يصعدون على المسرح، ويتقنون أدوارهم المرسومة لهم، وينغمس المشاهد فى مراقبة تلك النفوس التى تخلع صفاتها الشخصية وتلقى بها بعيدا؛ لتلبس أخرى لا صلة لها بها، وتتحد بها، وتنفعل بانفعالاتها" المصطنعة"، وتصطخب الأيدى تصفيقًا لهذا العبقرى الذى برع فى أداء " دوره"! ثم ينصرف الناس، ويأوى صاحبنا إلى الكواليس، لينزع عنه أصباغه وثيابه المستعارة، ويرتدى ذاته وملابسه الحقيقية! ولكن صورته الذهنية لدى جمهوره هى صورة دوره الذى أداه على المسرح، لا صورة شخصيته الحقيقية، التى تسكن الكواليس فارغةً من الأصباغ والألوان.. والمحنة أن يصدق صاحبنا أنه ذلك الذى على المسرح، وليس ذاك الذى فى الكواليس، فيكون كأشعب! وأشعب من مشاهير أهل الطمع، وقد أزعجه الأطفال يومًا، فأراد صرفهم عنه فقال لهم: فى دار فلان وليمة، وهو يكذب فى ذلك بلا شك! فهرولوا وتسابقوا وتنادى بعضهم: هيا لندرك لنا مكانا فى دار فلان! فلما رأى تسابقهم وتدافعهم لكى يجد كل واحد منهم مكانًا لنفسه، قال: يبدو أن الأمر صحيح! ومالى لا أسابقهم فلعلى أدرك نصيبى من الوليمة!! هذا النموذج الأشعبى له صور متعددة فى حياتنا المعاصرة: كالذين صدَّقوا كذبهم، وتمادوا فى إتقان أدوارهم، وأغراهم اللقب الشعبى: الشيخ أو الداعية أو السياسى أو الثورى، ووسعتهم الشاشات بضيائها اللامع، ومحافل الحشد الجماهيرى هنا وهناك، وتركوا صورتهم فى الكواليس، تشيخ وتتوحش كما شاخت وتوحشت صورة دوريان جراى فى رائعة أوسكار وايلد! وما نحن فيه يكشف بجلاء التسابق البشرى الرهيب فى "مَسْرَحَةِ" الإنسان فينا، بالاعتناء بالظاهر، وإتقان رسم اللوحات الزيتية أمام الناس الذين يتاجرون بأحلامهم وظمئهم المتعطش إلى النقاء والصدق، ويُدَبِّجُون الشِّعَارات، التى تعزف على قيثارة المساكين، وتداعب أحلامهم، وينسون فى "مسرحة الحياة" أن الله يعلم ويرى، وأن لكل مسرحية فصلًا أخيرًا يقِف بالإنسان بين يدى من يعلم السرَّ وأخفى! لقد قال لى صديقى: يا عزيزى! السياسة نوع من أنواع النصب، وكلهم كذابون! فقلت له: ليس صحيحًا أن الإنسان خُلقَ فى هذا الوجود؛ لكى يمارس الكذب، ودينى العظيم ليس أسطورةً، نرددها على بوابة الأحلام ونتحدث عنها كأنها خرافة غير قابلةٍ للتحقيق! فقال لى: ألست أحدَ الذين يطلعون على ما فى "الكواليس"، وتعلم أسرار كثير من "رواد التمثيل" فى هذا العصر؟! قلت له: محنة الإنسان فى التقليد الذى يقيده فى شخص أو حزب أو جماعة، أو يربطه بطموحات الناس وآرائهم، ويُعَلِّقه بأعينهم، فيطلب رضاهم، ويسعى إلى تصفيقهم، بل غاية الإنسان الصادق أن يكون مخلصًا، حرًّا من هذه الأصنام البشرية، متوجهًا إلى ربه تبارك وتعالى، سائرًا خلف من أفخر به وأنتسب إليه وأسعى أن أكون على طريقه، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومن أخطأ هذا الهدف انقلب، وانتكس، وترك حمل الرسالة، وكسر المصباح، وترك الطريق كله؛ لأنه رأى ما وراء الوجوه المستعارة، والشعارات المخملية، وهذا من أكبر الحماقات التى يقترفها إنسان فى حق نفسه! متى كانت قاعدتنا أصلا فى هذه الدنيا أفعالَ الناس؟ ولماذا لا أقوم أنا بالأمر فى نفسى وخاصة أمرى؟! ليست وظيفتى النظر إلى غيرى، ولا أن أكون من الذين يحرصون على غرس جناحين لكل إنسان لكى يصبح ملاكًا لا يخطئ، ولكنى فى الوقت نفسه لن أقبل بالخطأ منهجًا حياتيًا، ولن أشطب من حياتى كلمةَ الصباح؛ لأن هناك ليلًا طال واستبد!