكثير من المآسى والقصص الدامية فى تلك الفترة مثلما حدث لمارى آن بروان عام 1874م فى لندن. وكانت شابة جميلة جداً تعمل ممرضة بأحد المستشفيات وتزوجت بائع زهور وأنجبت منه أربعة أطفال. وأصيبت بمرض يسمى (العملقة) وهى فى سن الثانية والثلاثين -وهو اضطراب هرمونى يؤدى إلى زيادة غير طبيعية فى الأطراف وتشوه فى الوجه- وكانت تعانى آلاما شديدة فى كل جسدها وصداعا مستمرا. ومما زاد المأساة بؤساً أن مات الزوج بعد مرض سريع بعد خمس سنوات من مرضها. وكان عليها أن تواجه الحياة فى تلك الفترة التى لم يكن أحد يشفق على أحد، ولم يرق قلب أحد عليها، فالأطفال الأربعة يتضورون جوعاً وآلامها الجسدية تصرخ فى داخلها، ولم تشفق عليها إدارة المستشفى فطردتها وتراكمت الديون. ومن المفارقات الكاشفة لعبث المجتمع أن أعلنت إحدى الجمعيات على مسابقة لأبشع امرأة فى العالم، وكانت الجائزة خمسين جنيهاً إسترلينيا. وتقدمت إليها وفازت بالجائزة وصارت أضحوكة لكل من يراها، ولكنها لم تضع هذا فى حسابها بل كان كل اهتمامها أن تسد جوع أطفالها وتدفع بعض ديونها. ورآها مدير السيرك فعرض عليها أن تعمل فى السيرك فقرة يضحك عليها الناس، وقبلت بل كانت تمشى مسافة كبيرة على أقدامها التى كانت تؤلمها نتيجة المرض حتى تصل إلى السيرك. وهناك تهافت الزوار على أن يروا أبشع امرأة، وكان الأطفال بتشجيع من الكبار يرمونها ببواقى الطعام وما فى أيديهم. وكانت دموعها تنزل كل ليلة وهم يضحكون، ولكنها كانت تشكر الله أنها تعود لأولادها بما يسد جوعهم وربت وعلمت أولادها. وبالرغم من هذا ظلت تعمل حتى آخر ليلة حين كانت تقدم العرض عام 1933م سقطت أمام الجمهور وكانوا يضحكون ظناً منهم أنها تمثل، ولكنها كانت قد فارقت الحياة لتخرج من هذا السيرك الكبير إلى الراحة الأبدية وتفارق تلك الوجوه القاسية إلى وجه ربها. إنه المجتمع القاسى الذى يتكون من أفراد اشتركوا جميعاً فى سمات أخلاقية يسمونها العقل الجمعى، وهو حسب عالم الاجتماع الفرنسى إيميل دوركايم» (1879م): هو مجموعة المعايير والقيم التى تشكل سلوك أفراد المجتمع فى فترة ما، وتكون دون تفكير أو مناقشة. ويأتى نتيجة التفاعل فى جميع مجالات الحياة المحيطة بالأفراد وتجعله يفكر ويشعر بصورة ما يحددها المجتمع. وما حدث فى تلك الفترة كان له تأثير مباشر على الأخلاقيات والمعتقدات، فأصبح الإنسان أكثر أنانية وأكثر مادية. وبدأت مدارس فكرية كثيرة تبث أفكارا إلحادية، وتكونت قناعة كبيرة عند كثيرين بأن الإلحاد هو سمة المثقفين، وأن الإيمان إحدى صور التخلف، وأن التنوير يعنى هدم كل ما هو مسلم. وفى طريقهم لتكوين هذا العقل الجمعى فقدت المجتمعات الروح الإنسانية الطيبة، ومع انتشار النزعة الفردية والأنا التى لا فوقها شيء كسروا أشياء أخرى فى الإنسانية. وما يحدث فى مجتمعنا الآن يشبه هذه الحالة، فنحن نقول دائماً إن المجتمع تغير، ففى السابق كان العقل الجمعى لا يفرق بين مسلم ومسيحى وكان الكل يعيش فى حب وسلام، بل وحتى اليهودى كان مقبولاً كإنسان دون النظر إلى الاختلافات الدينية. واليوم صار العقل الجمعى يضع الفروق الدينية فى المرتبة الأولى قبل الإنسانية. فى السابق كان العقل الجمعى يحترم المرأة ولا ينظر إلى ما ترتديه، ففى الشارع هناك من تلبس ملابس معاصرة ومن تضع «ملاية» سوداء ولا أحد ينظر إلى أى منهما ولا يتحرش بأحد. اليوم العقل الجمعى ينقد وينظر بل وحين تتعرض للتحرش يرجعون الأسباب إلى ملابسها. وكان الكبير يُحترم، وتحترم أيضاً التقاليد والمورثات، ويحترم الوطن، أما اليوم فحين تذكر هذه الأمور تؤخذ باستخفاف. وما شكل العقل الجمعى اليوم ليس فقط، ما يدور فى المجتمع بل صارت قنوات التواصل تشكل أيضاً العقل الجمعى. ولا يظن أن هذا التغير حادث فى الشباب فقط، فحين نقارن بين الأفلام القديمة والبرامج التليفزيونية وما هو حديث ندرك أن هناك تغييراً كبيراً حدث فى العقل الجمعى لنا، فى الأسرة والتعليم والثقافة والفن، وأن الانحدار ينبئ بكارثة. نحتاج إذن أن تكون هناك وقفة جادة على كل المستويات لندرس ونرى ماذا ولماذا؟ ماذا حدث ولماذا حدث؟ وتتضافر الجهود لتغيير العقل الجمعى والرجوع للقيم والروح التى فقدناها. فإما أن نستيقظ ونعمل، أو ننام، وتكون الحياة حلماً أو كابوساً، أو حالة من حالات العدم. لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس