فى عام 1891م كتب أوسكار وايلد الكاتب الإنجليزى قصة بعنوان لوحة دوريان جراى، وقد أحدثت حالة من الجدال فى المجتمع الإنجليزى حتى أن البرلمان ناقشها حينها باعتبارها منافية للأخلاق وتدعو للتجديف. وفى النهاية نشرها بعد حذف بعض المقاطع. والقصة تحكى عن فنان رسم لوحة لشاب جميل الصورة اسمه دوريان، وحين انتهى بازل الفنان من الرسم اغتم صاحب الصورة درويان لأنها تجسد شبابه وجمال وجهه الذى سينتهى مع الزمن، وسيفقد يوماً ما حقيقة جماله الذى يأخذ منه وجوده، وستذكره هذه اللوحة بحاله القديم الذى سيغترب عنه. وقال فى نفسه لماذا تكون ملامحى أنا التى تتغير؟ لماذا لا احتفظ أنا بالملامح وتتغير الصورة؟ وبصورة ما تحققت أمنيته فى أن صارت الصورة تحمل كل قبح يفعله، وعاش حياة مبتذلة رخيصة دون أن يبالى بشيء. وفى يوم دخل إلى الحجرة التى فيها صورته فوجد ملامحها صارت قاسية ولم تعد جميلة كما كانت، فخاف ورجع إلى الخلف فسقط وجرح فى جبهته، ولكن تلاشى الجرح من وجهه، ورأى الجرح على الصورة. وهنا أدرك أن أمنيته التى تمناها قد تحققت وأن الصورة أصبحت هى التى تحمل كل قبح فيه. وفرح جداً بهذه الحالة وأخذ ملاءة وغطى بها الصورة حتى لا يراها أحد. ومرت السنوات وهو يفعل كل أنواع الشرور والقساوة فى كل من حوله، وكانت الناس تتساءل لماذا لا تتغير ملامحه ويظل بشبابه؟ وذات يوم تقابل مع بازل الفنان الذى رسم تلك اللوحة، وأخذه إلى منزله وأدخله الحجرة ورفع الملاءة، وصدم الفنان من القبح الذى صار فى الصورة، واحتدم النقاش بينهما الذى انتهى بأن أخذ دوريان سكيناً وقتل به الفنان وأخفى جثته. وبعد زمن شعر بوخز الضمير ودخل ليرى اللوحة فوجدها قبيحة جداً، فأراد أن يغير تلك الملامح فخرج ليعمل الخير وسط الناس، ولكنه حين عاد لم يجد أى تغير على اللوحة لأن الخير لم يكن من الداخل بل ليزيل ملامح الشر من لوحته. وفى لحظة صراع وقف أمام اللوحة وتملكه الشعور بالذنب فأمسك بخنجر وطعن اللوحة عله يتخلص من رؤية الشر الذى بداخله، وسمع الخدم الذى فى قصره صرخة مدوية فدخلوا إلى الحجرة ليجدوه شيخاً قبيح الوجه مطعون فى قلبه ساقط وسط بركة من الدماء أمام لوحة جميلة الملامح لصورته وهو شاب، ليموت هذا المغترب عن ذاته الذى عاش دون أن يعرف من هو؟ تلك هى صورة الإنسانية التى لا تدرك معنى الحياة لتعيش فى حالة من الغربة. والغربة هى Alienation وهى فى الأصل فعل لاتينى له صبغة قانونية يعنى التنازل عن الملكية لآخر. فالغربة تعنى أن يكون الإنسان شيئاً آخر غير نفسه، وأنه أصبح ينتمى إلى قوى أخرى تشكله وتصنع كل شيء لصالحها وهذا ما يجعله غريباً عن نفسه. لذلك جاء التعريف للأصل اللاتينى أن الشخص يتنازل عن ملكيته لآخر، ولكن يكون ما قد تنازل عنه هو نفسه وذاته ووجوده الحقيقي. فالغربة إذن ينتج عنها الشعور بانعدام القيمة الذاتية، فيشعر الإنسان بأنه مجرد شيء أمام كل الأشياء. فتكون الحياة بلا معنى إذ لم يشعر بالقيمة فى داخله، ليدخل فى صراع مرير يؤدى إلى الإحباط والاكتئاب. أو يجعله يصارع ليبحث عن قيمته بأى صورة حتى ولو كانت منحرفة أو غير حقيقية. وهنا تكمن خطورة الغربة إذا أنها تدفعه إلى البحث عن الذات بأى صورة. فخلف كل انحرافات البشر مشكلة هوية، فالخطيئة وكل الانحرافات تتأصل داخل النفس وتكون لها أعماق قوية حينما يكون الدافع لها مشكلة هوية واغتراب. إذاً الغربة تأتى من اختلال العلاقة بين الإنسان ونفسه. ويقول الفيلسوف هيجل: النفس المغتربة هى التى تعى طبيعتها المنقسمة، أنها وجود مذبوح ومتناقض، ويجب فى الوقت نفسه أن يشرع فى تحرير نفسه من نفسه. والاغتراب نوعان، النوع الأول هو الاغتراب عن الذات، وهذا يأتى نتيجة لسلبية الإنسان فى مواجهة الفساد الداخلى والدخول فى شكل للحياة يشعر فيه الإنسان أنه مجرد شيء وسط الأشياء. يقول إريك فروم: الاغتراب هو نمط حياة يعيش الإنسان فيها كشيء غريب، ويكون غريباً حتى عن نفسه. فلم يعد يعيش كمركز لعالمه، أو محرك لأفعاله، ولكن أفعاله ونتائجها تكون قد أصبحت سادته التى يطيعها وقد يعبدها. والنوع الأخر هو الاغتراب عن المجتمع الذى يحيا حالة الغربة يشعر بضيق من المجتمع، لأنه يعيش حالة نفسية من عدم الرضى والضيق من الحياة والمحيطين به. وتكون هناك فجوة عظيمة بينه وبين الواقع المعاش. وأحياناً يلجأ المتغرب إلى أساليب دفاعية فى تعامله مع المجتمع، منها العداء والتجريح للآخرين. فتجدونه قانطاً عابس الوجه لا يحتمل أى شخص، ويُكفر كل شخص، أو قد تجده مخادعاً كاذباً، ويسعد حين يشعر بأنه خدع الأخرين، أو يتجه إلى النفاق والأساليب الملتوية. ولكن هذه الصور كلها تعنى أنه متغرب عن المجتمع، لأنه لا يعيش حقيقة نفسه فى المجتمع، بل إما أنه محبط ومنسلخ من المجتمع، أو أنه مزيف فى المجتمع. ومن نتائج الغربة أيضاً انسلاخ الفرد من كل شيء. فالاغتراب يحول الإنسان إلى شيء لا يدرك دوره ويفقد أى مشاعر لأهميته. فينسحب من كل أنشطة الحياة، فيصبح مستهلكاً فقط، فماً مفتوحاً يبتلع كل ما يقدم إليه من أكل وشرب وصور وأخبار وقصص، لأنه فقد هويته فأصبح مطية لكل من يمتطى. وينتهى كإنسان شىء من الأشياء. ويجف فيه كل ما هو إنساني، فلا حب إلا لذاته، ولا انتماء، ولا قيم، ولا فكر، ولا معنى لوجوده، فإما أن يتحول إلى كيان مدمر فى المجتمع أو يتحول إلى كيان استهلاكى نتيجة الهامشية والسلبية. فتصبح الحياة مجرد أيام بلا معنى. فإن أردنا الحياة فلابد أن ندرك معنى الوجود فيها. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس