هناك سحر ما لا يمكن نكرانه فى هذا البلد الكريم الواسع الذى وصفه شاعر الإغريق الكبير قائلاً "إنه هبة النيل" والذى ذكره بالاسم قرآننا الكريم وكافة الكتب المقدسة، سحر جعل البعض يحوله إلى مثل شعبى وتقاليد كلامية ..أفلا يقال إن من شرب ماء النيل لابد له أن يعود) أو لم يقل الكاتب لزتش موريس باريس تعقيباً على المثل الشائع (شاهد فنيسنا ثم مت) (شاهد النيل ثم مت). هذا السحر تمثل بالكثير من الكتب والأشعار التى حملت أسماء كبار الكتاب والشعراء فى العالم .. كل من زار مصر أحس بسهمها الذهبى مغروز فى قلبه.. وراح بعيد عن عشقه لها وهيامه فى قمرها وليلها وشوارعها.. وناسها وحتى كتابها الذين عاشوا فى رحابها أصابهم هذا السحر نفسه، فكثير ممن عاشوا بل غرقوا فى أجوائها كنجيب محفوظ وافتتانه بالقاهرة وأحيائها الشعبية أو يوسف إدريس وولعه بريفها وشخصياتها القروية، وها هو مثال جديد يأتينا هذه المرة من اليابان عن طريق واحد من رساميها الكبار هو (كازوكنوشيت) الذى زار مصر لأول مرة سنة 1994، ثم عاد إلى زيارتها أكثر من مرة خلال الأربعة عشر عاماً الماضية، وطلع منها بمجموعة كبيرة من اللوحات أصر على أن يعرضها لأول مرة فى القاهرة تكريماً لهذه المدينة التى أحبها والتى سحرته وجعلته يرسم خلال الأربع عشرة سنة الماضية ما يقرب من المائة لوحة عملاقة عنها يعبر فيها عن هذا السر الذى تملكه، وجعله ينسى كل شىء حوله ليغرق فى تاريخها الفرعونى القديم، وليعرض لوحات تعبر عن هذا الطوق الذهبى الذى أمسك بقلبه. أبو الهول والأهرامات تحتل المقام الأول فى هذه اللوحات العملاقة التى يقدمها فى معرضه المصرى، أبو الهول من كافة الزوايا ومن خلال إضاءات مختلفة متنوعة يبدو لنا فى كل مرة وكأنه يسر إلينا حديثاً هامساً عن الدنيا والتاريخ والبشر، ثم الأهرامات الثلاثة التى رصدها الرسام أيضاً من خلال أكثر من زاوية من خلال أكثر من مصدر ضوئى. ثم هناك هذه السماء الزرقاء الصافية التى تمثلت فى أكثر من لوحة، وهكذا القمر المستدير ككرة من ذهب الذى يضىء أكثر من لوحة. وأوضح تماماً أن الليل المصرى والقمر المصرى قد تملأ نفس الفنان اليابانى حتى الثمالة يبدو لنا فى لوحاته الليلية عاشقاً متيماً بالقمر.. والمآذن والأحياء الشعبية .. يعطيها لوناً أزرق شفافاً فتبدو لنا من الحلم والواقع أما اللون الترابى المائل للحمرة فهو اللون الذى الذى اختاره للزمن القديم ..الزمن الفرعونى. نادرة جداً اللوحات التى ترى فيها بشراً "هناك لوحة واحدة صور فيها (كينوشيتا) معبد الأقصر من خلال ثلاثة رجال من الصعيد جلسوا فى ظل الأعمدة يتحدثون، ولعل هذه اللوحة التى أوحت للرسام بالعنوان الذى اختاره لمعرضه وهو (إلى من تبقى). الأقصر ومياه النيل وأعمدته الغارقة بجلال فى ظلال تبدو وكأنها منحة السماء احتلت حيزا من معرضه الذى يبدو وكأنه شهيد حب ليعبر فيها عن السحر الذى أصابه. إنه يقف وقفة العابد أمام حضارة الفراعنة المجيدة.. أمام أهراماتها ومعابدها وأبو الهول، ثم يقف وقفة الشاعر أمام القاهرة الإسلامية بزرقة ليلها وبهاء قمرها وشموخ مآذنها .. وكأنه يسير إلينا نحن الباقين على هذه الأرض الجليلة المقدسة بالوصية التى تحملها هذه الآثار الشامخة إلينا لتذكرنا بأجدادنا وحضارتنا وسمونا. لقد أصاب قمر مصر الأصفر المستدير الفنان اليابانى بسهم فى قلبه فتفجرت دماؤه لوحات عملاقة تشهد بحبه وتشهد بعراقة حضارتنا وقدرتها الدائمة على الإلهام والإبداع.