انطلاق مسابقة "رواد العربية في الإعراب" بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    محافظ بني سويف: حصول 18 مدرسة وروضة على شهادة اعتماد جودة التعليم    سعر الذهب اليوم الثلاثاء في مصر خلال التعاملات المسائية    محافظ المنوفية يتابع ملفات التقنين والتصالح و«حياة كريمة»    اتحاد المشروعات الصغيرة يكرم اليوم السابع على تغطية ملف الصناعات الصغيرة    البيئة: تشكيل لجنة من أساتتذة الجامعات لدعم دور الوزارة في ملف التشجير    بريطانيا تفرض عقوبات على القوات الجوية الروسية و10 كيانات مرتبطة بإيران وموسكو    وزير الخارجية الأمريكي: وقف إطلاق النار الحل الأمثل لإعادة الأسرى    وسام أبو على يقود هجوم فلسطين ضد الأردن فى تصفيات كأس العالم 2026    تصفيات كأس العالم، قطر تتعادل مع كوريا الشمالية    رسميا.. الزمالك يعلن عودة الجزيري للقاهرة بعد انتهاء فترة التوقف الدولي    "محامي عمل في سويسرا".. من هو رضا حنفي مترجم كولر الجديد بالأهلي؟    رونالدو: 4 لاعبين يمكنهم الفوز بالكرة الذهبية.. وريال مدريد ليس محظوظًا    غموض موقف 5 زملكاوية في الميركاتو الصيفى    رسميًا..الزمالك يعلن تعاقده مع السنغالي سيدي ندياي 4 مواسم    طلقة بالرأس.. تأجيل محاكمة 7 متهمين بقتل سائق بالقليوبية    بالأسماء.. 5 مصابين في تصادم سيارتين على طريق بورسعيد الجديد بالدقهلية    حالة الطقس غدا الأربعاء 11- 09- 2024 في محافظة الفيوم    التفاصيل الكاملة لإطلاق سيارات جديدة بديلة للتوك توك بالجيزة    ترقبوا اعتماد وزير التعليم نتيجة الثانوية العامة 2024 الدور الثاني    ضبط سلع منتهية الصلاحية وتحرير 14 محضرا تموينيا بالأقصر (صور)    محافظ مطروح يتابع استعدادات استضافة الأسبوع الثقافي لأطفال المناطق الحدودية    مشاركة متميزة للموسيقات العسكرية المصرية في المهرجان الدولي السادس عشر بموسكو    بلينكن: التوافق على أكثر من 90% بالقضايا المتعلقة فى اتفاق غزة    والدة الفنانة مريم وجيه: فخورة بوجود لوحات ابنتى بين كبار الفنانين    قبل ذكرى وفاته.. اليوم السابع أمام مقبرة فنان الشعب سيد درويش بالإسكندرية.. فيديو    شروط اشتراك الناشرين في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025    سعاد صالح تكشف مفاجأة بشأن خلع العروسة للحجاب ليلة زفافها    فاكسيرا توفر تطعيم الإنفلونزا لموسم شتاء 2025 بسعر 350 جنيها    بالصور- محافظ أسوان يتفقد الأعمال الجارية بمشروع مركز طب أسرة البصيلية    مبادرة «بداية» وحقوق الإنسان في مصر    وزير الخارجية الأمريكي: وقف إطلاق النار بغزة يصب في مصلحة إسرائيل    قرار من وزير الداخلية برد الجنسية المصرية ل36 مواطنًا    رئيس مدينة إسنا يعقد الاجتماع الأسبوعي لمتابعة مستجدات مشروعات حياة كريمة    نائب محافظ الأقصر يسلم مساعدات مالية ل500 سيدة من الأرامل والأيتام    الموعد الرسمي لإجازة المولد النبوي الشريف    استعلم الآن واعرف كليتك.. رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2024    مصدر خاص ل "الفجر الرياضي": قرار معروف صحيح بشأن إبعاد ماني عن تسديد ركلة الجزاء امام بوروندي    محافظة الجيزة تطلق 36 قافلة بيطرية مجانية شاملة لدعم المربين    مواليد 5 أبراج فلكية «توكسيك».. احذر عند التعامل معهم    الداخلية تنظم الملتقى السادس لشباب المناطق الحضارية الجديدة في العاصمة الإدارية    لو اشتريت ايفون 16.. تعرف على محتويات "العلبة"    بيت الزكاة يستعد لأول حملات توزيع ملابس ومستلزمات على الطلبة الأيتام    مطالبا بمحاكمته.. برلماني يعلق على تحريض أستاذ جامعي لسرقة الغاز والكهرباء    بالأرقام: 54 ألف عنصر أمني و1649 مركزا انتخابيا و1634 مترشحا ومترشحة في انتخابات الأردن النيابية    رابط نتيجة الثانوية العامة الدور الثاني 2024 بالفيوم    ثقافة المنيا: برنامج المواطنة يواصل فعالياته لتعزيز الهوية الوطنية بقرية تنده    رئيس الوزراء يستعرض مخططا لتطوير مستشفيات قصر العينى.. زيادة المساحة ل 280 ألف متر مربع.. تقليل مدة إقامة المريض بالغرفة.. العمل بنظام الفترات التبادلية لغرف العمليات.. ومدبولى: مشروع كبير لتطوير "عين شمس"    فريق طبى بمستشفى المطرية التعليمى يجرى جراحة نادرة بفصل إلتحام الفكين لطفلة    من هو «السفير تميم خلاف» المتحدث الرسمي الجديد لوزارة الخارجية والهجرة؟    وزارة التعليم العالي تغلق كيانا وهميا جديدا بمحافظة الشرقية    ارتفاع أسعار النقل والمواصلات 29.8% على أساس سنوي خلال أغسطس الماضي.. و10.7% على أساس شهري    تعرف على قرعة مجموعة القاهرة بدوري القسم الثاني «ب» ومبارايات الجولة الأولى    سعاد صالح: زواج التجربة حرام مثل المساكنة.. ويفتح باب الزنا    مبارزة الانتخابات الأمريكية.. كل ما تريد معرفته عن مناظرة ترامب وهاريس    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة مع بداية تعاملات اليوم الثلاثاء    «أونروا»: جيش الاحتلال الإسرائيلي اعترض تحت تهديد السلاح قافلة متجهة لشمال غزة    مجزرة خان يونس.. إسرائيل تُعلن القضاء على 15 عنصرا من حماس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمّان.. ليست غمامة صيف
نشر في اليوم السابع يوم 12 - 08 - 2024

الدخول إلى الأردن لا يحتاج إلى تأشيرة، وهو شيء بالنسبة لي عظيم ومُعتبر. على غير عادتي ذهبت إلى مطار القاهرة قبل إقلاع الطائرة بأربعة ساعات، فتأخرت الرحلة نحو أكثر من الساعة وأنا أنتظر المغادرة إلى مدينة لست فيها عابرة ولا مقيمة، وربما لست أحدًا مهمًا بالنسبة للكثيرين.. من السخف أن أبادر بالحديث عن نفسي أمام سيل الأخبار عن هؤلاء الذين يقفون على خط النار بالقرب من عمان وحضورهم أقوى من شمس أغسطس.
اقتربنا من الدخول في الأجواء الأردنية، والأجواء السياسية في العالم كله "مكهربة"، أما الأجواء الطبيعية فكانت هي الأخرى شديدة الحرارة والسخونة والقلق، لولا مجموعة من الطُلاب الأردنيين العائدين إلى بيوتهم بعد إنتهاء الموسم الدراسي، حيث يدرسون في بعض الجامعات المصرية، هؤلاء الطُلاب صنعوا حالة من الطمأنينة بسخرية إبتكروها من كل شيء، حالة كانت كفيلة بأن تُنهي أي تشوش أو اضطراب وتجعل الهواجس مجرد غمامة صيف، لكنها ليست كذلك؛ فجمعينا مُعلق بسؤال الحرب والمستقبل، سؤال الساعة الذي لم ينج منه هؤلاء الطُلاب، السؤال المرتبط بمصائرهم وأحلامهم وأحلام أهاليهم الذين استثمروا فيهم "تحويشة العمر"، مالًا وجهدًا ورعاية، أليس مُلفتًا أن ينشغل بال الجيل الجديد بالسخرية من الحرب أو التلويح بها؟ ربما تكون هذه هي النتيجة الطبيعية في الوقت الذي يجري فيه محاصرته ليل نهار بكل ما يجعله يتهكم على الحياة، كما لو كان يقوم بحماية نفسه بالسخرية والنقد اللاذع والضحك والاستهزاء، إنها أسس نظامه الدفاعي في فضاء حافل بالمتناقضات والغرابة وضباب الحرب والسياسة.
ربما شيء قريب من تلك الأجواء الملتبسة بالسخرية في واقع صعب نعيشه، هو ما دفعني إلى التحول من متابعة القنوات الإخبارية ومشاهدة لوحات مختلفة من أولمبياد باريس، على الرغم من أنني لست من المعنيين بالألعاب الرياضية والتطلع إلى أخبارها، أقنعت نفسي قبل التوجه إلى مطار القاهرة بمعاينة دقائق قليلة بعيدًا عن أخبار السياسة المزعجة، دقائق قد تجعلني أشعر بأنه ثمة حياة أخرى أكثر إنضباطًا أو بالأحرى حيوية، ينتظم إيقاعها بسخاء الحركة، لكن الدقائق القليلة التي تصورتها كادت أن تتحول إلى ساعات وأوشكت أن تخنقني بحبال غليظة مُسيّسة ومؤدلجة، لم يفلت الأولمبياد ولم تتملص الرياضة من السياسة الوحشية، المُضّطربة والمُراوِغة، ثم اكتملت اللحظة التهكمية في أيامنا المتأججة هذه حتى الغليان، مع هؤلاء الشباب الصغار الذين يحاولون أن يرسموا حياة بمعطيات طيبة، بينما الشاشات تنقل لنا بسرعة البرق صورًا للخسائر البشرية، شهداء وقتلى، دم وأشلاء وأطفال جِياع.
كانت علاقتي مع الأردن من نوع تلك العلاقات الرومانسية التي لا تكتمل أبدًا، في كل مرة تأتيني دعوة أو تترتب زيارة إليها، فإنها لا تتم لأسباب مختلفة، عامة أو خاصة، اليوم زرت عاصمتها زيارة سريعة بدعوة من مؤسسة عبد الحميد شومان العريقة، الدؤوبة، المثابرة في التواصل مع المبدعين والكُتاب والفنانين العرب من كل صوب وحدب، إذًا وأخيرًا ذهبت هذه المرة من خلال لجنة السينما في المؤسسة للتفاعل مع الجمهور الأردني في حوار مفتوح عن السينما وأساطير نجومها، ولأهمية هذه المؤسسة الراسخة ولأن ما ربطني بالأردن كان دائمًا إتصال لم يكتمل، فقد تحمست لقبول الدعوة بفكرة مسبقة متسلطة على عقلي، فكرة أنني بعد يومين هما الفترة الزمنية للدعوة، سوف أُمدد زيارتي لنهاية الأسبوع على حسابي الخاص حتى أتنفس عمّان على راحتي، وهو ما لم يحدث بسبب وتيرة الأخبار السريعة والمشحونة بتوتر الأحداث في المنطقة العربية، ما يستلزم عودتي إلى القاهرة لظروف العمل.
سافرت مرارًا إلى أنحاء عدة في العالم شرقًا وغربًا، تعرفت إلى ألوان متباينة من الثقافة والبشر، إكتشفت طباعًا مختلفة وتعلمت أشياء كثيرة ومدهشة، مع ذلك تظل رحلتي الأولى لأي مكان هي ذات الأثر الأكثر تركيزًا، ربما لأنها تتوغل في عمق الذاكرة، ربما لأنها أولية بدون خبرة واقعية، هكذا دخلت عمّان بأفق واسع رسمته بقراءاتي ومشاهداتي وتصوراتي التخيلية، واجهات الفنادق الفخمة في عمّان لم تملك أدنى سطوة في عيني. تفحّصت المدينة من خلال نافذة السيارة التي أقلتني من مطار الملكة علياء.. معالم عمّان لم تشكل الهدف الأساسي لرحلتي، كان همّي المقدم أن أجد جوابًا شافيًا حول معضلة تحيّرني في حديث الجميع. معضلة تتمثل بكلمة واحدة: "وبعدين؟!". هكذا تحولت من تأمل المحطات السريعة التي حاولت رصدها إلى رصد تعابير الوجوه، الناس هنا تبدو ودودة وقوية، لكن الوقت لم يسعفني للتعرف أكثر، كما لم يمنحني فرصة التعرف على تفاصيل مدينة التلال والجبال السبعة: اللويبدة، عمَان، الحسين، النصر، التاج، القلعة، الجوفة.. فقط ظللت في جبل عمَان حيث الفندق الذي أقمت فيه، ومؤسسة عبد الحميد شومان مقر الندوة والحوار، والمطعم الذي تناولت فيه العشاء الأول والأخير، ثم عبرت إلى جبل اللوبيدة مع "تمارا" شقيقة صديقتي الفلسطينية "نضال"، وبعدها إلى بيت والدهما في منطقة الشميساني بالجزء الغربي من المدينة، وبالطبع مررت بوسط المدينة دقائق سريعة لشراء البن والزعتر، دون أن أمر بالمدرج الروماني أو قلعة عمّان أو غيرها من مناطق تاريخية شهيرة، ودون أي شك لم أتحرك خطوة خارجها سواء جرش أو البتراء أو البحر الميت أو وادي أرم، ولم أشهد نهر الأردن في هذه الزيارة الأولى، السريعة.
ندهتني عمّان هذه المرة لأعبرها مُهرولة بين المدينة العتيقة والمدينة المعاصرة، بين سينما الرينبو العريقة وصالات العرض داخل "المولات" التي لم أتسلل إليها لضيق الوقت، بين صوت فيروز يحاوطني في مقهى يحمل اسمها بجبل اللويبدة، بينما أتناول قهوتي مع "تمارا": )على جسر اللوّزيّة .. تحت وراق الفيّة(، ثم موسيقى الجاز في قلب الرينبو، فعلًا صدق نيتشة فإنه " لولا الموسيقى لكانت الحياة ضربًا من العبث"، أقولها لرفيقتي ونحن تقريبًا نركض في شارع الرينبو لنلحق بموعدنا، الشارع يختصر بتلاوينه وتعدد أوجهه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشهد الثقافي في الأردن، صوت فيروز يتسلل من زوايا كثيرة، أبحث معها عن شادي وأغوص في أغانيها الرومانسية، ثم أستفيق على صوتها يهزني: "وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية"، أو إحدى معزوفات الجاز تتسلل من مكان آخر، لكن لماذا فيروز وحدها هنا؟ أين أجاويد الأغنية التراثية الأردنية؟.. لعل سؤالي ليس مضبوطًا بينما أنا أركض في ليل العاصمة الأردنية بسرعة وليس لدي الوقت للتعرف عليها بتأني وروية وعمق، دون أحاسيس مسبقة وجاهزة، كي أفهمها بشكل أصدق وأصحّ.
عمّان التي في خاطري كانت مجموعة من حكايات الفلسطينيين والأردنيين، حكايات التاريخ من قبل النكبة بعصور وبعدها بسنوات تمتد حتى الآن، كانت في مخيلتي ما كتبه عنها عبد الرحمن منيف في "سيرَة مَدينَة"، حين وصف أحوالها في الأربعينيات، مستشفياتها، كتاتيبها، مدارسها، شتائها البارد وثلجه الأبيض، رائحة الحطب والفحم، أزياؤها، ألعابها، مثقفيها وناسها، أجواء الحرب العالميّة فيها والإذاعات الموجهة، معاناتها مع الأوبئة كالتيفود والكوليرا، ثم التفاصيل الحزينة للنكبة.. وصف عمّان بأنها "مثل المدن الأخرى في المنطقة تنام على آخر نشرة أخبار وتستيقظ على أول نشرة، لأنها تنتظر شيئًا لم يأتِ بعد"، وكتب عن تلال البرتقال اليافاوي التي كانت تصل من فلسطين وتتكوم في سوق الخضار، عن رائحته اللذيذة ولونه الأصفر الذهبي عن حضوره كفاكهة أساسية وربما وحيدة، كتب عن الميرمية والزعتر والصابون والكنافة واعتبرهم مرادفات للضفة الأخرى من النهر، عن رجال ملثمين يعيشون أغلب الوقت في البرية ينامون في المغاور وعند أواخر الليل ينتقلون من مكان إلى آخر لكي يحاربون الانجليز واليهود، عن كان فلسطين كموضوع "هو المقياس في الحكم على الأشخاص والموقف وأيضًا امتحانًا للقوة والخوف والضعف والتقدم وسلامة الاتجاه".
لا تزال هذه الصور مختزنة في ذاكرتي، وصحيح أن زيارتي إلى عمّان كانت سريعة وقصيرة، لكنها إنسجمت إلى حد كبير مع الخيال المُترع بالحكايات القديمة، وعلى الرغم من العجلة والاستعجال لم تكن مجرد غمامة صيف عابرة، بل ال "بَغْشَة" التي تُبشر بمزيد من المعرفة والتعارف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.