كان أداء "جميل راتب" في دور " بارتلمي" أو "فرط الرمان" في فيلم وداعا بونابرت نموذجا للأداء المنضبط ..ينفذ بعناية تعليمات المخرج والمساعدين..كان يعلم أنه يجسد شخصية لم تكن محبوبة للمصريين وقد حملها "السيناريو" كل خطايا "المقاومة" وصولا للخيانة ..لم يقرأ جميل طبعا مراجع خارجية تتحدث عن الشخصية التاريخية وكان في كل الأحوال يعلم عدم إلتزام "جو" الحرفي بالتطابق التاريخي مع الدراما التي يصنعها ومع ذلك كنا نستمتع بأداؤه وكان يضفي جوا مرحا أثناء التصوير لعدم تذكره جمل الحوار فرغم محاولته المتكررة لم يكن أبدا يصور مشهده منذ المحاولة الأولى ولكنه كان يتقبل ضحكات المساعدين بروح راقية وحتي المشاركة في الضحك.. علي العكس كان أداء "محسنة توفيق" ..كانت مدرسة أخرى تماما..كانت تستغرق في الشخصية إلى درجة التوحد الكامل..وفي أحد المشاهد المشحونة سقطت محسنة فيما يشبه الإغماء الحقيقي..وكنت أحد الذي هرعوا إليها وأمسكت بيدها لأجدها باردة كالثلج وعندما عادت بعض الدماء إلى وجهها تنفسنا جميعا الصعداء إذا حسبنا أننا خسرناها..وفي غرفتها وأثناء إستعداداتها للمشهد القادم سألتني عن رأيي في أدائها..ولما كنا أصبحنا أصدقاء قلت لها صراحة أننا أصبنا برعب حقيقي وأن معرفتي المحدودة بنظرية " ستانيسلافسكي " تحتك على القول بأن في هذه "الشعرة" الدقيقة بين التمثيل وبين التوحد بالشخصية يكمن فن الأداء كله.. هذه المساحة الدقيقة من "السيطرة" التي يمتلكها الممثل على الشخصية التي يؤديها هي الفن الحقيقي وليس الإستغراق الكامل الذي قد يصل إلى درجة المرض والذي قد يدفع عطيل إلى خنق ديدمونة كل يوم على خشبة المسرح لو لم يسيطر وتكون له اليد العليا على الشخصية التي يجسدها..طبعا غضب محسنة وأتهمتني بالمراهقة الفكرية ..ولكني كنت عانيت كثيرا مع شبيه لمحسنة هو "أحمد زكي" الذي كنت أراه ممثلا فريدا في تاريخ السينما المصرية وربما العالمية.. كان زكي يندمج لدرجة التوحد العميق حتي أثناء البروفات..وكنت أري ذلك جنونا مطبقا: يا أحمد دي بروفة..فكان يرد : معرفش أعمل غير كده..وفي الحقيقة أني إستغليت هذه الحقيقة المرة عندنا مثل أمامي احمد زكي في فيلم "البطل" فكنت أومئ لطارق التلمساني بإدارة الكاميرا أثناء البروفة التي كانت في بعض الأحوال أفضل في اللقطة "الرسمية" ..وفي الواقع فأن الممثل المصري في الغالب هو ممثل هاو..يقدم أفضل ما عنده في المحاولة الأولى للتصوير وربما في البروفة وترهقه الإعادات الكثيرة ولا تسعفه "مهارته" المهنية في إضافة شيء يذكر إلا في حالات نادرة. ..كان يوسف شاهين أستاذا حقيقيا في فن إدارة الممثل السينمائي ولم نكن وقتها ندرك الفرق كثيرا بين نوعي التمثيل المسرحي والسينمائي فكان إستخدام "جو" للعدسات مبتكرا ومغامرا..وكانت تعليماته شديدة الدقة في كيفية التعبير عند التصوير بالعدسات المختلفة..فالممثل الذي يؤدي نفس الأداء وهو في لقطة بعيدة يبدو كنقطة في محيط أما مع الأداء أمام عدسة مكبرة قريبة تبدو فيها رمشة العين وحدقتها بحجم هائل فهو يحتاج إلى سيطرة وحرفية وإلا تحول الأداء إلى هزل ومبالغة لا تحتمل.. وكان ممثلين من نوع أحمد زكي الذي يجب ان "يأخذ راحته " في التمثيل لا يعترف كثيرا بموضوع العدسات وأذكر أننا كنا نصور مشهدا لزكي بعدسة قريبة "85 فيما أعتقد" في فيلم "زوجة رجل مهم" لمحمد خان وكان زكي أمام البوتاجاز وفي يده براد يغلي الماء فيه وأدي الممثل العبقري المشهد كأفضل ما يكون غير أن المصور طالب بإعادة اللقطة فما كان من زكي إلا أن قذفه ببراد المياه المغلية وكاد يطيح بوجه المصور محسن أحمد الذي قال أن أحمد أثناء إنفعاله خرج من "الكادر" لأن العدسة قريبة وكان عليه أن يقلل حركة وجهه أثناء أداء اللقطة وعندما قال زكي أن هذا يقيده كممثل رد عليه خان "بطريقته" ..يا أحمد لو عايز تمثل براحتك " إشتغل مسرح وإتحرك فيه زي ما إنت عايز.. إنما السينما عدسات..عدسات..طبعا إنفعل زكي وإنفجرت خناقة توقف فيها التصوير يوما كاملا حتي عاد الممثل الموهوب إلى فيلمه الكبير.. كانت المرة الأولى التي أري فيها مخرجا يستعمل عدسة واسعة "18" في لقطات قريبة غير مشوهه..كان جو مغرقا بما نسميه "عمق الكادر" الذي يحفل بالحركة ويملأ الكادر بالحيوية والمصداقية ..وكان أيضا أستاذا في اللقطة المركبة الطويلة وبارعا في الوقت ذاته بالقطع cut ..على عكس أساتذة جيله مثل حسن الإمام الذي كانت "اللقطة – المشهد" أفضل مواهبه هروبا من التقطيع وإقترابا من فن المسرح..أما بركات مثلا فهو إبن نفس المدرسة التي تبرع في إغناء الكادر الثابت بأعماقه المختلفة والذي تجسد بطريقة مذهلة في فيلم "في بيتنا رجل" وخاصة مشهد الأسرة في إفطار رمضان!!