الأغانى والأهازيج والشعارات التى تغنت بها جماهير الشعب فى مظاهراتها الحاشدة فى شوارع وميادين القاهرة وباقى مدن الجمهورية الكبرى فى ثورة 25 يناير مطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومعبرة عن الإباء ورفض الخضوع لربقة الفساد ووطأة الاستبداد الذى طغى وبغى وحاصر الناس حتى سدّ أمامهم منافذ الأرض والسماء فرفضوا دوامة وأنكروا استمراره بعد أن ثقلت عليهم وطأته تحت دعاوى الاستقرار لدرجة الجمود الذى أشرف بهم على الموت.. هذه الشعارات الملتهبة حماسة وصدقا وعشقا لمصر انطلقت بها حناجر الجماهير التى فقدت كل أمل فى سدنة الحزب المتحكم المتحجرين على مقاعدهم من الساسة المتورمين والحكماء المتحذلقين.. هذه الشعارات والأغانى والأهازيج التى ترنم بها الناس هى من الأدب الشعبى، الذى يمثل إبداعه دليلا قاطعا على أن الشعب قد وجد نفسه واتصل بجذوره واهتدى إلى سريرته فى لحظة من لحظات النشوة الوطنية. لقد انطلقت صرخات المواطن المصرى وأغانيه وشعاراته من مُركّب التراث الكامن فى أعماقه، ومن موقع الوطن بتياراته المتعددة، وكان ذلك فى حقبة تمثل فى حياة مصر العزيزة أشباها من عصر الإحياء الأوربى، فاتجه نظر الناس إلى المجد المصرى القديم واشتعلت فيهم الرغبة فى بعث هذا المجد الضائع رغم أنف زمن الهوان، والتهبت الروح الوطنية مزهوة بمعنى المصرية التى جسدت كيانهم العظيم، وحددت ملامحها الصادقة التى غاب عنا أكثرها فى رحلة القهر الطويلة حتى طمست معالمها على مدى أكثر من نصف قرن. هكذا كانت أغانى وشعارات الرجال والنساء فى ميدان التحرير وفى غيره قمة المهارة فى تحريك الحساسية الفنية والرقة الموسيقية، وكانت أيضا بكل تأكيد بمثابة البصمات الشخصية لروح المكان.. وبين الحين والحين كان يرتفع صوت فتاة مصرية يشق الفضاء صراخها بلوعة ذبيحة قائلة: "آه يا مصر" فتشتعل جذوة الوطنية فى النفوس التى نفضت عنها أكفان الموتى وعرفت طريقها للحياة الحرة الكريمة. لقد كان طبيعيا أن يلجأ الناس إلى الأدب الشعبى فى أغانيهم وشعاراتهم فى مظاهراتهم العديدة وأشهرها فى ميدان التحرير مركز القلب لثورة يناير المجيدة، وذلك لأسباب منها: أولا: وجود قضايا سياسية وضعها المجتمع المصرى كله فى صدر أولوياته واهتمامه وهى قضايا الحرية وضرب الفساد وتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية.. وهذه القضايا التى اتفق عليها أبناء الشعب جميعا على اختلاف انتماءاتهم ورؤاهم قد اقتضت من نخبة المتظاهرين مخاطبة الجماهير من أقصر سبيل، وطرح القضايا والأفكار بالرمز والإشارة واللمحة الدالة التى تعبر عن مقصد عام اتفقت عليه الجماهير، وهو: الشعب يريد إسقاط النظام. ثانيا: إن الأغانى والأناشيد والمأثورات الشعبية الدالة هى وسيلة الاتصال الجماهيرى الوحيدة الأوسع انتشارا لاتصالها بوجدان الناس، لاستحالة الوسائل البديلة أمام الجماهير مثل الإذاعة والتليفزيون أو حتى الفيس بوك، فكان التعبير الشعبى بالأدوات الشعبية الموروثة . ثالثا: لقد خرجت الجماهير إلى الشوارع بعد أن عجزت الأحزاب السياسية القائمة جميعا عن اجتذاب الأشياع والمؤيدين أو تحقيق تأثير ملموس فى الشارع السياسى إما بسبب قصور فى برامجها وقياداتها أو نتيجة نقص فى قدراتها ومشروعاتها، أو محصلة الحصار الدكتاتورى الخانق لها، فلم تجد الجماهير بديلا عن رفع أصواتها بالرفض والسخرية وفضح العوار وسدنته بالوسائل الشعبية. رابعا: استندت أغانى المتظاهرين وأناشيدهم وأهازيجهم وشعاراتهم إلى عبقرية وجماليات الأدب الشعبى فى فصاحته وبلاغته وموسيقاه ورمزه المُوحى، مما جذب إليها الجماهير فرددتها فى بساطة وسهولة، خاصة وأن الثقافة المصرية بعامة تتكئ فى جانب كبير منها على الأغانى والأمثال والأزجال ذات الإيقاع الظاهر والأداء الجماهيرى المشترك. خامسا: حاجة الجماهير إلى التعبير عن آمالها وآلامها بغير الطريق السقيم الذى دأبت عليه أجهزة الإعلام الرسمى وتردده خطابات وتصريحات السياسيين المرفوضين جماهيريا، فاختار الشعب لغته النابعة من تراثه، وأغانيه وأهازيجه التى يطرب لها، وهى بكل تأكيد مختلفة عن أهازيج أبواق الحزب المتحكم فيهم. سادسا: رغبة الشعب فى أن يعلن على الملأ صوته المسموع فى كل القضايا، وليؤكد للدنيا جميعا أن صوته العالى مختلف تماما عن أصوات الموتى فى كل الانتخابات المزورة التى تسلط فيها أزلام الحزب المتحكم وسدنته على رقاب العباد والبلاد لسنوات طويلة، فاختار الشعب نبرة صوته المميزة وإيقاعه الخاص بعد أن اختار لغته الشعبية المميزة. هكذا عبرت مظاهرات الشعب بلغة الشعب وأدواته الفنية، وهى الأبقى والأقوى، وهى المنتصرة دائما ولو كره الكارهون * المتحدث باسم اللجنة القومية للدفاع عن الجامعة المصرية.