يضحك على نفسه من يعتبر أن تجمع 25 يناير فى الذكرى الأولى للثورة بميدان التحرير وميادين مصر كان مجرد احتفالية، فمئات الآلاف الذين تكدسوا فى التحرير والشوارع المؤدية له لم تجعلنا نستعيد أريج أيام الثورة ويوم التنحى فقط، وإنما أعادت الزخم الثورى لمراحله الأولى فاستردت أحلام الثوار حيويتها التى فقدتها فى خضم حوادث المرحلة الانتقاالية الثقيلة، وعاد الدفء إلى ميدان طالما اتهمه البعض خلال الأشهر السابقة بأنه مصدر شقاء المجتمع وسبب العجز الأمنى وتردى الأداء الاقتصادى للحكومات الانتقالية. بينما يرى كل منصف أن سبب التسيب الأمنى هو تلك الأجهزة الأمنية الموروثة عن النظام السابق والتى ترفض أن تكون طرفاً فى بناء جمهورية جديدة، وتنفرج أساريرها كلما وقعت كارثة أمنية لتقول: هذا ما جاءت به ثورتكم. كما أن التردى الاقتصادى ليس سوى نتيجة لأوضاع اقتصادية متدنية وفساد استفحل فى أحضان النظام السابق ولايزال يمسك بمفاصل الدولة، ولم يجرؤ أحد، عدا الثوّار، على أن يطالب باستئصاله. كما أن التراجع الاقتصادى هو انعكاس لأداء باهت للحكومات الانتقالية المتعاقبة التى لم تخرج من جلباب النظام المخلوع ولم يتفتق ذهنها سوى عن إعطاء مسكنات وطباعة مزيد من أوراق النقد ثم البحث عن مساعدات الدول الأخرى أو قروض المؤسسات المالية البنكية ليرهنوا مستقبلنا بعد فشلهم فى إدارة الحاضر. والغريب أن تتنافس كل مؤسسات الدولة وبعض القوى السياسية لإفقاد هذا الشعب ما تبقى له من عزة وكرامة بالترويج لاقتصاد الصدقات القائم على مد اليد للغير وليس الاعتماد على القدرات الذاتية وتنمية الموارد المتاحة؛ وفى ذات الوقت إغماض العين عن أجندات الدول المانحة أو المتصدقة، وكأنها دول مثالية وملائكية تريد فقط مساعدتنا على تطوير اقتصادياتنا أو مساندة مسيرة تحولنا الديمقراطى. ولست أدرى متى ساهم أولئك فى نهضة لنا أو فى بناء نظام حكم ديمقراطى مستقل فى بلداننا. عادت صيحات التحرير الأولى لتطالب بجوهر ما يحتاجه هذا الشعب الذى لم يختلف على هوية ولم يتقاتل على مذهب؛ فارتفعت هتافات التحرير «عيش حرية عدالة اجتماعية»، وكل الهتافات كانت متفرعة عن تلك الحقائق الكبرى؛ فالمطالب بتقصير الفترة الانتقالية والتحول السريع لحكم مدنى هو نتيجة لقلق الناس على حريتهم التى انتزعوها انتزاعا؛ والمناداة بمحاكمة رموز الفساد هو استمساك بالحقوق التى ضاعت وتصميم على استرداد الأموال التى نُهبت وهربت؛ والهتاف للتوافق والتماسك «إيد واحدة» دعوة لاستعادة روح الجماعة بتكافلها وبدستور يضمن تكافؤ الفرص ولا يحابى أشخاصاً أو جماعات أو طبقات وإنما يعكس آمال وطموحات الشعب بكامله. عاد التحرير يُعلن عن نفسه مصدراً لمنح المشروعية لكل مؤسسة نسعى لتكوينها انتخاباً أو تعييناً، بعد أن حاولت أبواق الاستبداد أن تروج أن شرعية الميدان انتهت، وأن شرعيات أخرى ابتدأت، غافلين عن حقيقة أن كل ما نبنيه وما نجنيه هو بفضل الميدان وشهدائه ومصابيه، فدماؤهم وهبتنا الحياة، وعيونهم وهبتنا الإبصار وجروحهم وهبتنا أمل التحرر من كل ظلم، وخوفهم هو ثمن أمننا واطمئنان كل منا أن أحدا لن يزوره فجراً ويعتقله غدراً ولن يعذبه فُجر ولن يغتالوا حريته أو كرامته بوقاحة. وعاد الثور يحتشدون ما بين مأذنة عمر مكرم وجدران متحف القاهرة يبشرون باستمرار ثورتنا حتى تحقق أهدافها، فهى لا تتراجع لأن إعلاما طائعا خانعا يتهمها بأنها سبب كل أزمة ومصدر كل بلوى، ولا تموت لمجرد أن بعضا رغب لها أن تخبو جذوتها، ثورة كثورة الشعب المصرى لا تهدأ حتى تبلغ أهدافها كاملة غير منقوصة. رسالة هائلة تلك التى أرسلها الثوار لكل من لا يؤمن بالثورة ومن يعتقد أنها احتجاجات يمكن له احتواءها واستعادة النظام القديم بكل عفونته وجفائه وتعاليه على الناس وتجاهله لحقوقهم واحتقاره لأفهامهم. رسالة لأولئك الذى يرفضون التوافق مع بقية المجتمع لوضع أسس الدولة العادلة التى ينشدها الجميع، ويعتقدون أنهم وحدهم قادرون على القيام بالمهمة لأنهم لا يرون إلا أنفسهم ولا يعتقدون إلا بصواب رأيهم. ورسالة لأولئك الذين اعتقدوا أن تشويها لنتائج الاستفتاء الدستورى يمكنه أن يضمن لهم الهيمنة على الدولة والالتفاف على ثورة الشعب والعودة لتأسيس جمهورية من الاستبداد تُهدر فيها الحريات وتضيع فيها الحقوق. رسالة لأولئك الذين اعتقدوا أن الثورة منحتهم الحق فى إلغاء فصيل من الشعب أو إقصائه أو التنكر لثقافة الشعب أو التلاعب بأهداف ثورته، رسالة للمحاكمات الصورية والتحقيقات الروتينية رسالة لأولئك الذين استعملوا فزاعة الأمن والاقتصاد ليلعن الشعب ثواره ويكفر بثورته ويستدعى النظام السابق ويندم على يوم إسقاطه، ورسالة لأولئك الذى يصدعون رؤسنا بحديثهم الممل عن حدود الحرية وقيودها. وأخيراً رسالة توجهت مباشرة إلى أروقة مجلس الشعب القابع بمبانيه العتيقة على بعد خطوات من ميدان الثورة، لتقرع أسماع نواب الأمة بأن الشعب ينتظر منهم تحقيق أهداف ثورته دون تأجيل أو تبرير أو مساومة.. فطوبى لمن سمع فوعى.