قديما كانت لنا جارة طيبة رزقها الله بخمسة من الذكور وشاء القدير أن يتوفى زوجها ويترك لها حمل الأبناء الذين عكفت على تربيتهم بكل ما يرضى الله من تقاة وتفوق ونقاء، وكان أكبرهم "ممدوح" أو د.ممدوح كما كان يناديه أهل الحى، مازلت أتذكر ملامحه جيدا وتلك الابتسامة السمحة على وجهه وهو يداعب أطفال الجيران فى طريقه إلى الجامعة، وأنا واحدة منهم. تخرج ممدوح طبيبا جراحا وتقدم لخطبة فتاة جميلة من نفس الحى، وفى أحد الأيام حصل ممدوح على رسالة الماجستير وقرر الأهل إكمال الفرحة بإتمام الزفاف فى نهاية الأسبوع يوم الجمعة ومن أجل الاحتفال، اصطحب أصدقاء العريس صديقهم الحميم لنزهة على شاطئ البحر فى الإسكندرية فى يوم عليل ولكن موجة غادرة قتلت فرحة ممدوح وابتلعت معها حياته وآماله.. نعم مات ممدوح وعاد محمولا مكفنا لأمه التى نصحها الجيران بألا تصرخ أو تنتحب حتى لا تؤذى ابنها الشهيد، وحتى توفى جزاء الصابرين، لم أكن قد أتممت عامى السادس بعد، ولكنى أدركت أن هناك خطب جلل قد حدث حينما توقفت الحياة فجأة فى شارعنا ومنزلنا وحين رأيت رجالا تبكى كالأطفال ونساء يلتحفن السواد فى كل البيوت استعدادا لوصول الجثمان ليلا، وحينما وصل الجسد المسجى، توالت التنبيهات على الأم ألا تنوح أو تنتحب وحاولت أمى ألا أشهد هذا المرأى حتى لا أنزعج أو أتألم إلا أننى سمعت الأم، نعم سمعتها لحظة احتضنت وليدها، لم تقل ما يغضب الله، لم تشق الجيوب أو تلطم الخدود ولكنى سمعت كلمة واحدة شقت جوف الليل وسكونه ولا أدعى أنها قد شقت قلب كل من سمعها، كلمة واحدة أودعتها كل عذابات السنين وأنات الفراق، كلمة لم أكن أعرفها وقتها أو أفهمها ولكنها شقت قلبى أنا الأخرى عندما سمعتها حين أطلقت كلمة واحدة بصوت بلغ عنان السماء، قائلة: "يا ضنايا"! كانت المرة الأولى التى أسمع فيها كلمة كهذه، يا الله، ماذا فعلت بى تلك الأحرف؟ ذرفت دموعا لم أعرف لها سببا غير وقع هذه الكلمة على أذنى ومنذ ذلك اليوم طبع فى ذاكرتى ومخيلتى أن الأم إذا ما أرادت أن تستودع كل محبتها وحنانها ووداعها لابنها فلن تجد أشمل من كلمة "يا ضنايا" لتلخص بها كل معاناتها منذ ولادته وحتى فقده وارتبطت تلك الكلمة بحياتى على امتداد سنوات عمرى فكانت هى المفتاح السحرى لإجابة طلبات أمى إذا ما يوما نطقت بها، فمثلا إذا قالت: "قومى ذاكرى يا ضنايا"، فلا أتردد أبدا بل على الفور أسرع لتلبية الطلب أيا كان فدائما ما كان لهذه الكلمة أثرا سحريا على نفسى، وإذا ما نطقت بها سيدة عجوز لا أعرفها أو تعرفنى طالبة شيئا ما، فلا أتوانى أو أتردد لحظة عن تنفيذه. عندما كنا نفطر فى رمضان الماضى، أعلنوا خبر استشهاد جنودنا وهم يفطرون أيضا وعندما سمعت أمى الخبر، ألقت بإحدى الصحون التى حملتها يداها صارخة بنفس الكلمة التى نطقت بها أم ممدوح "يا ضنايا يا ولادى" وهى نفسها التى انطلقت منها حين انسحق أتوبيس الصغار تحت عجلات القطار العاصف. وحقيقة فإنى لم أعد أعرف إلى متى ستصرخ أمهاتنا بتلك الكلمة فى ذلك الوطن المنهك الذى أتعبته النكبات والابتلاءات، إلى متى ستصرخ مصر "يا ضنايا" مع كل ابن لها يموت فى حادث قطار أو غرق مركب أو يستشهد على حدودها أو فى نقطة حراسة أو فى ميدان التحرير، مع كل حادث سيارة أو ماتش كورة أو منهزما فى معركة طويلة مع المرض دون علاج. مصر تفقد أبناءها واحدا تلو الآخر، تفقد المخلصين منهم، تفقد هابيلا فى طلعة كل صباح مخلفا بعده قابيل ليس نادما على قتله أو متسائلا فيما استباح دمه ولا عزاء لك يابلادى!