أشعر بالفخر بانتمائى إلى مؤسسة الأزهر الشريف، والتى لها الفضل على مدى أكثر من ألف عام فى حماية الوطن والمواطنين من حملات الغزو الاستعمارى التى تتابعت علينا قديما وحديثا، وحماية اللغة والدين من موجات الغزو الفكرى والثقافى التى تفد إلينا من الغزاة والمستعمرين. ومازال الأزهر هو الملاذ الآمن الذى يلجأ إليه المواطنون فى أوقات المحن والخطوب، ومازال الأزهر هو بيت الخبرة والمشورة فى النواحى الدينية والسياسية بلا منازع. ويرجع الفضل فى بقاء الأزهر وصموده فى أداء رسالته إلى نفر من علمائه الصابرين المخلصين الذين مازالوا يزودون عن حياضه، ويؤدون دوراً غير منكور فى تبصير الناس بأمور دينهم ودنيهم، ومن هؤلاء العلماء فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف الذى يعمل دائما على الوحدة والترابط، والتجميع لا التفريق، والدعوة إلى الحوار والتفاهم، وآخرها وثيقة الأزهر التى دعا إليها الطيب مؤخرا. من خلال قراءتى لوثيقة الأزهر الشريف المعنونة ب"مستقبل مصر" رأيت أننا أمام عودة رائعة للأزهر الشريف لموقعه التاريخى كقبلة الإسلام المستنير، وقبلة لكل المصريين على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم. تدعو وثيقة الأزهر إلى دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التى تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامى الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التى تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية. وثيقة الأزهر تقرر بلغة عصرية اعتماد النظام الديمقراطى، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذى هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمى للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلى الشعب، وتوخى منافع الناس ومصالحهم العامة فى جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون – والقانون وحده- وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها، والالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسئولية فى المجتمع. وثيقة الأزهر تأتى نابعة من منهج الإسلام الوسطى الذى يدعو إلى الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة فى حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليهما فى التعامل بين فئات الشعب المختلفة، دون أية تفرقة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين. عودة الأزهر الشريف ومكانته واستعادة دوره المستنير سيستكملان بالانتصار لاستقلالية المؤسسة الدينية الأهم فى العالم الإسلامى، وتحريرها من قيود التبعية للدولة ولسلطة الحكم إلى دوره المنشود.