"لا أطمع فى شىء.. لا أخاف من شىء.. أنا حر.." أعترف بأن أغلب الشعراء الذين أوقعنى حظى العاثر فى طريقهم طوال العشرين سنة الماضية لم يكونوا من جنس البشر، بل يمكن إدراجهم بسهولة حسب صفاتهم البادية للعيان ضمن الوحوش الضارية. سأضرب مثلا لا من باب النميمة ولكن لأدعكم تحكمون بأنفسكم، ثمة شاعر مريض عولج لسنوات طويلة ثم شفاه الله وعافاه، قرأ حوارًا لشاعر آخر يعانى شفاه الله من بعض المتاعب الصحية، نظر المريض السابق لأحدهم ثم قال: الحوار غير مفهوم.. هل هذه تخاريف ما قبل الموت..؟!!. ولكم أن تتخيلوا الأمر: شاعر يجهر بالشماتة إلى هذا الحد لأن شاعرًا مريضًا يختلف معه فى بعض وجهات النظر الشعرية..!. سأكتفى بهذا المثال ولن أتوسع حتى لا يلتبس الأمر على كثيرين، يظنون أنهم من أنبياء الله المرسلين، وهم لا يدركون مدى قبحهم ورداءتهم الإنسانية. أعرف أن هناك فى المقابل شعراء، فيهم من روح الله، لم يكونوا فى حاجة ليكتبوا بيتا شعريا واحدا لكى يحملوا لقب "الشاعر"، إنهم الشعراء الذين يضيفون إلى رصيد الإنسانية، يغذونه بحضورهم، ويضخون بقصائدهم فى شرايين الحياة الدماء الجديدة المتجددة، أما أولئك "الشبيحة" فإنهم يسحبون من هذا الرصيد، وكلما قطعوا خطوة باتجاه طموحاتهم البائسة ازدادوا جوعا، وشعروا بأن زجاج أرواحهم المشروخ يفضحهم، لقد سكبوا نورهم تحت أقدام كثيرة ثقيلة داهسة، ركبهم الفقر وكان المفترض أن يركبوه، فوجدوا فى الشعر مطيةً للترقى الطبقى والوجاهة الاجتماعية، وبمهارة الصنايعية البلهاء بدءوا فى كتابة ما يشبه الشعر، وأصدروا ما يشبه الدواوين، وماتوا بغيظهم لأن الحياة تنساهم بمجرد أن يكفوا عن الضجيج.. لم يتعلموا الدرس ولا أظنهم سيتعلمونه، لقد أتعبوا سعاة بريد العالم، ولم يعلموا أن الصدق لا يحتاج إلى ساعى بريد..!. إنهم بيد أطماعهم وطموحاتهم وخوفهم وسعارهم المحموم، وشراهتهم فى الالتهام، ولا أظن أحدا منهم سيحاكى كزانتزاكس وينحت على قبره العبارات العميقة الوقع، كأنها ركلات على مؤخرة الحياة. تلك هي العبارات التى قالها الهندى فى حكايته الشعبية، حين اندفع قاربه باتجاه الشلال الصخرى، وبعد أن استنفد طاقته فى مقاومة التيار ترك مجدافيه وبدأ يغنى مرددًا..: "آه.. فلتكن هذه الأغنية حياتى.. أنا لا أطمع فى شىء.. ولا أخاف من شىء.. أنا حر..". أما أنا فمن حين لآخر أمسح الغبار عن روحى، فتطمئن نفسى.. لأننى حر.. حر.. وكلما نهشتنى الكلاب.. أكلتْ الأجزاء القاسية فى قلبى..