رجل في الخمسين من عمره, عندما اقترب من أبواب المدينة كان منهكا, ورث الثياب, فقد قطع سيرا علي الأقدام مسافة طويلة اجتاز خلالها مسالك صعبة وطرقا وعرة حتي بلغ بغداد... وكان قد رحل إليها من بلدة اسمها فاراب في تركستان. ولم تكن هيئة الرجل أبونصر الفارابي ولا ملامحه, تنم عن أنه تاجر يسعي وراء الرزق, فقد بدا زاهدا ومتقشفا, وتبين أنه كان يسعي وراء العلم والمعرفة. ولعله لم يكن يفطن إلي أن بغداد التي حل بها عام 310 هجرية, كانت في الطور الثاني من أطوار الخلافة العباسية, وهو طور عصيب تبدلت فيه أوضاعها, واضطربت أحوالها, وعمت الفتن التي نجمت عن وهن الخلفاء, مما عرضهم للاغتيال في حمي مؤامرات الصراع علي السلطة. ولكن الفارابي لم يهتم في باديء الأمر بتلك الفتن, ولا ذاك الصراع, وطرق أبواب علماء المدينة, واستكمل تعلمه للغة العربية حتي أتقنها, ثم أوغل في تعلم المنطق والفلسفة والرياضيات, وكان بالموسيقي خبيرا. وكانت بغداد تحفل بمؤلفات فلاسفة اليونان, خاصة أفلاطون وأرسطو, فقد تمت ترجمتها إلي اللغة العربية ضمن أمهات الكتب. وعكف الفارابي, في محراب عزلته, علي دراسة مؤلفات أرسطو, الذي كان يلقبه العرب بالمعلم الأول, وبرع في تقهم أبعاد فلسفته, وتفسيرها وشرحها علي نحو واضح لا لبس فيه ولا غموض, ولذلك أجمع المثقفون والدارسون علي منحه لقب المعلم الثاني تقديرا لعلمه واجتهاده. وصار في أدبيات الغرب مؤسسا للفلسفة العربية والإسلامية, وهو وأن كان قد تأثر بأفكار أفلاطون وأرسطو, إلا أن التزامه كان عظيما بمباديء الاسلام. وقد ذاعت شهرة الفارابي أو المعلم الثاني, واستضافة الأمير سيف الله بن حمدان أمير دمشق, لكن الفارابي كان يكتفي بدراهم قليلة جدا يأخذها من ديوان الأمير, وهي دراهم تكفي لتدبير قوت يومه, وكان في وسعه لو أراد أن يأخذ الكثير.. ويصير من أثرياء القوم, ولكنه لم يفعل. وكان الفارابي ينكر كل ما يجري حوله, ويراه ضربا لعينا من الفساد, ولذلك توهج خياله برؤي المدينة الفاضلة ووضع كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة, في دمشق, وراجعه ابان زيارته لمصر عام 337 هجرية. وانتشر الكتاب عقب طباعته عام 1895 ميلادية, وصدرت إحدي طبعاته المصرية عام 1906, وكان قد ترجم إلي اللغة اللاتينية, ويعزي إلي الفارابي وابن رشد وابن سينا الفضل في تعريف أوروبا إبان عصر النهضة بالتراث الفلسفي اليوناني. والسؤال الآن: ما هو جوهر المدينة الفاضلة؟... إنه العدل الذي يفضي إلي تحقيق السعادة للبشر.. وبدون العدل تضطرب الحياة والبشر, ولذلك ينبغي أن يتحلي رئيس المدينة الفاضلة بالعدل, وقد أفرط الفارابي في خلع كل مكارم الأخلاق علي هذا الرئيس, فهو القدوة المثالية. وتلك كانت حدود الرؤية السياسية في زمن الحكم الفردي المطلق, فلم يكن بعد ثمة حديث عن نظام ديمقراطي, ولا تداول للسلطة. ومن ثم كانت المدن الفاضلة التي تفتق عنها خيال المفكرين والفلاسفة, ومنها جمهورية أفلاطون ويوتوبيا السير توماس مور, لا تعدو كونها أحلام يقظة جميلة, ولكنها أضاءت الطريق نحو المستقبل. واللافت للانتباه أن حلم المدينة الفاضلة ظهر في أفق القرن الثامن عشر, وهو قرن تبلور الايدويولوجيا الرأسمالية والماركسية. لكن الحلم سرعان ما تلاشي, وصار كابوسا في أتون التطبيق السياسي لهذه الايدلوجيات. لكن حلم العدل لا يزال متألقا... وهو ما تجلي إبان ثورات الربيع العربي. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي