مامعنى الحرية المطلقة للفن والإبداع؟ وما علاقتها بسكان إقليمها وطبيعتهم وتقاليدهم وعاداتهم وعقائدهم؟ وما مدى تأثر السلوك البشرى بهذه الحرية؟ أسئلة مهمة يجب طرحها والإجابة عنها خاصة بعد أن أرسلت الولاياتالمتحدة مؤخرا فريقًا موسيقيًا لتعليم أولاد الكهوف والجبال فى أفغانستان موسيقى البوب! ولكى نجيب عن هذه التساؤلات نعود إلى ظهور الفن كنتيجة للرغبة فى محاكاة الطبيعة كغريزة فطرية للبشر الذى يريد التقليد، فتتحول التجربة إلى عادة وسلوك مكتسب، فكانت البدايات فى رسومات طبيعية لما حول الإنسان من مظاهر طبيعية تماما تخلو من الخيال، ثم ما لبث أن تدخل الخيال ليصنع فارقًا بين فنان وآخر، وهذا ما يسمى إبداعًا يرتقى به الفنان خطوة بعد أخرى بقدر إضفاء وجهة نظره على هذا الخيال، وكلما ارتقت وجهة النظر وزاد قبولها وراجت فكرتها وخدمت الواقع من حولها وأثرت فى النفس اقتناعا ومتعة وطرحا، ونجح الخيال فى صياغتها، كلما كان الإبداع موفقا وناجحا وعلامة فنية مضيئة. فنجحت مصر قديمًا بفنها وإبداعها فى تطبيق ما سبق فنال إبداع فن المصريين إعجاب العالم الفن بفروعه المتعددة خاصة فى مؤازرته وتغذيتة للشعور الوطنى والقومى واستثارة النخوة الكامنة فى الصدور والقلوب ضد الطغاة. فهتف الشعب فى وجه طغاة المماليك: ايش تاخد من تفليسى.. ايش تاخد يا برديسى، وهتف فى وجه الخديو توفيق: يا توفيق يا وش النملة.. مين قالك تعمل دى العملة.. و"الميه فى الأبريق.. يارب خد توفيق" والسكر فى الطوابى.. يارب انصر عرابى"، وظهرت أغنية "ياعم حمزة أحنا التلامذة.. واخدين ع العيش الحاف.. والنوم من غير لحاف.. يحيا الوطن.. جونى يا خلايق نصاب وسارق بيسف فيها مبلط ولازق حاجة بالقوة عامل فتوة نازل فينا تمويت تقولش كتاكيت ياحنا ياهوه يحيا الوطن "وتتوالى إبداعات سيد درويش وبيرم فى "أنا المصرى" وإبداعات بديع خيرى فى "ياعزيز عينى انا بدى أروح بلدى.. يا عزيز عينى والسلطة خدت ولدى" و"قوم يا مصرى" ثم الرافعى فى "اسلمى يامصر" والتى يقول فيها: لك يا مصر السلامة.. وسلاما يا بلادى.. إن رمى الدهر سهامه اتقيها بفؤادى.. واسلمى فى كل حين. أما عن الأفلام والمسرحيات التى تعتبر إبداعا أثر بالإيجاب على المجتمع فحدث ولا حرج، ساهم فيها المبدعون يوسف وهبى والريحانى وبديع خيرى والمهندس وغيره الكثيرون انتهاء بالمبدع محمد صبحى، الذى صاغ فى أعماله الفنية حلولا لمشاكل مجتمعية وأوبريتات هاجم فيها الظلم والطغاة مواربة وعلانية، فالفن والإبداع خادم لسلوكيات المثالية ومحارب للشذوذ الفكرى، ومهيئ الطريق لرؤية ذات تطلع يملأ الأفق لا فكر غوغائى غير صحى مثير لشهوات النفس التى هى ضد المثالية. المقصود بالحرية المطلقة ليس طمس طبيعة وتاريخ وبيئة الأمم، وإنما إحياء لقومياتها، وليس إطلاق العنان فى التفاهات والسطحيات، التى تبتعد بالفن عن الإبداع، وإنما هو عدم التقييد أوالحجر على فكر ما وعدم توجيه هذا الفكر لاتجاه معين خادم لغرض ما أو للسلطة ولولى الأمر، وسعى هذا الفن والإبداع لتوليد وتجديد الشحنة الإنسانية الغيورة على حرية الفكر وعلى تفاليده وعاداته ومعانى الإنسانية الشفافة النقية، والنجاح البارع للفن والإبداع أن يحافظا على مقومات وكيان البيئة التى أوجدتهما، فالفن النوبى مثلا نجاحه فى أن يحافظ على أصول النوبة، كذلك فن السمسمية والبمبوطية فى مدن القناة، والذكر والمديح والتواشيح فى الصعيد، وغيرها فتظل هذه الفنون محافظة على أهلها كنوع من الحفاظ على تراثها وتاريخها.. كذلك يكون النجاح للفن والأبداع فى العلو والسمو بالإحساس وشفافية الحكم على الأشياء. فماذا قدم الفن والإبداع لمصر منذ قيام الثورة؟ وما هى رسائل الطمأنينة والأمل فى الغد، التى بثها فى نفوس الشعب، الذى يقتله القلق والخوف من المجهول..؟ أما غير ذلك مما يسمى– ظلما وعدوانا– من فصيلة الفن والإبداع فالغرض منه مقصود ومتعمد، وهو تغيير وتغييب الهوية وتوجيهها إلى طريق مختلف تماما لا يسمن ولا يغنى من جوع، تضيع فيه سلوكيات وعادات وتقاليد، وتحطم فيها الأخلاقيات نتيجة استبدال الشخصية الذاتية بشخصية أخرى ممسوخة وغير ملائمة للمجتمع تفكر بطريقة أخرى وتقاليد أخرى وينتهى بها المطاف إلى ابتداع شخصية يشوبها المسخ أكثر مما يعتريها من أهداف الإبداع، وهى جمال وجاذبية وإنسانية الفكرة، تماما مثل إرسال فرق البوب لتعليم شباب أفغانستان عزف موسيقى البوب فى كهوف الجبال.