حبات لونها أحمر مغلفة بغطاء شفاف، تبدو لمن يراها كحلوى الأطفال، تفوح من بين مسامها رائحة الفواكه الطازجة، من يشم رحيقها تهفو نفسه للمسها بأطراف لسانه، ويغمض عينيه ويتخيل أن لعابه يسيل من لذتها، لكن حقيقة هذه الحبات تصدمه، تهز أكتافه من منبتها ليفيق، فما هى إلا دواء مهدئ يكتبه الطبيب لأشخاص عصبيين. رامى يتناول هذه المهدئات باستمرار حتى أدمنها، لا يستطيع الذهاب لعمله صباحا بدونها حتى يستوعب غلظة رئيسه، كلما رأيت رامى رفيقى فى المكتب المجاور تنتابنى نوبة ضحك متواصل، لا أتمالك نفسى منها فعيناه معلقتان بسقف الحجرة لا ينظران إلا فى الفراغ المحدود تبرز منهما نظرة لامبالاة تدفعك إلى التساؤل: ماذا يريد رامى من تلك النظرات.. أو من السقف؟ حاولت أن أحثه على التواصل مع زملاء العمل، لكنه كان يفضل الانطواء لا تستفزه صيحات المدير العاتية.. لم يؤثر فيه أى نوع من الشتائم الجارحة، كان يبتسم ابتسامته البلهاء، ويجرجر ذيول قدميه وخيبته بلا شغف ولا خجل، ذات يوم تغيب رامى عن عمله، وهذه ليست عادته. تصورنا أنه متكاسل أو ربما مريض.. سألت زملائى فى العمل عن رقم هاتفه اكتشفت أن لا أحد يعرف رقم هاتف رامى، لا أحد يعرف أين يسكن! تكررت غيبته عدة أيام متواصلة فى اليوم الذى ذهبت إلى أرشيف الموظفين بحثا وراء معلومات ترشدنى عن عنوانه أو رقم تليفونه وجدته مغلقا، وشعرت أن أمرا مريبا يحدث فى الشركة، فكثير من الموظفين قد تغيبوا اليوم، جزء منهم أخذها إجازة عارضة، وجزء آخر اتصل هاتفيا لأنه مريض، لم يتبق إلا عدد قليل من الموظفين ما لبثوا أن انسحبوا إلى منازلهم، نظرت فى ساعتى كانت العقارب تشير إلى الثانية عشرة ظهرا.. الجميع فى الشارع لا يتحدث إلا عن ميدان التحرير.. وما يفعله الشباب فى ميدان التحرير.. تذكرت أن اليوم هو الخامس والعشرون من يناير يوم الدعوة الكبرى على الفيس بوك للتظاهر والاعتصام كم أكره الفيس بوك.. أعتبره شيئا تافها لا يستخدمه سوى شباب بلا هوية.. لا يوجد ما يشغلهم إلا الدردشة المملة عبر الإنترنت. حملتنى قدمى بدون وعى وتخطيط إلى ميدان التحرير وجدته ساحة معركة حربية فالمدرعات وعربات الأمن المركزى تحاصر مئات الشباب العزل من السلاح وتصوب بنادقهم إلى صدورهم.. نظرت فى عيون هؤلاء الشباب، تطايرت نظراتهم الحماسية المشرقة بالأمل تدفعنى للتساؤل هل هؤلاء هم شباب الفيس بوك التافهون عديمو الخبرة.. شعرت بالخوف مع أول صرخة ضابط بجوار أذنى ينهرنى لكى أرحل وأعود للبيت وإلا... وجدت نفسى أفعل كما فعل رامى من قبل واقتنعت بنظريته فى الحياة (من خاف سلم) وعندما عدت إلى بيتى أدرت جهاز التليفزيون.. رأيتهم يحملقون فىّ، يوجهون كلماتهم إلىّ.. «مش هنسلم مش هنطاطى إحنا كرهنا الصوت الواطى» تسللت صيحاتهم إلى عروقى فانكمشت من إحساسى بالخزى، لأننى لم أستمر إلى جوارهم، ساعات وتحول ميدان التحرير إلى ساحة قتال، غازات مسيلة للدموع، وطلقات رصاص، وخراطيم مياه لتفريق من قرر التماسك حتى النهاية، ابتسمت ابتسامتى الخبيثة واطمأننت لقرارى بالانسحاب فى الوقت المناسب، أيام مرت والثورة تزداد اشتعالا حتى رأيت صورته تعلو الصدور ترفعها الأيدى تدعو للثأر من القتلة.. تصفه بالبطولة، أعرفه جيدا.. إنه رامى.. اختار طريقه ولم يتراجع.. قرر أن يتحرر من عبوديته، علمت بعدها من حكايات وسائل الإعلام عن الشهيد رامى أنه من أوائل الذين خرجوا لميدان التحرير.. كان أول المخططين الذين أقنعوا الشباب عبر الفيس بوك بأهمية أن يقولوا «لا» للظلم.. صرخته تجاوزت جدران الشركة التى عمل بها، وقتها أدركت أننى لم أعرف رامى فى يوم من الأيام، قرأت له الفاتحة، وخرجت كملايين المصريين لنقول لا لمن ظلمونا وتباهيت بأننى كنت أحد أصدقاء الشهيد رامى.