عندما أقر مونتيسكو فى كتابه الشهير روح القوانين The Spirit Of The Laws، الصادر فى عام 1748، نظرية الفصل بين السلطات، قصد من ذلك الرغبة فى عدم تغول سلطة من سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية على السلطة الأخرى.. وعلى الرغم من أن الفصل بين السلطات هو السند الرئيس فى النظام الرئاسى وشبه الرئاسى، بينما التداخل والتعاون بين السلطات هو فحوى النظام البرلمانى، إلا أنه لا يوجد عمليًا فصل مطلق أو تعاون مطلق بين السلطات الثلاث. وعامة، فإنه ومنذ ذلك الوقت قصد بنظرية الفصل بين السلطات أن المقصود هو عدم تغول السلطة التنفيذية بشكل محدد على السلطتين التشريعية والقضائية.. بعبارة أخرى، لم يكن مؤسس النظرية وأساتذة العلوم السياسية والسياسيين وقادة الرأى المتحدثين عنها حتى يومنا هذا يتوقعوا أن يحدث فى يوم من الأيام أن تتغول السلطة التشريعية على السلطتين التنفيذية والقضائية، ومن باب أولى تغول السلطة القضائية على السلطتين التنفيذية والتشريعية. هذه القضية نثيرها على هامش العلاقة بين السلطة القضائية، وكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد ثورة 25 يناير.. ففى الأشهر القليلة الماضية تعرضت السلطة القضائية للعديد من الانتقادات لعدة أسباب أولها: تبرئة قتلة المتظاهرين فى كافة المحافظات، وثانيها: البقاء على ثلة من المعينين فى الجهاز القضائى من أنصار النظام السابق، وهؤلاء يتهمون باتخاذ مواقف ما زالت تمالئ هذا النظام ومن ذلك رفض العزل السياسى لهؤلاء ما مكنهم من الترشح للبرلمان ولرئاسة الجمهورية، وثالثها: اتهام القضاء بإصدار أحكام ضد السلطة التشريعية ما كان يحق له أن يصدرها من وجهة نظر البعض وعلى رأس ذلك عدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب، ومن ثم قرارها بحل المجلس، وحل الجمعية التأسيسية الأولى لوضع الدستور. هذه الأمور وأمور أخرى من المؤكد، أنها كانت لها ردود أفعال، وهى تصاعد ردود الأفعال وسخونة المواقف بين السلطة القضائية وكل من السلطتين التنفيذية والتشريعية على النحو، الذى جرى فى الخلاف حول مسألة خروج النائب العام، وهى قضية افتعلها الأخير لاسيما بعدما ثبت أنه بالفعل كان يتفاوض على الدولة التى يذهب إليها سفيرًا، وكذلك دخول بعض نواب مجلس الشعب السابقين البرلمان مرتين كان آخرها أمس الأحد، وذلك بغرض الاجتماع داخله لمواجهة حكم المحكمة الدستورية ب"حل البرلمان"، وأخيرًا وليس آخرًا رفض المحكمة الدستورية ما جاء فى مواد الدستور بخصوصها، وإعلانها أنها فى حالة انعقاد دائم، رغم أن ما طلبته لتنقيح مشروع الدستور بخصوصها لا يعدو أن يكون محدود القيمة، ورغم أن كل ما حمله المشروع الجديد أفضل مما حمله دستور 1971. وفى هذا الشأن يجب أن نشير إلى أن المحكمة الدستورية لم تنطق ببنت شفاه لتعديل أوضاعها إبان تعديل الدستور تحت حكم مبارك فى تعديل الدستور 2005 و2007، وهو الحكم الذى كان خلاله يعين رئيس المحكمة الدستورية، ويوعد البعض بالتعيين فى مراكز تنفيذية بعد سن التقاعد.. ولا جرو بالقول أن حكم مبارك كله شهد تسييسًا للسلطة القضائية لم تبلغ مثله فى العهدين السابقين لهما، وسط صمت من قبل البعض واستمزاج البعض الآخر. غاية القول أننا مقبولون على حالة من الانفعال بين السلطات الثلاث وبعضها البعض، وهنا تقف السلطة القضائية على أهبة الاستعداد لافتراس كل ما يهيئ إليها بأنه ينتقص من سلطة القضاء.. وواقع الأمر أن الاحترام تكنه غالبية الشعب المصرى بل وربما إجماعه لاستقلال القضاء والقضاة، غاية ما هنالك أن هناك خشية من أن يصبح شعار استقلال القضاء شماعة لدى البعض لاستمرار حصانتهم وتميزهم وتغولهم. إضافة إلى ذلك، هناك خشية من حرص السلطة القضائية على استقلال وضعها، دون أن تراعى هى ذاتها استقلال السلطتين الأخريين. وعلى الله قصد السبيل